La mort de l'homme seul sur terre
موت الرجل الوحيد على الأرض
Genres
وسمعت الصوت الغاضب: الطفل معك يا فتحية، وأنت تكذبين!
ردت بفزع: لا، ليس معي!
حاولت أن تجري مسرعة، لكن إحدى الأيادي امتدت إليها وشدت عنها الطرحة السوداء، فظهر الطفل فوق صدرها قابضا بفمه وأسنانه على ثديها.
صرخت فتحية في هلع: إنه ابني! لا تأخذوه!
رد الصوت الغاضب: إنه ابن حرام يا فتحية، ونحن قوم لا نحب الحرام!
وامتدت اليد الخشنة القوية تنزع منها الطفل، لكن فتحية أصبحت هي والطفل جسدا واحدا. تكاثرت الأيادي الخشنة تحاول أن تفصل الطفل عن ثديها، لكنها لم تستطع، أصبح الطفل وثديها جزءا واحدا.
تحول المشهد فوق جسر النيل إلى عراك غريب. كان قرص الشمس قد اختفى تماما في بطن الأرض ناحية الغرب من وراء رءوس الأشجار خلف النيل، وهبطت الظلمة فوق بيوت كفر الطين السوداء ثقيلة كأنفاس أخيرة، وأصبح الرجال المتجمعون فوق الجسر كأشباح الليل خرجت من قاع النيل، وجسد فتحية الأبيض العاري بعد أن مزقوا جلبابها عن آخره أشبه ما يكون بجسد جنية النيل التي تخرج من الماء في منتصف الليل. وجهها أبيض شاحب وعيناها واسعتان مملوءتان بإصرار أشبه بالجنون، أو جنون أشبه بالإصرار، وجسدها رغم نعومته واستدارته الأنثوية أصبح كجسد جنيات الليل، قويا رهيبا ومجنونا، تضرب الرجال بقدميها وركبتيها وفخذيها وكتفيها على حين تظل ذراعاها ملفوفتين حول ثديها حيث يرقد الطفل.
تزاحمت على جسدها الأيدي الخشنة ذات الأصابع الغليظة، حفر عليها مقبض الفأس، والأظافر الطويلة السوداء كحوافر الجاموس والبقر نشبت في ثديها، تمزق اللحم عن اللحم، وعيون ذكور تلمع بشرر الحرمان والجوع تلتهم الثدي الناعم الأبيض ... من يراهم من فوق الجسر يظن أنهم جمع من الرجال التفوا حول صحن كبير من اللحم، وكل منهم يحاول أن يلتهم نصيبه قبل أن يلتهمه الآخر. الأيادي تتحرك بسرعة، والعيون تلمع بنهم، وجسد فتحية أصبح ممزقا تنزف منه الدماء الحمراء الساخنة، أما جسد الطفل فقد تناثر في الجو كذرات من الرماد الناعم.
على أن الجسر أصبح بعد قليل كما كان يصبح كل ليلة، جزءا من الظلمة الساكنة الجاثمة فوق النيل، وفوق شريط الحقوق الممتد بامتداد النيل، وفوق البيوت الطينية السوداء، والأزقة المتعرجة بأكوام السباخ. وأصبح رجال كفر الطين داخل بيوتهم، راقدين فوق الأرض بجوار بهائمهم وزوجاتهم كالجثث الهامدة، إلا رجلا واحدا هو الشيخ حمزاوي، لم يرقد ولم يغمض له جفن؛ ظل ملتصقا أذنه بالجدار حتى انقطعت الأصوات ودب الصمت فوق القرية ثقيلا مخيفا كما يدب الموت؛ فدفع الشيخ حمزاوي بابه الخشبي برفق حتى لا يحدث الصرير المعهود، وسار بخطواته البطيئة وعصاه تسبق قدميه تكتشف الطريق، وتلقى من حين إلى حين قطعة طوب أو زلط، أو أرنبا أو جروا ميتا.
وارتطمت عصا الشيخ حمزاوي بشيء أدرك أنه ليس جروا ميتا ولا أرنبا، وإنما هو جسد لا يزال حيا، ولا تزال دماؤه ساخنة؛ توقف الشيخ كالشبح فوق الجسر، لا شيء فيه يتحرك، حتى السبحة الصفراء كفت عن الحركة بين أصابعه، وعيناه أصبحتا جامدتين ثابتتين فوق جسد زوجته العاري الممدود فوق الجسر.
Page inconnue