La mort de l'homme seul sur terre
موت الرجل الوحيد على الأرض
Genres
منذ طفولتها وهي تشعر بخوف من منظر ذلك الباب ذي الأعمدة الحديدية الضخمة. تسمع الناس من حولها يشيرون إليه دون أن يقتربوا منه، وأصواتهم العالية تتحول إلى همس حين يمرون من جواره، وعيونهم المرفوعة الغاضبة والقاسية أحيانا تتحول إلى عيون منكسرة بغير غضب وبغير قسوة، وتمتلئ أحيانا بالرضا أو الاستسلام بل بالخضوع والخوف.
بعد أن تعلمت المشي وأصبحت تمشي وراء الحمارة أو تسحب الجاموسة إلى الحقل أو تحمل الزلعة لتملأها من النيل، كانت تتفادى دائما المرور من أمام ذلك الباب، وتلف من وراء البيوت الطينية لتصل إلى الجسر من الناحية الأخرى. كانت قد أدركت أن هذا الباب الحديدي لا يقود إلا إلى البيت الكبير الضخم، لكن إحساسها الأول ظل يوحي إليها من حيث لا تدري أن وراء هذه الأعمدة الحديدية ماردا ضخما أو عفريتا من العفاريت يسير على عشرين ساقا حديدية طويلة تتحرك نحوها لتسحقها.
بعد أن كبرت أكثر، لم تعد تلف من وراء البيوت الطينية، وأصبحت تمر من أمام الباب الحديدي، مدركة أن البيت لا يسكنه عفاريت، وإنما العمدة وزوجته وأولاده. لكن جسدها كان، كلما مرت من أمام الباب أو سمعت أحدا يقول «العمدة»، ينتفض انتفاضة تحس بها قوية، ثم أصبحت من بعد أن كبرت غير محسوسة وإن ظلت موجودة.
لم تنم تلك الليلة حين جاءها أبوها وأمرها أن تذهب إلى بيت العمدة في الصباح. لم تكن بلغت الثانية عشرة بعد، وظلت طول الليل تتخيل شكل حجرات بيت العمدة، والحمام الأبيض البلور الذي يستحم فيه العمدة باللبن، كما سمعت من بعض أطفال الجيران، وزوجة العمدة ذات الوجه الأبيض كالبلور والساقين العاريتين حتى منتصف الفخذين كما سمعت من أمها، وابن العمدة الذي له حجرة خاصة مليئة بالمسدسات والبنادق والطيارات التي تطير بحق وحقيق، والعمدة نفسه الذي كانت تجري وتختبئ في البيت كلما رأته سائرا بين الرجال ومن فوق جسده عباءة كبيرة.
في الصباح الباكر قبل أن يظهر أول خطوط الشفق الأحمر، كانت قد نهضت وغسلت شعرها ودعكت كعبيها بالحجر وارتدت الجلباب المغسول والطرحة السوداء في انتظار الشيخ زهران الذي سيأتي ليأخذها إلى بيت العمدة؛ لكن ما إن وصل الشيخ زهران حتى اختفت فوق الفرن، وراحت تبكي وتصرخ وترفض الذهاب. سمعت صوت شيخ الخفر يقول: عمدتنا رجل كريم وزوجته ابنة أصل، وسوف تأخذين في اليوم الواحد عشرين قرشا. أترفضين يا عبيطة كل هذا الخير، أم أنكم تفضلون الفقر والجوع مع الكسل؟
قالت وهي لا تزال مختبئة فوق الفرن تبكي: أنا أعمل هنا في دار أبي يا عم زهران، وأشتغل في الحقل طول النهار. لست كسلانة، ولكنني لا أريد الذهاب إلى هذا البيت.
تركها شيخ الخفر قائلا لأبيها: أنتم أحرار، ليس لكم نصيب في الخير. ألف واحدة في الكفر تتمنى أن تخدم في بيت العمدة، ولكنه اختار ابنتك يا كفراوي؛ لأنه يقول إنك رجل طيب وأمين وأهل ثقة. ماذا يقول العمدة الآن إذا قلت له إنكم رفضتم؟
وقال كفراوي: أنا موافق يا شيخ زهران، ولكن البنت رافضة كما ترى.
ورد شيخ الخفر بحدة: وهل كلام البنت هو الذي يمشي هنا في بيتك يا كفراوي؟
وقال كفراوي: كلامي أنا الذي يمشي يا شيخ زهران، ولكن ماذا أفعل؟
Page inconnue