ثمن الكتابة
موت معالي الوزير سابقا
الجريمة العظمى
رسالة حب عصرية
القناع
اعتراف رجولي
رسالة خاصة إلى صديق فنان
الجلسة السرية
ثمن الكتابة
موت معالي الوزير سابقا
الجريمة العظمى
رسالة حب عصرية
القناع
اعتراف رجولي
رسالة خاصة إلى صديق فنان
الجلسة السرية
موت معالي الوزير سابقا
موت معالي الوزير سابقا
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة ، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد؛ لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
موت معالي الوزير سابقا
ضعي يدك على رأسي يا أمي، وربتي برقتك على شعري وعنقي وصدري كما كنت تفعلين معي وأنا طفل، فأنت الوحيدة الباقية لي، ووجهك هو الوحيد من وجوه العالم الذي أراه أو أريد أن أراه في هذه اللحظات الأخيرة، وكم كنت أود أن تعاتبيني يا أمي؛ لأني لم أرك منذ خمس سنوات، ولكني لم أنشغل عنك أنت فحسب، فقد انشغلت عن العالم كله حتى نفسي، حتى بيتي وزوجتي وأصدقائي، حتى لعبة الجولف - التي كنت أهواها - لم أمارسها طوال هذه السنوات الخمس مرة واحدة، حتى ابنتي الوحيدة الصغيرة التي كنت أحبها لم أكن أراها، حتى وجهي يا أمي، وجهي لم أكن أراه، وكنت وأنا مسرع إلى الخارج ألقي نظرة سريعة في المرآة؛ لا لأرى وجهي وإنما لأحكم ربطة العنق حول عنقي، أو لأتأكد من أن لون الثوب لا يتعارض مع لون الربطة، بل إنني حتى وإن نظرت إلى وجهي في المرآة فأنا لا أراه، وإذا نظرت إلى وجوه الناس في المكتب أو في الشارع من خلال زجاج سيارتي فأنا لا أراهم، وإذا حدثوني فأنا لا أسمعهم وإن تكلموا بصوت عال، بل إن أعلى بوق في أي سيارة ما كنت لأسمعه وإن كان خلفي مباشرة، وكم مرة كانت تدهمني سيارة حتى كففت عن السير على قدمي.
كنت - يا أمي - كالذي لا يرى ولا يسمع ولا يعيش في هذا العالم. في أي عالم كنت أعيش، وهل هناك عالم آخر غير عالم الناس يمكن للإنسان أن يعيش فيه دون أن يكون قد توفاه الله؟ وكنت أدرك - يا أمي - أن الله لم يتوفني بعد بدليل أنني لم أقرأ نعيي في صفحة الوفيات، ولا يمكن لرجل في مثل منصبي أن يموت هكذا دون أن ينشر نعيه كبيرا بارزا في الصحف، وأن تنظم له جنازة كبيرة يمشي فيها كبار رجال الدولة يتوسطهم رئيس الدولة. مشهد كان يهزني - يا أمي - إلى حد أنني كنت أتمنى، وأنا أمشي في مثل هذه الجنازات المهيبة، أن أكون أنا الذي داخل الصندوق، وحيث إنني لا أتذكر أنني كنت دائما سائرا على قدمي خلفه؛ فأنا إذن كنت أعيش، لكني لم أكن أعيش في هذا العالم الذي تعيشون فيه، ولم يكن يشغلني ما يشغلكم، وإنما كنت مشغولا بما هو أهم، وكان انشغالي بغير حدود، بأكثر مما يستطيع جسدي وعقلي تحمله، وفي بعض الأحيان كان جسدي يرهق حتى يكف عن الحركة، لكن عقلي يظل يشتغل، وفي أحيان أخرى كان عقلي يرهق حتى يكف عن التفكير لكن جسدي يظل يتحرك ويروح ويجيء؛ فيذهب إلى المكتب ويحضر الاجتماعات، ويرأس المؤتمرات، ويستقبل الضيوف الرسميين في المطارات، ويحضر الاحتفالات، وقد يسافر إلى الخارج أيضا في مهمة رسمية. وكنت - يا أمي - حين أرى جسدي وهو يتحرك وحده هكذا بغير عقلي أدهش، بل أخاف، خاصة إذا كنت أجلس في اجتماع هام يقتضي مني التركيز والانتباه. وكان الاجتماع الهام الوحيد هو الاجتماع الذي أصبح فيه مرءوسا، وكنت أكره - منذ أصبحت موظفا في الحكومة - أن أكون مرءوسا، وتعودت أن أكتم كراهيتي أمام رؤسائي ولا أنفس عنها إلا في مكتبي مع المرءوسين، أو في بيتي مع زوجتي كما كنت أرى أبي يفعل مع أمي. دائما كنت أعجز عن التنفيس عن كراهيتي أمام رئيسي حتى وإن كان موظفا عاديا كرئيس قسم أو مدير إدارة، فما بال الأمر حين يكون رئيسي ليس موظفا مثل أي موظف في الدولة ، وإنما هو رئيس الدولة كلها. ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، كنت أجلس أمامه في مقعدي بجسدي وعقلي، مشدودا منتبه الحواس شديد اليقظة، أخشى أن يسألني فجأة سؤالا لا أعرف إجابته، وإذا عرفت الإجابة فأخشى ألا تكون هي الإجابة الصحيحة، وإذا كانت هي الإجابة الصحيحة فأخشى ألا تكون هي الإجابة المطلوبة.
ماذا تقولين يا حبيبتي؟ نعم يا أمي، هذه هي ألف باء السياسة نتعلمها في أول درس؛ فالإجابة الصحيحة ليست هي دائما الإجابة المطلوبة، لكن الإجابة المطلوبة هي دائما الإجابة الصحيحة، وعلى الرجل منا أن يكون دائم الانتباه جسدا وعقلا لالتقاط الحقيقة الصحيحة من الحقيقة غير الصحيحة، وهي مهمة شاقة يا أمي، أشق من أي مهمة في الحياة. وكان علي أن أجلس في الاجتماع منتبها بعقلي وجسدي، بالاثنين معا، أجلس في مقعدي، ويدي اليسرى ساكنة في حجري، ويدي اليمنى ممسكة بالقلم فوق الورق، جاهزا مستعدا لالتقاط الإشارة، أي إشارة، وقد لا تكون إلا إيماءة رأس أو حركة يد أو إصبع، أو الشفة السفلى يمطها في حركة خفيفة إلى الأمام، أو انقباضة عضلة صغيرة حول الفم أو الأنف، أو العين اليمنى أو العين اليسرى. وكان علي أن أفرق بين حركة العين اليمنى من العين اليسرى، وأن أرى أي حركة لحظة حدوثها بل قبل حدوثها، وأن أفسرها في عقلي بسرعة، بل إن عقلي يجب أن يكون أسرع مني فيفسرها قبلي، وعيناي يجب أن تكونا أسرع من عقلي فتريا الحركة قبل أن تقع، وأذناي يجب أن تكونا أسرع فتسمعا الصوت قبل أن يحدث.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، كنت أعتمد دائما في هذا الاجتماع الهام على حواسي الخمس، بل إن جسدي وعقلي كليهما كانا يتحولان - وأنا جالس في مقعدي - إلى كتلة عصبية شديدة الحساسية؛ كأسلاك رادارية عارية ملتفة بعضها حول البعض، تصنع رأسي وذراعي وصدري وبطني. وكنت - يا أمي - من شدة الحساسية أحس عضلات بطني ترتعش كأنما بها مس كهربائي متصل، وبالذات حين أقف إلى جواره أو بالقرب منه؛ فأحس بأصابع يدي اليمنى ترتعش، مع أنني أمسكها بأصابع يدي اليسرى، وكلتاهما - اليمنى واليسرى - مضمومتان فوق صدري أو بطني، وساقاي أيضا مضمومتان وأنا واقف أو جالس. كانت هذه هي الصورة - يا أمي - التي أصبح عليها وأنا معه، وجسدي كان يعجز دائما عن اتخاذ وضع آخر سوى هذا الوضع، وحين يسلط الضوء على وجهي، وتمر العدسات فوق جسدي لتصورني للناس، أحاول أن أفك يدي اليمنى من اليسرى وأرفعهما عن صدري أو بطني، لكني لا أستطيع، وأجدهما ثقيلتين كأنهما مشلولتان. ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، كانت هذه هي صورتي التي أراها في الصحف فأخجل من نفسي، وأكاد أخفي الجريدة عن عيون أسرتي، وعلى الأخص عيني ابنتي الصغيرة التي كانت تشير بإصبعها الدقيق إلى وجهي من بين الوجوه المرسومة في الجريدة، وتقول لأمها: «ليس هذا هو بابا يا ماما»، لكن أمها كانت ترد عليها بكبرياء زوجات الرجال العظماء قائلة: «إنه بابا يا حبيبتي، انظري كم هو عظيم وواقف مع رئيس الدولة!» ويرن صوت زوجتي في أذني؛ فأدرك أنه ليس صوتها الحقيقي، وأن تحت الصوت صوتا آخر تخفيه وتكتمه منذ الأزل وإلى الأبد، منذ تزوجنا وإلى أن نموت، وتخفي حقيقتها وحقيقتي معها في سرداب عميق سحيق في بطنها، أحسه أحيانا تحت يدي كالدمل المزمن المتجمد الذي لم ولن ينفقئ.
ماذا تقولين يا أمي؟ لا يا حبيبتي، لم أكن أخجل إلا من عيني ابنتي الصغيرة، فهما عينان على طفولتهما، بل بسبب طفولتهما كانتا دائما قادرتين على تعريتي وكشف حقيقتي التي لم يكن يقدر على كشفها أحد في العالم حتى أنا. أتذكرين - يا أمي - أنك كنت تقولين لي دائما إن الطفل مكشوف عنه الحجاب؟ لم أكن أصدقك في ذلك الوقت، لكني أدركت من بعد أنني أحيانا، حين كانت ابنتي الصغيرة تنظر إلي بعينيها الواسعتين الثابتتين في عيني، كنت أحس أنني أخشى عينيها، وأظن أحيانا أن هذه النظرة القوية الثابتة ليست نظرة طفل، وليست بالذات نظرة بنت، أو بالأحرى بنت طبيعية، وأن البنت الطبيعية، بل الولد الطبيعي أيضا يجب أن تكون نظرته أقل ثباتا أو أقل وقاحة، وبالذات حين ينظر إلى شخص أكبر منه مقاما وسنا وله سلطة عليه، فكيف الحال إذا كان هذا الشخص هو الأب، رب الأسرة وعمادها، الذي يعمل والذي ينفق، ومن حقه على أفراد أسرته جميعا الاحترام والطاعة، كبارا كانوا أم صغارا، وعلى الأخص الصغار؟
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم، هذا هو كلامك الذي كنت أسمعه منك وأنا طفل صغير. وقد ظل في ذاكرتي على الدوام إلى حد أنني كنت أقوله لزوجتي، وأردده لابنتي، وأقوله أيضا لمن كان يقع من الموظفين تحت رئاستي أو سلطتي، وأشعر بالرضا عن نفسي وأنا أقوله إلى حد الزهو، وأرى الإعجاب في عيون الموظفين حولي؛ فيشتد إيماني بأن ما أقوله هو الحقيقة الثابتة منذ الأزل، وأن من يقول بغيرها فقد أخطأ أو كفر.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، في حياتي كلها منذ كنت موظفا صغيرا إلى أن أصبحت وزيرا، لم يصادفني موظف واحد قال بشيء آخر غير ما كنت أقول، وهذا هو السبب - يا أمي - في أنني لم أحتمل هذه الموظفة، ولم أحتمل أن أظل جالسا في مقعدي هادئا كعادتي، وقورا كأي وزير حين يكون جالسا بين موظفي وزارته، لم أحتمل - يا أمي - إلا أن أنتفض واقفا صارخا بغضب على غير عادتي، خارجا عن وقاري، فاقدا لصوابي. لم تكن تقول شيئا ذا بال، لكنه غير الذي كنت أقوله، ولا أدري - يا أمي - كيف لم أحتمل، وكيف خرجت عن هدوئي ووقاري. ولم يكن غضبي عليها؛ لأنها نطقت بشيء آخر غير رأيي، أو لأنها موظفة صغيرة تختلف في رأيها مع الوزير، أو لأنها امرأة تعتد برأيها أمام رجل، أو لأنها قالت لي وهي تخاطبني «حضرتك»، في حين أن الموظفين جميعا يقولون حين يخاطبونني: «يا معالي الوزير»، ولكن غضبت يا أمي؛ لأنها - وهي تكلمني - كانت ترفع عينيها في عيني بطريقة لم أرها من قبل، وهذه الحملقة أو النظرة الثابتة القوية في حد ذاتها جرأة بل وقاحة إذا ما صدرت من رجل، فكيف إذا كان موظفا؟ وكيف إذا كان امرأة؟ ولم يكن غضبي عليها أنها فعلت ذلك بل لأنني لم أعرف كيف فعلته، كيف تجرأت وفعلته؟!
ماذا تقولين؟ نعم يا أمي، كنت أريد أن أعرف كيف فعلت هذه المرأة ذلك، واستبدت بي هذه الرغبة في المعرفة إلى حد الغضب من نفسي؛ لأني لا أعرف ولأني عاجز عن أن أعرف. واستبد بي الغضب إلى حد أنني أصدرت في اليوم التالي أمرا بإحضارها إلي في مكتبي، وتركتها واقفة أمامي وأنا جالس، وأشعرتها بأنها غير موجودة وتركتها واقفة وأنا جالس أتكلم في التليفون وأضحك مع من يحادثني، والغريب أنها ظلت واقفة، لم تكن تسمع صوتي أو تنظر إلي، وإنما كانت تنظر إلى صورة معلقة في الحائط. وبعد أن انتهيت من الحديث في التليفون كنت أظن أنها ستنظر إلي، لكنها ظلت تنظر إلى تلك الصورة المعلقة وكأنني غير موجود، وحاولت أن أدرس ملامحها قبل أن تحرك رأسها وتراني، لكنها حركت رأسها واستقرت عيناها القويتان الثابتتان في عيني. وانتفضت، كأنما سقطت عني ملابسي كلها دفعة واحدة، وشعرت بالخجل الذي ذكرني في لحظة سريعة خاطفة بعيني ابنتي الصغيرة، وتحول الخجل في لحظة خاطفة إلى رغبة في أن أخجلها كما أخجلتني، ووجدت نفسي أصرخ في وجهها بصوت عال على غير عادتي: «كيف تجرؤين؟! من أنت؟ ألا تعلمين أنك مهما كنت فلست إلا موظفة صغيرة وأنا الوزير، ومهما ارتفعت فأنت في النهاية امرأة، مكانها في الفراش تحت الرجل؟!»
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم، أية امرأة تسمع مثل هذا الكلام من أي رجل لا بد أن تموت من الخجل، أو على الأقل تسقط مغشيا عليها من الخجل، فكيف إذا كان الرجل الذي يقول لها هذا الكلام ليس أي رجل وإنما رئيسها في الحكومة، وهو أيضا ليس مديرا فحسب أو رئيس قسم وإنما هو الوزير شخصيا، وهي لا تسمع هذا الكلام في حجرة خالية مغلقة، ولكن حجرة مكتبي كانت مليئة بالرجال، وكلهم من كبار الموظفين؟ نعم يا أمي، أية امرأة في مكانها كان لا بد أن يقتلها الخجل، وكنت أود أن أقتلها بأي شيء وإن كان هو الخجل، لكن الغريب - يا أمي - أن هذه المرأة لم يكن يقتلها شيء ولم يبد عليها أي خجل، بل إنها لم تطرق بعينيها إلى الأرض ولم يرمش لها جفن. ولعلك تتصورين - يا أمي - مدى الغضب الذي يمكن أن يشعر به أي رجل في مكاني وفي منصبي، وبشخصيتي ورجولتي، واعتدادي بنفسي أمام نفسي وأمام الموظفين في وزارتي، ولأنني أيضا - يا أمي - لم أر في حياتي كلها موظفا رفع عينيه في عيني رئيسه، ولا امرأة رفعت عينيها في عيني رجل، وإن كان أخاها أو أباها أو مديرها أو حتى ابنها، فما بالك إذا كان هذا الرجل أكثر من أبيها وأكثر من مديرها، وأكثر من أي رجل آخر في نظر نفسه وفي نظر الناس، وفي احترامه لنفسه واحترام الناس له؟!
وكنت كلما تذكرت - يا أمي - مدى إكباري لرجولتي وإكبار الناس لمركزي زاد غضبي واشتد إحساسي بهذا الغضب، فكيف تفعل بي هذه المرأة ما فعلت؟ وكان من الممكن - يا أمي - أن يخف غضبي بعض الشيء لو أنني رأيتها تطرق بعينيها مرة، أو أن جفنها ارتعش لحظة واحدة، لكنها - يا أمي - كانت واقفة أمامي وعيناها مرفوعتان في عيني وكأنني لست رئيسها وهي ليست مرءوستي، وكأنني لست وزيرا وهي ليست موظفة صغيرة، وكأنني لست رجلا وهي ليست امرأة، وكأنني لست أنا وهي ليست هي. وكان غضبي يشتد كلما أحسست أنني لست أنا وهي ليست هي، وأقول لنفسي من هي حتى تجعلني أحس أنني لست أنا؟! أو لعلي كنت أغضب أكثر كلما تذكرت أنني هو أنا، بما كنت عليه وبما أنا عليه من منصب وسلطة ورجولة واعتداد بنفسي. وكنت أشعر عن يقين - يا أمي - أنني هو أنا بكل ما كنت عليه، لكني يا أمي - وهذا ما هو أصابني بالجنون - كنت أحس في الوقت نفسه، وباليقين نفسه، أني لست أنا أو لم أعد أنا كما كنت. ولعلك - يا أمي - تقدرين موقفي وتلتمسين لي العذر؛ لأنني كرهت هذه المرأة إلى حد أن حرارتي ارتفعت في اليوم التالي إلى أربعين درجة مئوية، ولزمت البيت ورأسي الملتهب تحت كمادات الثلج، ولم تنخفض حرارتي - يا أمي - إلا بعد أن أصدرت كل ما في سلطتي وطاقتي من قرارات وزارية لتشتيت هذه المرأة والقضاء عليها قضاء مبرما.
ماذا تقولين؟ أبدا يا أمي، لم أستطع أبدا أن أقضي عليها، وظلت هذه المرأة موجودة، وكنت أسمع بعض الناس بالصدفة يقولون أمامي: إنها لا تزال موجودة. لم أكن أسمع ذلك بالصدفة ولكني كنت أتجسس على أخبارها خفية؛ خشية أن يلحظني أحد، وبأمل أن أسمع عنها خبرا سيئا أو حادثا قضى عليها، لكن أبدا يا أمي! هذه المرأة ظلت موجودة في العالم، ليست موجودة فحسب كأية امرأة أخرى مثلها، ولكني رأيتها - يا أمي - مرة صدفة فإذا بها كما كانت، لم يتغير فيها شيء، وارتفاعة عينيها لم تتغير وجفنها كما كان لا يرمش، مع أنها - يا أمي - رغم كل ذلك امرأة مثل أي امرأة أخرى، ولم يكن يغضبني أنها امرأة، وأني لم أر امرأة فعلت مثلها، ولم يكن يغضبني أنها موظفة وأنا لم أر موظفا فعل مثلها، ولكن ما أغضبني وأخرجني عن صوابي هو أنني كنت عاجزا عن القضاء عليها بأي قرار أو بأية سلطة، وأنها لا تزال موجودة، ووجودها يخرجني عن صوابي، ويخرجني عن وقاري، ويخرجني عن نفسي، وأنا أريد أن أعود إلى نفسي وإلى هدوئي، لكنها - يا أمي - ظلت موجودة، وأصبح وجودها كأنما هو يهدد وجودي.
ماذا تقولين؟ نعم يا أمي، لم أعرف كيف وصلت إلى هذه الحال؟ وكيف يمكن لموظفة صغيرة في الدرجة الخامسة أو السادسة أن تهدد وجود رجل كبير مثلي في منصب الوزير؟ لكني كنت غاضبا، وغضبي كان أشد غضب عرفته في حياتي، ولم يكن ذلك الغضب لأنني عاجز عن القضاء عليها بأية قوة أملكها أو لا أملكها، وليس لأنها فعلت شيئا لم يفعله أحد، ولكن ما أغضبني - يا أمي - حقيقة هو أنها فعلت ما لم أفعله أنا بالذات، وأنني في كل حياتي لم أستطع مرة واحدة أن أرفع عيني في عيني أي رئيس من رؤسائي وإن كان موظفا صغيرا، ولا يملك علي إلا سلطة صغيرة. وكان غضبي - يا أمي - يشتد كلما حاولت أن أعرف كيف عجزت عن ذلك وهي لم تعجز؛ مع أنني رجل وهي امرأة، مثل أي امرأة أخرى؟!
ماذا تقولين؟ نعم يا أمي، كانت مثل أية امرأة أخرى، ومثلك يا أمي، نعم مثلك، لكني لم أر في كل حياتي أنك - يا أمي - رفعت عينيك في عيني أحد كما رفعتهما هذه المرأة في عيني، ربما لو أنني رأيتك مرة واحدة لاستطعت أن أحتمل هذه الموظفة، بل لو أنك رفعت عينيك مرة واحدة في عيني أبي ربما استطعت أنا أيضا أن أرفع عيني في عينيه، وربما استطعت أن أرفع عيني في عيني أي رجل آخر في موضع السلطة. لكني لم أرك - يا أمي - ترفعين عينيك في عينيه مرة واحدة، ولو أنك فعلت مرة فقد كان من الممكن لي أن أفعل مثلك؛ لأني كنت أفعل كل شيء مثلك، ولأنك - يا أمي - كنت مثلي الوحيد وأنا طفل، وكنت أقلدك، في كل حركة من حركاتك أقلدك، وقد تعلمت الكلام؛ لأني حركت شفتي كما كنت تحركين شفتيك، وتعلمت المشي لأني كنت أحرك قدمي فوق الأرض كما كنت تحركين قدميك. تعلمت منك كل شيء يا أمي، فلماذا لم ترفعي عينيك في عيني أبي لأتعلم منك كيف أرفع عيني في عينيه. ربما لو فعلت - يا أمي - مرة واحدة؛ لاستطعت وأنا طفل أن أكسر رهبته مرة واحدة، وربما استطعت وأنا موظف أن أكسر رهبة أي شخص في موضع السلطة.
ماذا تقولين يا أمي؟ لا يا حبيبتي أنا لا أعاتبك، ولكني أطلب أن تربتي بيدك الحنون على رأسي وعنقي وصدري كما كنت تفعلين وأنا طفل، فأنت الوحيدة التي يمكن أن أفتح لك قلبي وأقول لك مأساتي الحقيقية، ومأساتي الحقيقة ليست أنني فقدت منصبي كوزير، ولكن المأساة هي كيف فقدته. وربما خفت المأساة بعض الشيء لو أنني فقدته بسبب خطير أو سبب هام أو حتى سبب معقول، لكن المأساة - يا أمي - أن السبب لم يكن معقولا، ولا يمكن لأحد أن يعقله أو يصدقه، وربما لم أعرف - يا أمي - أنه سبب غير معقول إلا في ذلك اليوم الذي فتحت فيه جريدة الصباح فلم أعثر على اسمي بين الأسماء في الوزارة الجديدة، أحسست فجأة كأنما أصبحت ساقط قيد، كأنما اسمي سقط من فوق جسدي ولم يعد لي اسم، وفي كل يوم حين أفتش في الصحف عن اسمي فلا أجده يتأكد لدي الإحساس بأنني أصبحت جسدا بغير اسم. والتليفون - يا أمي - الذي كان يرن كل يوم وفي كل لحظة هاتفا باسمي، أصبح صامتا أخرس لا ينطق، وكأنما أسقطني هو الآخر وأسقط اسمي. وهذا - يا أمي - شعور مرير بالسقوط لم أعرفه في أية مرحلة من حياتي. ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، لك أعرف إلا هذه اللحظة طعم الشيء الذي فقدته، وأخشى - يا أمي - أن تكون هذه هي صفة الحياة أيضا، وأنا لن نعرف طعمها إلا بعد أن نفقدها، وهذه - يا أمي - في حد ذاتها كارثة ما بعدها كارثة؛ لأن الوقت يكون قد فات، والفرصة قد ضاعت إلى الأبد. ولعل هذا كان حالي وأنا جالس بجوار التليفون الصامت أنتظر، وأخشى أن يلمحني أحد من أفراد أسرتي وأنا جالس أنتظر، فإذا بي أتظاهر بأنني لا أنتظر، مع أنني كنت أنتظر أن أسمع التليفون يرن، أن يرن مرة واحدة بأي شكل وبأي صوت، رجل أو امرأة، قريب أو غريب، كبير أو صغير، إنسان أو حيوان، أي صوت وإن كان هو نهيق الحمار، أن يرن التليفون ولو مرة واحدة فقط ويهتف باسمي. ماذا تقولين يا أمي؟ لا يا حبيبتي، لم تكن الكارثة هي أن التليفون لم يكن يرن، ولا أنني كنت أريده أن يرن، لكن الكارثة - يا أمي - أنني اكتشفت أن رنين التليفون الذي كنت أعلن دائما عن كراهيتي له لم أكن أكرهه بل إنني كنت أحبه، وأنه كان يبعث في جسدي بجرسه المتصل لذة عرفتها في حينها؛ ولما كانت هناك قوة في العالم تستطيع أن تحرمني منها، فهذه اللذة - يا أمي - كانت تفوق لذة الجنس ولذة الحب ولذة الأكل وكل شيء في الدنيا. كانت كأنما هي لذة غير دنيوية أو غير بشرية، لا تعرفها غرائز البشر أو مشاعرهم، فهي غريزة بغير مشاعر وبغير غرائز، غريزة سحقت المشاعر وسحقت الغرائز، وبقيت هي وحدها قوية جبارة عارمة، قادرة على أن تسحق أي شيء في العالم. تسحق التعب وتسحق الإرهاق، وتسحق الكرامة وتسحق الإهانة، وتجعل جسدي قادرا على الحركة والنشاط، حتى وأنا نائم، وتجعل عقلي يشتغل في أحلامي أيضا، وتجعلني - بعد أي جهد متصل - واقفا على قدمي فوق أرض المطار تحت قرص الشمس، منفرج الأسارير في استقبال أي ضيف رسمي، وتجعلني جالسا مشدود عضلات الوجه والظهر في أي اجتماع وفي أي حفل، وتجعلني جاهزا في أي لحظة بالليل والنهار لاتخاذ الوضع الرسمي بالساقين المضمومتين واليدين المشبوكتين فوق الصدر أو فوق البطن. نعم يا أمي، هذه اللذة العارمة كانت قادرة على سحق أي تعب أو أي جهد، بل إنها كانت قادرة على سحق نفسها وسحقي معها لو أرادت.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، لقد ضيعت كل هذه اللذة من أجل شيء تافه، وأي شيء في الحياة يمكن أن يكون تافها إلى جانب هذه اللذة؟ لكن الحقيقة - يا أمي - أن هذا الشيء لم يكن تافها، لم يكن شيئا بسيطا عاديا، وإنما كان غير بسيط وغير عادي. كان أخطر شيء يمكن أن يحدث لي، وأخطر شيء يمكن أن أواجهه كالموت - يا أمي - بل إن الموت نفسه كنت أظن في بعض الأحيان أنني أستطيع أن أواجهه. لكني في ذلك اليوم لم أعرف ما الذي حدث لي، مع أنني كنت أجلس في مقعدي كعادتي، منتبه الجسد والعقل، منتبه الأعصاب والحواس الخمس، وجسدي وعقلي كلاهما قد تحولا إلى تلك الكتلة العصبية الرادارية، عارية وحساسة لأي إشارة أو أي حركة. وكنت أجلس في مقعدي كعادتي، عن يقين كنت أدرك أنني كعادتي، ولكني كأنما بيقين آخر كنت أدرك أنني لست كعادتي، وأنني - رغم أنني شديد الانتباه - عاجز عن الانتباه، وأنني لأول مرة في حياتي عاجز عن أن أركز عقلي أو أسيطر عليه، وأن عقلي أصبح يفكر وحده بدوني، وينشغل بشيء لا أريد أن أنشغل أنا به، وهذه كارثة في حد ذاتها لو حدثت لموظف عادي في أي اجتماع، فما بالي أنا كوزير، وفي هذا الاجتماع الوحيد الهام الذي أتحول فيه إلى مرءوس؟ والكارثة - يا أمي - لم تكن أن عقلي خرج من سيطرتي، فلو أنه فعل ذلك من أجل أن يفكر في شيء هام مثل التقرير السنوي الذي كنت سأعرضه، أو الميزانية الجديدة التي كنت سأطلبها، ربما كنت أشعر بشيء من الراحة والعزاء، لكن الكارثة أن عقلي لم يكن يفكر في شيء هام، بل كان يفكر في شيء تافه، أتفه شيء يمكن أن ينشغل به عقل رجل في مثل منصبي، وفي مثل هذا الاجتماع بالذات.
ماذا تقولين يا أمي؟ لا يا حبيبتي، لم أكن أفكر في أحد، وإنما كنت أفكر في نفسي، كنت أريد أن أعرف كيف أجلس في مقعدي كعادتي، ومع ذلك فأنا لست كعادتي، كنت أريد أن أعرف هل أنا الذي يجلس في مقعدي أم شخص آخر؟ وأي واحد من هذين الشخصين هو أنا؟ والمشكلة - يا أمي - لم تكن أنني لم أستطع أن أعرف، لكن المشكلة أنني كنت أعرف أن السبب الوحيد في هذه الكارثة لم يكن إلا تلك الموظفة الصغيرة، وأنني ألعن اليوم الذي رأيتها فيه، فأنا منذ ذلك اليوم وعقلي لا يكف عن التفكير فيها. وربما كنت أجد شيئا من الراحة أو العزاء لو أن ما يشغلني بها كونها امرأة أو أنثى، فأنا في النهاية رجل، وأي رجل مهما بلغ أي منصب فهو من الممكن أن ينشغل أحيانا بامرأة. لكن المأساة - يا أمي - أنها لم تكن تشغلني في ذلك الوقت كامرأة أو كأنثى، فهي في نظري لم تكن أنثى على الإطلاق، وربما هي المرأة الوحيدة التي رأيتها في كل حياتي فلم تشعرني لحظة واحدة بأنها أنثى، لكن الشيء الذي شغل عقلي وسيطر عليه إلى حد خروجه عن إرادتي هو أنها - رغم كونها أنثى، ورغم كونها موظفة صغيرة - أصغر موظفة يمكن أن تدخل إلى مكتب وزير؛ فقد استطاعت أن تفعل شيئا خارقا للعادة، خارقا لكل العادات التي درجنا عليها منذ ولدنا، ولكل القيم التي عرفناها منذ وجدنا في الحياة وأصبحنا بشرا. والمأساة - يا أمي - ليست أنها فعلت ذلك، وليست أنها فعلت ما لم يفعله أحد أو ما لم أفعله أنا، لكن المأساة أنها منذ فعلت هذا وأنا لم أعد أنا، والذي أصبح يجلس في مقعدي ليس هو أنا، وإنما شخص آخر لا أكاد أعرفه بل إنني لم أكن أعرف أي الشخصين هو أنا. وكان هذا - يا أمي - هو السؤال المحدد الذي سيطر على عقلي، وسيطر على جسدي وحواسي الخمس في ذلك الاجتماع، وكنت أحاول - يا أمي - أن أقاومه، كنت أستجمع كل قوتي لأقاومه، لأطرده من رأسي، إلى حد أن يدي اليسرى كانت تتحرك وحدها كأنما هي تطرده من رأسي، وكانت يدي اليمنى كعادتها ممسكة بالقلم فوق الورق جاهزا مستعدا لأي إشارة أو صوت. وكان المفروض أن تظل يدي اليسرى - كعادتها - ساكنة في حجري، لكنها لم تكن ساكنة، ومن كان يراها وهي تتحرك على النحو الذي كانت تتحرك به يظن أنني أهش عن وجهي ذبابة عنيدة، ولأن قاعة الاجتماع كانت نظيفة خالية من الذباب، أنظف قاعة في البلد، وآخر قاعة فوق الأرض يمكن أن تدخلها ذبابة؛ فقد أصبحت حركة يدي اليسرى غير طبيعية، ولأنها كانت غير طبيعية فقد بدأت تلفت النظر، وكنت أكره - يا أمي - أن يلتفت إلي النظر في مثل هذا الاجتماع الهام، وأفضل أن أظل جالسا في مقعدي غير لافت للنظر أو غير منظور على الإطلاق، إلى أن ينتهي الاجتماع على خير ولا أواجه بأي سؤال.
ماذا تقولين يا أمي؟ يا حبيبتي، لم أكن أخشى السؤال، ولم أكن أخشى ألا أعرف الإجابة الصحيحة؛ فقد كانت الإجابة الصحيحة معروفة سهلة، أسهل من أي إجابة أخرى، أسهل من أي مسألة في الحساب قابلتها وأنا تلميذ، كأبسط عملية في جدول الضرب، واحد زائد واحد يساوي اثنين، لكن الصعوبة - يا أمي - هي أنني لم أكن أخشى ألا أقول الإجابة الصحيحة، بل أن أقول الإجابة الصحيحة.
ماذا تقولين يا حبيبتي؟ نعم يا أمي، لقد كانت هذه هي الكارثة الحقيقية التي وقعت في ذلك اليوم، ولست أدري كيف وقعت، ولست أدري هل أنا الذي قلتها أم الشخص الآخر الذي كان يحتل مقعدي، وكنت لا أزال جالسا في مقعدي كما وصفت لك، ويبدو أن حركة يدي اليسرى المتكررة قد لفتت النظر، فإذا بعينيه تتجهان نحوي تذكرني في لحظة خاطفة بعيني أبي وأنا طفل، حينما كانت عيناه تتجهان نحوي، وكنت أحاول أن أتراجع بجسدي قليلا إلى الوراء أو إلى الأمام، كما كنت أفعل وأنا تلميذ أجلس في الفصل، بأمل أن تسقط العينان على الجالس أمامي أو خلفي ولا تسقطا علي أنا لكني في هذا اليوم لم أتحرك من مقعدي، ربما لم أنتبه في اللحظة المناسبة إلى حركة عينيه قبل أن تبدأ نحوي، أو ربما أنني لم أكن في تلك اللحظة بكامل عقلي، أو لأنني كنت مريضا بالحمى وحرارتي كانت مرتفعة أو لأي سبب آخر. المهم - يا أمي - أنني لم أتحرك في مقعدي وسقطت عيناه فوقي بكل ثقلهما كما يسقط الموت، وحينما سألني السؤال انفتح فمي وحده بغير إرادتي وكأنه فم شخص آخر غيري، شخص متهور سريع الإجابة بغير تفكير كثير أو جهد كبير، ولأنها كانت إجابة بغير تفكير كثير وبغير جهد كبير فقد كانت هي الإجابة السهلة، أسهل الإجابات وأكثرها بساطة، لقد كانت هي - يا أمي - الإجابة البديهية.
ماذا تقولين يا حبيبتي؟ لا يا أمي، لم تكن الإجابة البديهية هي الإجابة الصحيحة؛ فالإجابة الصحيحة لم تكن هي الإجابة المطلوبة، وهذه هي - يا أمي - ألف باء السياسة كما قلت لك في البداية، وأول درس تعلمته في السياسة، كيف نسيته يا أمي؟ لا أعرف، لكني نسيته في تلك اللحظة، وكم حزنت - يا أمي - لأني نسيته، وحزني كان شديدا إلى حد عدم الإحساس بالحزن، بل إلى حد الإحساس براحة تكاد تشبه الفرح؛ فلقد أحسست - يا أمي - أن عبئا ثقيلا كان جاثما فوق صدري وبطني أثقل من يدي الاثنتين المشلولتين المضمومتين فوق صدري أو بطني، وأثقل من جسدي جالسا مشلولا في مقعدي، بل أثقل من المقعد ومن الأرض تحت المقعد لو أن الأرض جلست علي بثقلها ولم أكن أنا الجالس عليها.
ماذا تقولين يا أمي؟ نعم يا حبيبتي، استرحت وأي راحة، وكم أشعر بهذه الراحة في هذه اللحظة الأخيرة وأنا أغادر هذه الدنيا بكل ما فيها، ولكن الكارثة - يا أمي - أنني رغم هذه الراحة ورغم أنني أغادر الدنيا فلا زلت أضع التليفون بجوار رأسي، ولا زلت أنتظر أن يرن مرة واحدة، أن أسمع الجرس مرة واحدة، ويرن الصوت - أي صوت - في أذني ويقول: «يا معالي الوزير»، كم أود - يا أمي - أن أسمعها مرة واحدة فقط قبل أن أموت!
الجريمة العظمى
أقسم لكم يا من ستقرءون قصتي أنني كنت أكثر براءة مما تتصورون، وربما كنت أكثر براءة من كثيرين منكم، وقد تأكدت من براءتي بعد أن مت (أنا ميت الآن وفي إمكاني أن أعبر عن نفسي بغير خوف منكم). كنت براءة طفل صغير، ومعنى ذلك (لو كانت لكم ذاكرة قوية) أنني لم أكن بريئا على الإطلاق، على الأقل في نظركم، ومع ذلك كنت - ولا زلت - أعتبر نفسي في براءة طفل صغير. إن أحدا منكم لا يذكر ما الذي دار في رأسه وهو طفل صغير، وأنا أيضا كنت مثلكم حين كنت فوق الأرض، إننا ننسى طفولتنا حين نكبر، وننسى أحلامنا حين نصحو من النوم. وهذا النسيان دليل قاطع على أننا فعلنا في طفولتنا ما يخجلنا ونحن كبار، وفعلنا في أحلامنا ما يخجلنا ونحن يقظون.
لكن لم أعد مثلكم، وقد أكسبتني تجربة الموت شجاعة غير آدمية؛ فأصبحت في غير حاجة إلى أن أفصل بين مراحل عمري، وأقيم بين كل مرحلة ومرحلة جدارا سميكا. إن هذه الرؤية لمراحل حياتكم الممزقة المنفصلة بعضها عن بعض لم أتمكن منها إلا بعد أن ارتفعت عن الأرض. وقد دهشت لمنظر حياتكم تحت عيني، إنه منظر غريب جدا، يشبه إلى حد كبير جسد إنسان قطع رأسه وبترت ساقاه ولم يبق إلا البطن والصدر. إنه منظر مخيف أيضا ذكرني بحادث قطار شهدته وأنا طفل صغير، ولا أنسى حتى الآن منظر الجسد بعد أن أخرجوه من تحت العجلات بغير رأس وبغير ساقين.
هذا المنظر لا أنساه أبدا، لكني في الحقيقة نسيته، بل إنه يكاد يكون المنظر الوحيد في حياتي الذي نسيته تماما، من شدة بشاعته نسيته نسيانا كاملا، ومن شدة بشاعته ظل في ذاكرتي ولم أنسه أبدا، وهذا هو ما يحدث لكم؛ فأنتم تنسون ولا تنسون، وهذا هو سبب شقائكم فوق الأرض.
لكني على أية حال لم أعد أخاف من هذا المنظر، وأصبحت على شجاعة غريبة، وأستطيع أن أحملق فيه لمدة دقيقة كاملة، بل إن شجاعتي زادت عن الحد، وأصبحت قادرا على أن أحملق في وجه أبي لمدة دقيقة كاملة، وجه أبي كان كوجوه كل الآباء، ووجوه كل الآباء تبدو لي الآن كتلك الوجوه الكرتونية التي كنا نشتريها في يوم العيد، العينان ليستا عينين، وإنما هما ثقبان كبيران، حين أنظر داخلهما لا أرى شيئا، والأنف قطعة بارزة من الكرتون، له أيضا فتحتان ليستا إلا ثقبين. وتحت الأنف شارب طويل أسود، إن هذا الشارب هو الذي كان يضحكنا بشدة ونحن أطفال، ويلبس كل منا الوجه الذي اشتراه بقرش، ونجري نخيف بعضنا بعضا بذلك الشارب الطويل الأسود.
كنت أظن أنني لا أحب أبي بسبب ذلك الشارب الخشن المخيف، لكني أدركت الآن - حين حملقت لأول مرة في وجهه - أنني لم أحبه بسبب عينيه. عيناه حين حملقت فيهما عرفت - على الفور - أنه هو الذي قتل أمي، وكنت وأنا طفل أحب أمي، وأنتم أيضا لا تعرفون معنى أن يحب طفل أمه؛ لأنكم لم تكونوا أطفالا أبدا (النسيان يجعل الشيء الذي حدث كالذي لم يحدث تماما)، كنت أحب أمي لدرجة أنني عاجز عن وصفها الآن كما عجزت عن وصفها في أي وقت مضى. كنت أتصور أنني سأستطيع أن أصفها الآن بعد أن ارتفعت فوق الأرض، وأصبحت كل الأشياء غير الحقيقية هي التي تنتهي، أما الأشياء الحقيقية فلا تنتهي أبدا. وكان حبي لأمي حقيقيا لدرجة أنني كنت أظن أن أمي هي أنا، لم يكن ظنا فحسب، ولكنه كان إحساسا يبلغ حد اليقين، كان جسدها وجسدي شيئا واحدا. إن هذه المسافة المعدومة بيني وبين أمي لا تزال حتى الآن كما كانت وأنا طفل؛ فالأشياء الحقيقية تلازمنا في أي مكان، ارتفعنا أو انخفضنا فهي تلازمنا كأجسامنا، وحبي لأمي كان حقيقيا كجسدي. كنت طفلا صغيرا، وكل الأشياء في عين الطفل الصغير تبدو غير حقيقية، كل الأشياء تبدو كالحلم، والناس كالأشباح أو كالملائكة، والقطار يجري فوق قضبان سحرية، وصفارة القطار لها رنين أجراس مسحورة، والبحر بغير قرار، والسماء بلا قاع، والشارع بلا نهاية، والليل المظلم مخيف إلى حد الموت.
شيئان كنت أخاف منهما: الظلام والموت، وأترك سريري الصغير في منتصف الليل وأزحف إلى سرير أمي، أدس نفسي في ثنايا جسدها الدافئ، وألتصق بها بقدر ما أستطيع، أكور جسدي وأجعله أصغر مما هو، أحاول أن أجعل حجمي يتناقص ويتناقص ليصبح جنينا صغيرا قادرا على العودة إلى رحم الأم، وجسمي كله يهتز بهذه الرغبة كالحمى. أرتجف كالمحموم، وأظن أن ما من شيء سينقذني من ذلك الموت المحدق بي في الظلام سوى أن أختفي داخل ذلك الرحم الحنون الدافئ المغلق علي وحدي.
من يراني في تلك اللحظة - وأنا متكور على نفسي كالجنين فعلا - يدرك أن هذه الرغبة كانت حقيقية وكانت عنيفة، وأنها لم تكن رغبة في الابتعاد عن الموت، ولكنها كانت رغبة في الاقتراب من أمي، الاقتراب الشديد إلى درجة الالتصاق بها وذوبان جسدي في جسدها؛ لأصبح أنا وهي شيئا واحدا. كنت أحبها لدرجة أن فناء جسدي في جسدها لم يكن فناء ولم يكن موتا ولم يكن مؤلما ولا مخيفا، بل كان قمة حياتي وذروة لذتي والطمأنينة والراحة الكاملة.
ولم أكن في تلك الحالة أدرك شيئا، كان كل ما حولي قد أصبح دافئا كثدي الأم، وصامتا صمت الرحم من الداخل والعالم بكل ما فيه من بحر وسماء وبيوت وأشجار وقطار وقضبان تلاشت، والأصوات تلاشت، ولم يعد لي أذنان وعينان ولا شفتان، وإنما هي حواس جنينية خام لا تحس إلا الدفء ولا تشم إلا اللبن.
ولم يكن بوسعي في تلك الحالة أن أدرك وجود أبي الذي كان راقدا إلى جوار أمي بجسده الضخم، وشاربه الطويل الأسود يهتز مع اهتزازة شفته العليا، وشفته السفلى تهدلت تحت وطأة الشخير العالي، وخيط طويل من اللعاب الأبيض ينساب ببطء من زاوية فمه فوق ذقنه رغم نومه العميق الذي بدا لي وقتها أنه لن يصحو منه أبدا. فتح عينيه، ورغم أنني لم أكن أراه (بسبب تكوري الجنيني) فقد لمحت تلك النظرة التي كست عينيه بسرعة البرق، والتي اختفت أيضا بسرعة البرق. لم أعرف حينئذ هل اختفت وحدها أم أنه هو الذي أخفاها، لكن أدركت الآن أنه هو الذي أخفاها.
رغم الظلام الذي كانت تغرق فيه حجرة النوم، ورغم أنني لم أكن لأستطيع أن أرفع عيني في عينيه، فإن هذه النظرة كانت قادرة على أن تخترق رأسي كالسهم، وبرغم ألم الاختراق، وبرغم الخوف منه، وبرغم الظلام الدامس، وبرغم أنه أخفاها بسرعة البرق، وعادت إلى عينيه نظرة الأب المحب، برغم ذلك فقد عرفت شكل هذه النظرة، إنها عين الإنسان حين تعبر عن الكراهية.
كان أبي رجلا متحضرا، وككل الرجال المتحضرين في عصرنا الحديث الذين يستطيعون التحكم في مشاعرهم الحقيقية وإخفائها، والظهور بمشاعر أخرى تنم عن الرقي، ككل هؤلاء استطاع أبي أن يخفي رغبته الحقيقية في أن يقبض بأصابعه الكبيرة الضخمة على عنقي، ويقذف بي بعيدا، وتحركت يده فعلا نحوي، لكنه قاوم الحركة، وأصبحت حركته بعد المقاومة كحركة يد الأب المتحضر حين يربت كل كتف ابنه، وبحركة بطيئة هادئة فصل بين جسدي وجسد أمي، وأصبحت فوق طرف السرير البارد، واحتل هو مكاني الدافئ.
كان الوقت شتاء والليل باردا، والغطاء الصوفي لا يصل إلى طرف السرير حيث كنت، إلا بمقدار ما يغطي نصف جسمي ويظل ظهري عاريا. ثم تحرك أبي وهو نائم وشد الغطاء عليه فأصبحت بغير غطاء تماما، ارتجفت من البرد، ففتحت أمي عينيها، والحقيقة أنني لم أكن قد ارتجفت بعد، لكنها كانت تفتح عينيها لأقل حركة. قد لا تكون إلا حركة الغطاء وهو ينزلق فوق ظهري، أو عضلة صغيرة في جسمي تنقبض بسبب برد بسيط حدث أو سوف يحدث، فإذا بها قبل أن يحدث، بل قبل أن تنقبض العضلة ذاتها، إذا بها تفتح عينيها فجأة من عز النوم، بل إنها قبل أن تفتح عينيها وقبل أن تصحو تماما تمتد ذراعيها وتغطيني.
كنت أندهش وأتساءل بيني وبين نفسي عن ذلك السر؛ سر تلك القدرة الرادارية العجيبة لجسدها النائم على الإحساس بجسدي، رغم تلك المساحة الكبيرة التي تفصل بيننا، والتي كان يشغلها جسد أبي الضخم. وكانت دهشتي تزيد حين أسمع أبي يتهمها بأن نومها ثقيل. وذات مرة سمعته يتشاجر معها؛ لأنه أخذ يرن جرس الباب طويلا قبل أن تصحو من نومها وتفتح له الباب. وكان أبي يتهمها أيضا بأن سمعها ثقيل، وذات مرة ضربها (وأنا في حجرها تطعمني)؛ لأنه نادى عليها لتحضر له الغداء لكنها لم تسمع، وذات مرة من هذه المرات سمعته يقول لها إن قلبها بارد لا يحس، ورأيت أمي في ذلك اليوم تبكي وحدها في المطبخ؛ فاقتربت منها في وجل، وهمست في أذنها بكلمات متقطعة مكسرة (ولم أكن أجيد الكلام بعد) وقلت لها: «انتي بتحسي أكتر من أبي يا أمي.» واتسعت عيناها وهي تنظر إلي كأنما بدهشة، كأنما دهشت كيف يمكن لطفل صغير جدا مثلي أن يدرك حقيقة كبيرة كهذه الحقيقة، وحوطتني بذارعيها وهي تهمس: يا حبيبي.
كان أبي واقفا على باب المطبخ، ورآني وأنا بين ذراعيها؛ فاكتست عيناه بتلك النظرة الخاطفة التي ما إن تظهر حتى تختفي، والتي تخترق عظام رأسي، وتجعلني أرتعد برعدة عنيفة، كالرعدة التي تصيب جسد الإنسان حين يرى نفسه وجها لوجه أمام الموت.
لو أنه فعل ما يفعله الإنسان الطبيعي حين يكره، لو أنه أطبق بأصابعه الكبيرة على عنقي لاسترحت، وأدركت أنه يتصرف على نحو طبيعي؛ فالتصرف الطبيعي مهما كان قاسيا فهو مريح، وهو مطمئن، لكن أبي لم يكن يطمئنني أبدا، كنت أخاف منه، وأخاف من أية حركة تصدر عنه، والحركة الهادئة أو الحانية تفزعني أكثر من الحركة العنيفة أو القاسية. وحين أكون قريبا منه وأرى يده تتحرك، ربما هو لن يفعل شيئا سوى أن يربت على كتفي، أو هو يحرك يده لهش ذبابة من فوق عينه أو ليهرش أذنه، لكني أجدني قد انتفضت، وسرت فوق جسدي قشعريرة خفية.
لم أكن أعرف لماذا لا أستطيع أن أجلس بجوار أبي بحيث لا تكون هناك مسافة بيننا. كان لا بد من هذه المسافة دائما، ولم أستطع بحال من الأحوال الاقتراب من أبي إلى حد الالتصاق بجسده، على عكس أمي؛ كانت حين تجلس إلى جواري ألتصق بها، ليس ذلك الالتصاق العادي، ولكنه تلك الرغبة الملحة العنيفة في أن تنعدم المسافة بيننا انعداما كاملا وأصبح أنا وهي جسدا واحدا.
ولم يكن أحد يعرف هذه الرغبة غيري، كنت أخفيها كما أخفي مشاعري الحقيقية، وحين أجلس في الفصل في المدرسة، ويطلب مني المعلم أن أقول وراءه كلمة: «أحب أبي مثل أمي»، أردد وراءه دون أن أعترض: «أحب أبي مثل أمي.» وحينما تعلمت كتابة الحروف طلب مني المعلم أن أكتب اسمي؛ فكتبت: «سمير»؛ فقال لي: اكتب اسمك بالكامل. فكتبت: «سمير عزيزة»، ونظر المعلم في كراستي غاضبا، ثم شطب بقلمه الأحمر اسم «عزيزة»، وقال لي: اكتب اسم أبيك. ودهشت، وفتحت فمي لأعترض، لكن المعلم كان كبيرا وأنا صغير؛ فكتبت دون أن أعترض «سمير آدم». وفي اليوم التالي طلب المعلم من الفصل كله أن يردد وراءه: «أحب أبي مثل أمي»، ورددت مع الفصل كله: «أحب أبي مثل أمي»، وطلب منا المعلم أن نكتبها في كراسة الواجب خمس مرات. وفي اليوم التالي كتبناها مرة أخرى ، ورددناها وراءه عدة مرات، وكان الواجب في البيت أيضا أن نكتبها خمس مرات، وأن نسمعها لأنفسنا عشر مرات، ثم عشرين مرة، حتى وجدت نفسي أردد وأنا نائم: أحب أبي مثل أمي ... أحب أبي مثل أمي ...
وسمعني أبي ذات مرة وأنا أرددها فابتسم، كانت ابتسامة غريبة، لم يكن تكوين وجهه يصلح للابتسام. كانت الجبهة بارزة عريضة فوقها تكشيرة طبيعية لا تزول حتى وهو نائم، وكانت عظام وجهه غليظة والفكان كبيران عريضان كفكي الجمل أو الحصان، ولا يمكن لمثل هذين الفكين مهما انفرجت الشفتان أن يعبرا عن الابتسام. وأصابتني رجفة؛ هذه الرجفة كانت تصيبني دائما حين أرى شيئا غير طبيعي، ولم أكن رأيت من قبل جملا أو حصانا يبتسم، لماذا لا يستطيع الجمل أو الحصان أن يبتسم؟ طرحت هذا السؤال على المعلم في المدرسة فقال لي: إن الإنسان فقط هو الذي يمكن أن يبتسم يا سمير.
ولم يعرف أبي ما الذي كان يدور في ذهني، كنت أستطيع بقدرة عجيبة أن أخفي مشاعري الحقيقية، ورفعت صوتي عاليا وأنا أقرأ الواجب من الكراسة: أحب أبي مثل أمي ... أحب أبي مثل أمي ... كنت أعرف أنني أكذب، ولأنني كنت أعرف أنني أكذب فقد خفت أن يكتشف أبي كذبي، ولكي أخدع أبي أصبحت أرفع صوتي أكثر وأكثر، وأردد بصوت عال: أحب أبي مثل أمي ... وكلما ارتفع صوتي زاد خوفي من أن يصبح الكذب فيه واضحا أكثر؛ فأرفع صوتي أكثر وأكثر لأخفي كذبي، وكلما ارتفع صوتي كلما ظهر فيه الكذب أكثر، وكلما زاد خوفي، وهكذا؛ حتى وجدتني أصرخ كالمستغيث وأنا أبكي: أحب أبي مثل أمي! ... أحب أبي مثل أمي! ...
ولم يكتشف أبي حقيقتي أبدا، وحين رأى دموعي تجري فوق خدي اقترب مني، لكني كعادتي تراجعت إلى الوراء خطوة؛ فاقترب مني أكثر؛ فتراجعت إلى الوراء؛ فاقترب؛ فتراجعت. وارتفعت يده إلى أعلى قليلا، وأظن كان سيربت على كتفي، لكن خيل إلي أنها ستهبط على وجهي في صفعة قوية؛ فانتفضت مدفوعا إلى الخلف. وتوقف أبي لحظة، وعيناه المتسعتان كأنما في دهشة ، تنظران إلي وتحملقان، كأنما في دهشة، وكأنما أيضا تتساءلان عن ذلك السبب. ليس ذلك التساؤل الطبيعي حين يجهل الإنسان السبب، ولكنه التساؤل غير الطبيعي حين لا يكون السبب مجهولا، بل يكون معلوما، ليس معلوما فحسب ولكنه محسوس عن يقين بكل أحاسيس الجسد وأعصاب النفس.
وفي مثل هذه اللحظات يصبح الإنسان عصبيا؛ فالإنسان بطبيعته لا يميل إلى مثل هذه الأحاسيس اليقينية، الإنسان ميال بطبيعته إلى الشك، ومع ذلك فليس هناك ما هو غير محتمل في حياة الإنسان قدر الشك، وهذا هو سبب شقائكم فوق الأرض، فأنتم تريدون اليقين وتريدون الشك معا.
لكني كنت في ذلك الوقت طفلا صغيرا، ولم يكن في إمكاني أن أزيل عنه هذا الشك أو ذلك اليقين، كنت قد فعلت كل ما في وسعي لأحفظ وأتلو بصوت عال واجب المدرسة، وكنت قد فعلت كل ما في وسعي لأجعل صوتي وأنا أتلو الواجب كأنه صوتي الحقيقي.
وكان صوتي يبدو حقيقيا فعلا، ولم يكن في إمكاني أن أفعل أكثر من ذلك، لكن أبي ظل واقفا أمامي، لم أكن أراه لأن رأسي كان مطرقا وعيني كانتا في الأرض، ولم أكن لأجرؤ أبدا على أن أرفع رأسي وأنظر في عينيه، كنت أعرف أنني في اللحظة التي ستلتقي عيناه بعيني سيكتشف الحقيقة المفزعة، والحقيقة المفزعة هي أن الشك سيصبح يقينا، أو أن اليقين سيصبح شكا، لكني رغم إطراقي أحسست بتلك النظرة التي اخترقت رأسي ونفذت منه، وجعلت ظهري يتسمر في الحائط.
وهكذا أصبحت واقفا أمامه عاجزا عن التراجع إلى الخلف، ولم تكن تفصلني عنه إلا خطوة واحدة، وكنت أعلم أنها ليست إلا غمضة عين وتنعدم المسافة بيننا، وأصبح أنا والحائط شيئا واحدا. وضغطت بظهري على الحائط وبكل قوتي، ولكن الحائط كان صلبا صلابة الصخر.
وفي تلك اللحظة ظهرت أمي كأنما انشقت الأرض عنها فجأة، لم أعرف كيف ظهرت ومن أين؛ لأنها في ذلك اليوم لم تكن بالبيت، وكانت ستقضي الليلة عند خالتي، ولم أعرف تماما ما الذي حدث لي حين رأيتها، إن جسدي وحده هو الذي اندفع - بلا وعي - نحوها بتلك السرعة وبذلك العنف. بسرعة الفرار من الموت، وبعنف التشبث بالحياة. وكان جسدي حينئذ يتصرف على نحو طبيعي حين تشبث بها والتصق، وأصبح من شدة الالتصاق والتشبث هو وجسدها شيئا واحدا.
حين أذكر ذلك اليوم أقول لنفسي: ليتني لم أفعل ما فعلت، وليت ظهري ظل متسمرا في الحائط إلى الأبد، أو ليتني أصبحت أنا والحائط شيئا واحدا. لكني لم أكن أعرف ما الذي سيحدث، إنها لمأساة أن يجهل الإنسان ماذا سيحدث، (لا أقول غدا) وإنما في اللحظة القادمة. إن هذا الجهل كالعمى بل إنه العمى تماما، وإني أراكم الآن تسيرون أمامي بغير عيون. إن عيونكم ليست عيونا، ولكنها ثقوب ينفذ منها الهواء كثقوب الوجوه الكرتونية التي كنت أشتريها يوم العيد.
ما زلت أذكر هذا اليوم، لم يحدث أن نسيته أبدا؛ كمنظر ذلك الجسد بغير رأس وبغير ساقين الذي ما نسيته قط. إن ذاكرتي تحتفظ بكل ما حدث في ذلك اليوم، رغم أنه أصبح بعيدا جدا، ورغم أن سنوات كثيرة مضت، سنوات كثيرة لا أستطيع أن أعدها، فلم أكن تعلمت من الأرقام إلا عشرة، بعدد أصابع اليد. لم يكن المعلم في المدرسة قد علمنا أكثر من هذا حتى ذلك الوقت، لكني رغم السنين الطويلة لا زلت أذكر كل شيء مهما كان هينا، وكل حركة مهما بدت بسيطة. ولم تكن أية حركة من حركات أبي بسيطة. واستطعت أن ألتقط تلك الحركة السريعة الخاطفة في عينيه، ورأيت سواد عينيه يستقر فوق أمي. وكنت لا أزال بين ذراعيها فأخفيت رأسي في صدرها، ولم أعد أرى وجه أبي، لكني أحسست ذراعي أمي حولي تضغط علي بكل قوتها وتحتويني بجسدها، وتتكور حولي وتحوطني، وتخبئني، وكأنما أرادت لو استطاعت أن تضعني داخل صدرها أو داخل أحشائها، بل في رحم الأم ذاته.
وإلى هنا وأصبح أبي عاجزا عن الاحتفاظ بالوجه غير الحقيقي؛ فرفعه بحركة سريعة بيده، ورأيت وجه أبي بفكيه الكبيرين العريضين كوجه الظبي الوحشي. ولأول مرة يصبح وجه أبي أمامي طبيعيا. ولم أعد خائفا كما كنت خائفا من قبل، ولا أدري كيف عادت إلي كل شجاعتي؛ فقلت له بصوت هامس أول الأمر: لا أحبك. وحينما تجمد أمامي لحظة تشجعت أكثر، ورفعت صوتي أكثر، وقلت له: لا أحبك. وحينما سمعت صوتي واضحا بأذني، وتأكدت أنه صوتي؛ تشجعت أكثر وأكثر، وقلت له: لا أحبك. وهكذا استمر بي الحال، حتى وجدت نفسي أصيح بصرخة طويلة متصلة اتصالا لا نهائيا: لا أحبك ...
وقفز فوقي كالنمر المفترس، لكن أمي كانت أسرع منه، وفي غمضة عين أصبحت أمي بجسدها الكبير بيني وبينه. لم أكن أرى وجهها لأني كنت أقف خلفها، لكني أدركت من انقباض عضلات ظهرها وتكورها أنها أصبحت كالنمرة التي تتأهب للانقضاض. ولم أعرف تماما ماذا حدث؛ فقد كفت الأصوات عن أن تكون آدمية، وكل شيء تغير في لحظة أو في ثانية، والثانية أيضا لم تكن هي الثانية؛ فالزمن تغير ولم يعد هو الزمن، وأصبحت عاجزا عن التعرف على أي شيء حولي، بل عجزت عن التعرف على نفسي وحقيقة وجودي حيا أو ميتا، وخيل إلي أنني أموت وأصحو ثم أموت وأصحو عشرات المرات، مئات المرات، آلاف المرات. هكذا إلى ما لا نهاية أموت وأصحو، كأنما سقط جسدي في قاع دوامة تدور بسرعة رهيبة، أسرع من دوران الأرض حول نفسها.
على أن حركة الأرض توقفت تحت قدمي فجأة، وتوقف معها الزمن، وكل شيء توقف وتجمد، وفتحت عيني فرأيت جسد أمي فوق الأرض، كنت أظن أنها نائمة كعادتها حين تنام في الصيف على الأرض، واقتربت منها في وجل وهمست في أذنها: «أمي» لكنها لم ترد، دهشت ... كانت تصحو لأقل صوت، بل كانت تصحو قبل أن يصدر الصوت، وقبل أن تنفرج شفتي عن الكلمة تفتح عينيها وتصحو، بل قبل أن تفتح عينيها كنت أحس جسدها يتحرك قبل أن تتحرك شفتي، وقبل أن أنطق الكلمة، وقبل أن أسمع أنا صوتي تكون هي قد سمعته.
رغم أنني أدركت من حيث لا أدري أنها لن تسمعني بأي شكل؛ فقد ظللت أهمس في أذنها بالكلمة، وحينما جاء أبي ومعه عمي وخالي وحملوها بعيدا عني، وأصبح البيت بغيرها دهشت، ليست تلك الدهشة العادية التي يندهشها الكبار، وإنما هي دهشة الطفل، تلك الدهشة العجيبة، حين تبدو له كل الأشياء غير حقيقية، وأن الذي حدث كالذي لم يحدث، والحلم كالحقيقة، والحقيقة كالحلم. وانتقل أبي إلى بيت آخر وأخذني معه، ومضت الأيام والسنون، وكبرت وشخت ومت، ومع ذلك فلا يزال يخيل إلي أن ما حدث لم يحدث.
وأنه لم يكن إلا الآن فقط، بعد أن ارتفعت فوق الأرض، واستطعت أن أرى الأرض بوضوح، وأراكم بوضوح، الآن فقط أدركت الجريمة العظمى التي ارتكبت في الخفاء ولم يعلم بها أحد. إن الجريمة الأولى في الحياة البشرية لم تكن أن قابيل قتل هابيل، ولكن آدم قتل أمي، قتلها لأني أحببتها ولم أحبه، ويا ليته أدرك أنه كان في إمكاني أن أحبه لو أنه أحبني، لكن أبي كان عاجزا عن الحب، كنت أدرك - رغم أنني طفل - أنه لا يحبني، ولا يحب أمي، وإنما يحب فقط أن يأكل وأن يشبع.
رسالة حب عصرية
أكتب إليك هذه الرسالة يا صديقي كمحاولة لأن تفهمني أو أفهمك أو أفهم نفسي، وقد تكون النتيجة لا شيء، فمن ذا الذي يمكن أن يفهم نفسه أو يفهم الآخر؟ من الذي يمكن أن يكسر القوقعة؟ إن محاولة الكسر ليست إلا تأكيدا لعدم الكسر، ومحاولة الفهم ليست إلا مزيدا من الإغراق في عدم الفهم. ومع كل ذلك أنا أحاول، أدرك عن يقين أن محاولتي عبث، ولكني لا أكف عن المحاولة؛ كالحياة لا أكف عن العيش فيها وأنا أدرك أنني لا محالة ميتة.
قد تدهش وقد لا تدهش لأني أسمي هذه الرسالة رسالة حب؛ فالعلاقة بيننا لم ننطق فيها بكلمة الحب، ربما استخدمنا كلمات أخرى، مثل الود والصداقة والإعزاز، وكلها كلمات بلا معنى، بلا تحديد، فما معنى كلمة «الود» التي وصفنا بها علاقتنا مرة؟ إنها لا تعني شيئا، إنها لا تعني الحب، ولا تعني عدم الحب، وإنما ذلك الشعور المتوسط بين الحب واللاحب، ذلك الموقف المتوسط بين الشيء واللاشيء، حين يحب الإنسان ولا يحب، ويغضب ولا يغضب، ويكره ولا يكره، ويقول ولا يقول، ويمسك الحبل دائما من الوسط. ذلك الموقف المتميع المتوسط في كل شيء، والذي يقدسه أطباء النفس ويطلقون عليه اسم الصحة النفسية. هذه الصحة - في نظرهم - هي أن يكون الإنسان متوسطا في كل شيء، متوسط الذكاء، متوسط الحماس، متوسط الحب، متوسط الكراهية، متوسط الطموح، متوسط الصدق.
ولأن الصدق لا يعرف التوسط فلا بد للإنسان من قدر من الكذب ليحظى من أطباء النفس بلقب السليم نفسيا، ولأن الحب كالصدق لا يعرف التوسط فلا يمكن أن تعني كلمة «الود» شيئا في أية علاقة.
ما هي العلاقة بيننا؟ كيف نشأت؟ هل كانت لها نقطة بداية؟ أو بعبارة أخرى: هل بدأت في أول لقاء أم آخر لقاء أم في المنتصف؟ أحاول الآن أن أستجمع الخيوط في ذاكرتي لأعرف متى كان أول لقاء، وكيف بدت ملامحك أمام عيني، محاولة تبدو لي الآن مستحيلة، كمحاولة تذكر المرة الأولى التي رأيت فيها وجهي في المرآة أو وجه أمي أو أبي، هناك ملامح ما إن تقع عيوننا عليها حتى تبدو وكأنما كانت معنا طول الوقت، كأنها جزء منا أو داخلنا وليست شيئا خارجا عنا. هل تذكر أنت أول مرة رأيتني؟ متى كان ذلك؟ في مكتبك، في مكتبي، في بيتك، في بيتي، في حقل أو في تجمع من تلك التجمعات التي يلتقي فيها دائما هؤلاء المثقفون. تلك الوجوه المشدودة في الابتسام وفي التكشيرة معا، والأشداق المنفوخة في الحديث وفي الصمت، وعضلات البطن المرتخية في الشهيق وفي الزفير، ونظرة العين الشاخصة دائما إلى فوق، مهما كان هذا الفوق، أحمر أو أخضر، ثمينا أو رخيصا.
حين أنظر في عينك لا أشعر أنك تنتمي إلى هذه الطبقة، في عينك أرى نظرة مختلفة، تجعل الأشياء مختلفة، أقل تناقضا؛ فالابتسامة ابتسامة، والتكشيرة تكشيرة، وملامحك تتحرك مع عضلات وجهك بحركة طبيعية تلقائية، لا أراها ولا أشعر بها، وإن كنت أعرف أنها موجودة كحركة الزمن وحركة الأرض وحركة الطائرة لا أشعر بها وأنا داخلها، ولكني أعرف أن الحركة موجودة.
أحيانا تلوح هذه النظرة وأنا نائمة، أو سائرة في الشارع، أو جالسة، أو واقفة، أو راكبة سيارتي، أو منهمكة في عمل. وتظل أمامي بشكل ملح غريب، تخرجني من الحالة التي كنت فيها، وترغمني على أن أتأملها، أن أفهم سبب إلحاحها وأصرفها عني برقة أول الأمر، ثم بشدة ثم بقسوة ثم بغضب يشبه الجنون.
ألحت علي مرة في إصرار شديدة؛ فقلت لنفسي: ربما هو الشعور بالوحدة، مكتبي مزدحم وبيتي مزدحم والقاهرة مزدحمة، ولكنا مثل هذه المدن الكبيرة نعيش الزحام والوحدة معا، بين الواحد والواحد منا - رغم تلاصق الأجساد - جدار سميك، ويرتفع الجدار بارتفاع الإنسان في السلم الاجتماعي. وفي الليل حين تنام المدينة وتغط في النوم، أتلفت حولي كوحيد أو يتيم، أفتح مفكرتي الصغيرة، وتمر عيناي على الأسماء وأرقام التليفونات. أرقام كثيرة وأسماء كثيرة مرتبة حسب الحروف الأبجدية، ومع ذلك ليس هناك من يستطيع أن يبدد الوحدة، هذه المدينة الكبيرة تظل أمامي خالية من الرجال، إنها تكتظ بالذكور، لا يقابل الواحد منهم امرأة وحيدة حتى يفكر في القفز عليها. الحياة في عالمنا صنعت للرجال، ليس فيها ما يمكن أن يؤنس امرأة إلا ذلك النوع من المؤانسة التي لا تؤنسني ولا تطربني، ولا تظهر من الحياة إلا قبحها، ولا من الرجال إلا عورته.
من حين إلى حين يدق جرس تليفوني، ومن حين إلى حين أقبل دعوة رجل، فضول غريزي لاكتشاف الحقيقة، رغبة استطلاع لمعرفة الحياة والناس، محاولة لتبديد الوحدة. أدرك استحالة أن أعيش داخل نفسي، استحالة أن أبقى بغير الآخرين، لو كتبت لنفسي فقط لاختنقت في كلماتي، ولو كلمت نفسي فقط لاحتبس صوتي، ولو نظرت إلى وجهي طول الوقت لفقدت عقلي.
ومع ذلك فأنا أهرب دائما من الآخرين، وأحب الاختفاء بعيدا عنهم، ولكنه اختفاء عن عيونهم من أجل البقاء في أذهانهم، إنه ابتعاد من أجل القرب، وانفصال من أجل الاتصال. وهذه مأساتي، أريد أن أكون ذاتا منفردة منفصلة ، وأريد في الوقت نفسه أن أكون جزءا لا ينفصل عن الآخرين. وهذا التناقض يمزقني، يجعلني جزأين أو اثنين؛ واحدة داخل نفسي بعيدة عن الآخرين، وواحدة خارج نفسي في قلب الآخرين. واحدة ساكنة بغير حركة تراقب حركة الأخرى، أنا أراقب الأخرى أم الأخرى هي التي تراقبني أنا؟ ومن منا الساكنة في الزمان والمكان ومن منا المتحركة داخل الزمن وفوق الأرض؟
وأنشغل بالإجابة على هذه الأسئلة بينما يجلس الرجل صاحب الدعوة أمامي صامتا، ينظر إلي من حين إلى حين ليرقب أية حركة مني أو نظرة تشجعه على أن يقودني إلى السرير. وحينما لا يجد شيئا يندهش، وقد يتساءل ما إذا كنت مصابة بعقد القرن العشرين، وأنني كامرأة الغاب لا أزال أعشق الاغتصاب والأنين.
لا يمكن أن أنكر أن فكرة الاغتصاب لها عندي - كفكرة الانتحار - جاذبية وحنين. وفي أعماقي من القرون الوسطى - مهما صارعت - بقايا أو بذور، لكني لا أنتحر أبدا، ولا أحد يمكن أن يغتصبني. مهما تأزمت الحياة واختنقت لا أنتحر، ومهما رغبني رجل حتى الموت لا يستطيع. لست كما قلت لي مرة إنني أقتل الرجل أو أخصيه، ولكني أستطيع دائما أن أثبت عيني في عينه، وأستطيع دائما أن أرى العضلة حول فمه ترتعش، وأصابع يده حول يدي ترتعش. قد لا تكون إلا رعشة سريعة لا تستغرق إلا لحظة أو جزءا من اللحظة، لكنها تكفي دائما لأن أراها، ولأن تنهزم إرادته أمام إرادتي، وتصبح قوته العضلية - بل قوة رجال العالم أجمع - عاجزة عن أن تجعل عضلات يدي تلين تحت يده.
قلت لي مرة إنني امرأة قوية، والحقيقة أنني لست قوية دائما، أحيانا أترك يدي تلين، وأحيانا أشعر بالضياع كذرة صغيرة في قبضة خضم وحشي أو كائن ضخم كالقدر مفترس، وأشعر أنني عاجزة عن صنع شيء بإرادتي أو اختياري، وأنني عاجزة عن الإمساك بالحقيقة والواقع. سألتني مرة عن أحلامي، والحقيقة أنني أعيش معظم الوقت في أحلامي، أحلامي هي التي أختارها وأغيرها، أما الواقع فهو يغيرني بغير اختياري. ولم أعد أرى الواقع واقعا إلا إذا كان له جذور في أحلامي، أعترف لك أن عقلي الباطن أكثر قوة من عقلي الظاهر، وفي معظم الأحيان أنا أطيعه.
في حلم من أحلامي رأيتك، كنت تجلس معي في مكان بعيد جدا عن الناس، مغلق علينا وحدنا، شيء لم يحدث لنا في الواقع أبدا، وكنت أجلس بالقرب منك. في أعماقي حركة عنيفة وعلى السطح هدوء وسكون، ونوع من السعادة الغامضة الحزينة، ونبض صامت في الجسد، ونشوة عارمة ورغبة شديدة إلى حد عدم الرغبة في شيء. ولم أعرف بالضبط ماذا كنت أريد، أن تظل عيناك في عيني إلى الأبد؟ أن ترتفع ذراعاك فتحوطني وتخفيني في أعماقك إلى الأبد؟ وأفتح عيني من النوم لكنك تظل في مكانك بالقرب مني، وأغمض عيني لأتخلص منك، لكنك تظل موجودا بالقرب مني، تكاد تلمسني ولا تلمسني، تكاد تتركني ولا تتركني، لماذا؟ لماذا لم تكن تتركني؟ هل بينك وبيني شيء إجباري؟ هل أجبرك أحد؟ أو هل أجبرني أحد؟ أعرف أنه لا أحد، لا أحد على الإطلاق، ومع ذلك لا أستطيع أن أقول إنني أذهب إليك باختياري وإرادتي، أو أن علاقتي بك ليست مفروضة علي، كالهواء يدخل صدري ويخرج، والدم يتحرك في عروقي.
هذا الجانب اللاإرادي في علاقتي بك يثير تمردي؛ فأنا أعبد حريتي، وهذا هو السبب في أنني أثور عليك، وأحيانا أقول لك لن أراك بعد هذه المرة، أو أحاول أن أجمع لك الأخطاء وأستقطب زلات اللسان. وقد أتهمك بما أتهم به الرجال الآخرين، لكنها ثورة فاشلة دائما، تشبه ثورتي على نفسي أحيانا، ورغبتي في إلقاء جسدي أحيانا من النافذة والتخلص منه إلى الأبد. والنتيجة دائما واحدة، وهي أن جسدي يظل ملتصقا بي فوق المقعد، وأنت تظل في مكانك أمام عيني، وبالقرب مني تكاد تلمسني لكنك لا تلمسني، لماذا لم تلمسني أبدا؟ هل أنت مجرد طيف؟ أم لك وجود حقيقي؟
أحيانا حين كنت توصلني إلى الباب كنت أحس كأنما هناك حركة سريعة من يدك فوق يدي، أو من ذراعك حول خصري، لم تكن حركة، وإنما هي لمسة خفيفة سريعة، ما إن تحدث حتى تنتهي، بل لعلها لم تكن أيضا لمسة؛ لأن مسافة ما كانت تظل دائما بين يديك وجسمي، مسافة صغيرة جدا كالشعرة، ولكنها كافية دائما لأن تفصلنا، ولأن تبدد عندي لحظة اليقين. وأسأل نفسي مرة أخرى أحقيقة هو أم حلم؟ لماذا تظل دائما هذه المسافة؟ أهو خوفي منك؟ أم خوفك مني؟ وهل هناك حقا ما يخيف؟
أردت مرة أن أبدد الحلم وأمد يدي وأمسك باليقين، دعوتك عندي في بيتي، هل تذكر التاريخ؟ وسمعت في صوتك ذبذبة غامضة تشبه الدهشة أو التردد أو الخوف أو عدم اليقين. ولم تأت ولم أسألك لماذا. كنت أعرف أنك مثلي تريد دائما أن تتأرجح بين الشك واليقين.
أهناك شيء يبدد الشك؟ أهناك دليل على شيء؟ ما من نقطة محدودة بيني وبينك أستطيع الإمساك بها، ولا كلمة تصلح، ولا لغة، ولا حركة، ولا لمسة، ولا شيء بيننا على الإطلاق يؤكد أي شيء. ولكن هناك شيء واحد أنا على يقين منه (وهذا أيضا غير قابل للإثبات)، وهو أنك تشعر نحوي تماما بما أشعر به نحوك، وبالقدر نفسه، وبالشكل نفسه، وفي اللحظة نفسها. هل أنا مخطئة؟ قد أكون وقد لا أكون.
وهكذا أنا دائما يا صديقي، أقترب منك وأبتعد، أظهر وأختفي، أتقدم إلى الأمام ثم أتراجع، أصمم على المواجهة ثم أهرب. واليوم يمر وراء اليوم، والشهر وراء الشهر، عشرون شهرا أو أكثر. قلت لي مرة إن الأيام من حياتي تمر، واليوم الذي يذهب لا يعود، وأنني أضيع عمري بحثا عن المستحيل أو عن المطلق، وأن أحدا لن يملأ عيني إلا الله. كنت في ذلك اليوم أخفي عيني وراء نظارة كبيرة، وطلبت مني أن أخلع النظارة؛ فخلعتها، وأصبحت عيناك في عيني، وكدت أعرف وأقول إنك في حياتي الحقيقة واليقين، لكن جرس التليفون دق أو جرس الباب أو حركة ما حدثت. ربما أطل علينا وجه طفل من أطفالك، ربما أنت حركت عينيك بعيدا عن عيني، ربما أنت حركت رأسك أو ذراعك، وخيل إلي أنك تنظر في الساعة.
حركة ما سريعة - عن قصد أو عن غير قصد - لم تستغرق أكثر من ثانية أو جزء من الثانية، ولكنها كانت كافية لأن تمزق الشعرة الحريرية الرقيقة التي يمتد فوقها الإحساس باليقين.
قلت لي مرة إنني من الحياة أهرب، وعن الحب أعجز، وأنني مصابة بمرض العصر، وأنني في حاجة إلى أقراص أو دواء، أو شيء من هذا القبيل. ودهشت ولم أدهش، وحزنت على نفسي ولم أحزن، وأوشكت أن أحس المرض وأبتلع أقراص نهاية القرن العشرين. وسألتني مرة أو أكثر من مرة لماذا لا أبتلع الأقراص ككل المثقفين؟ ولكني يا صديقي لا أنتمي إلى هذا العصر، ولست من هؤلاء المثقفين، ولا أقرأ الصحف كما يقرءون، وعيناي تغمضان - رغم أنفي - حين تلمحان الصحف، وأذناي تنغلقان حين يرتفع في الجو صوت قراءة الأخبار. وحين أسير في الشارع لا أرى الوجوه، وأبدو للناس كالعمياء الصماء لكني يا صديقي لست عمياء ولست صماء. أنا أرى كل وجه يمر أمامي، وأقرأ كل حرف يسطر على وجه الأرض، وأسمع كل صوت، وإن كان دبيب النملة أو دقة قلب يتيم في صدر طفل. هل تظن أنني أهذي؟ هل تظن حقيقة أنني لا أرى؟ ولكنني رأيتك مرة وأنا أسير في شارع التحرير. كانت سيارتك مسرعة، وكل السيارات مسرعة، وكان وجهك مرهقا، وكل الوجوه مرهقة، وكانت عيناك حزينتين، وكل العيون حزينة، وكان الزحام شديدا والأجسام متلاصقة والعربات متلاصقة، والهواء راكد لاصق، والكل يلهث عرقا في الخضم، والكل يكاد يختنق ويصرخ مستغيثا طلبا للنجاة. لكن أحدا لا يرى أحدا، ولا أحد يسمع أحدا، ولا أحد ينقذ أحدا.
استطعت - رغم السرعة - أن أتأمل وجهك لحظة خاطفة، لم تكن ملامحك هي ملامحك، ولم تكن عيناك هما عينيك. وقلت لنفسي هو أم ليس هو؟ واستدرت خلفي بسرعة، كانت سيارتك قد اختفت في الخضم، لكني استطعت أن ألتقط الرقم، ووقفت لحظة جامدة، كنت أسأل نفسي من أين هو قادم؟ وإلى أين هو ذاهب؟ ولماذا هو يجري مسرعا؟!
كنت أعرف أنك قادم من مكتبك، وأنك ذاهب إلى بيتك، أو إلى موعد مع كبير أو صغير، مع مريض أو سليم. كنت أعرف كل ذلك، لكني وقفت أتلفت حولي في ذهول كأنني لا أعرف شيئا.
ثم سرت في طريقي مرة أخرى، رأسي ثقيل وقلبي ثقيل، وذلك الاكتئاب البارد الزاحف، وسؤال بغير جواب: لماذا كل هذا؟ ومن أجل ماذا؟ أهو الجري وراء المال؟ أهو السعي وراء السلطة؟ أهو البحث وراء الشهرة؟ ولكن عندك من كل هذا الكثير، فماذا إذن؟ أهو الحب؟ ولكن أيمكن للحب أن يجعل الوجه مرهقا والعينين حزينتين؟
وأحسست أنني أكره هذه المدينة، وأكره هذه الوجوه، وأكره هذه العيون، وأكره عقارب الساعة، وكل شيء. حاولت من شدة الكراهية أن أغلق عيني وأغلق أذني وأغلق مسام جسدي. رغبة عارمة في الجري بأقصى سرعتي والابتعاد عن كل شيء. رغبة عارمة في الانفصال عن الكون إلى حد الموت.
لكن شيئا واحدا لم أرغبه؛ أن يضيع مني في الزحام وجهك، وأن تختفي من أمامي في الزمن عيناك. تعرف يا صديقي أنني لا أرغب منك شيئا؛ فأنا آكل وأشرب وأنام، وأمارس الجنس، وأقود سيارة مثل سيارتك، ولكني لا أريد أن تضيع مني في هذا الخضم. الحياة أمامي من غيرك كفيلم صامت غير ملون، أبيض وأسود فحسب، ولكن كل شيء معك يتغير، وتعود الألوان، وتصبح الأشياء كلها ملونة بجميع ألوان الطيف.
في هذه اللحظة أود لو ارتفعت يدي، وحوطت أصابعي يديك، لو تحول عمري كله إلى أصابع رقيقة حانية ولامست وجهك، لو تمزق جسدي كله إلى ملايين الأنامل الصغيرة الدقيقة ومسحت الإرهاق في عينيك. أيمكن بعد كل هذا أن تتهمني بالعجز عن الحب؟ أيمكن أن تقول لي مرة أخرى إنني لا أفهم وليس عندي ذكاء فطري؟ أيمكن أن تفهمني قليلا أو أفهمك قليلا؟ أرجو ذلك، بل لا بد!
القناع
تنبهت فجأة فرأيت نفسي جالسة وأمامي زجاجة خمر لم يبق منها إلا القليل، ومطفأة سجائر مليئة بأعقاب سجائر من نوع غريب لم أره من قبل، لكني تذكرت على الفور أنها سجائري الجديدة التي أصبحت أدخنها منذ ثلاثة أعوام أو أربعة.
رفعت رأسي من فوق المطفأة فرأيت رجلا لم أره من قبل أبدا، كان عاريا إلا من ثوب حريري مفتوح يطل منه صدر مشعر، وفخذان مشعرتان. بين الصدر والفخذين سروال مخطط ضيق ملتصق باللحم. رفعت عيني المذهولتين إلى وجهه، الآن فقط أدركت أنني رأيته من قبل، ظلت عيناي في عينيه لحظة وابتسمت ابتسامة غريبة تلقائية، وخاطفة في سرعتها كسرعة الضوء، أو كسرعة التيار الكهربائي، لا تترك وراءها إلا نوعا عجيبا من الحيرة؛ كحيرة الإنسان الأزلية في بحثه عن الله أو السعادة. لماذا يحدث ذلك الخلل في الكون وفي جسدي في تلك اللحظة بالذات، مع أن عيني تلتقيان بمئات العيون أو الآلاف كل يوم؟! ويظل الكون كما هو ويظل جسدي كما هو كحيرة الإنسان الأزلية، لكنها سرعان ما تنتهي ويعود الكون إلى ما كان عليه، ويعود جسدي إلى ما كان عليه، وتمضي الحياة ككل يوم، ثلاثة أعوام أو أربعة منذ رأيته لأول مرة، وأكاد أنساه تماما في زحمة العمل والبيت والناس.
هبطت عيناي مرة أخرى إلى جسده العاري وفخذيه المشعرتين، وجهي وأنا أنظر إلى جسده ليس هو وجهي وأنا أنظر في عينيه، مشكلتي أن ما أحسه في أعماقي يظهر فوق وجهي على الفور. عيناه هما الجزء الوحيد من جسده الذي أرتبط به ارتباطا حقيقيا. وتتبدد الغرابة والوحشة، وتصبح علاقتي به علاقة حقيقية وسط عديد من العلاقات غير الحقيقية. ثلاث سنوات - ربما أربع - وفي كل مرة ألتقي به صدفة في شارع أو مكتب أو ممر، أتوقف لحظة لأندهش وأتحير، ثم أسير في طريقي وأنا أعلم أنها علاقة شديدة الغرابة، لكنها في الوقت نفسه مألوفة ومقبولة وسط عديد من العلاقات غير المقبولة.
وحينما أصبحنا نلتقي بصفة منتظمة أو شبه منتظمة، لم تكن علاقتي به تمتد إلى أجزاء أخرى من جسده غير عينيه، ساعات طويلة نجلسها ونتحدث، دون أن تتحول عيناي عن عينيه، نوع من لقاء العقل له متعة، ولكن تظل المتعة ينقصها شيء، ما هو هذا الشيء ؟
قلت لنفسي: ربما هي رغبة الجسد في لقاء الجسد؟ ولم لا؟ أليس هو في النهاية رجلا وأنا امرأة؟ وبدت لي الفكرة جديدة - بل وغريبة - وتملكني استطلاع رهيب. ترى ماذا يكون لقاء جسدي بجسده؟ رغبة استطلاعية عنيفة قد تكون أحيانا أعنف من رغبة الحب، وقد تدفعني أحيانا إلى لقاء بغير حب لمجرد إشباع الاستطلاع، وفي كل مرة أشعر بالنفور، ويتأكد عقلي من أن جسدي ينفر من جسد الرجل إلا في حالة واحدة، هي حالة الحب.
كنت أعرف سبب النفور؛ فهو نفور طبيعي لا علاقة له بالجسد وإنما له علاقة بالتاريخ، بقدر ما عبد الرجل ذكورته بقدر ما نفرت منه المرأة. نفور النساء هو الوجه الآخر لعبادة الإله الذكر. ولم تكن من قوة في العالم تزيل نفور المرأة إلا أن ينتصر الحب على الإله الذكر، ويعود التاريخ إلى ما قبل ستة آلاف عام، حين كانت الإلهة أنثى. أينتصر الحب؟ وهل تكون العلاقة بيننا حبا؟ لم أكن أعرف. لم يكن عندي دليل، وهل للحب دليل؟ تلك الرغبة التي تطفو أحيانا على سطح حياتي المزدحمة في أن أنظر في عينيه؛ كمن يذهب من حين إلى حين إلى عين ماء مقدسة، يركع ويصلي ثم يعود، لم أكن أركع ولا أصلي، ولا أعترف بإله غير عقلي داخل رأسي، ما الذي كان يشدني إلى عينيه؟
أيكون الحب أسطورة كأسطورة آدم وحواء وسندريلا والعنقاء والشاطر حسن؟ كل الأساطير انتهت وسقط عنها القناع، أقنعة كثيرة سقطت أمام عقلي وهو يكبر، وعند سقوط كل قناع أبكي بالليل حزنا على الوهم الجميل الذي ضاع، لكني في الصباح أرى عيني لامعتين غسلتهما الدموع كما يغسل الندى الزهر والياسمين والورد. وأترك المرآة وأمشي فوق القناع الساقط على الأرض، وأدوس عليه بقوة جديدة تزيد عن قوة الأمس.
ملأ لي الكأس العاشر أو العشرين، اهتزت يدي قليلا وأنا أمسك الكأس، لكن الإله داخل رأسي جالس ثابت لا يتحرك كأبي الهول، وعيناي لا تزالان في عينيه لا تتحولان عنهما، بالرغم من أنني أدركت - من حيث لا أعلم - تماما أنه لم يعد مرتديا الثوب الحريري، ويبدو أيضا أنه لم يعد مرتديا السروال الضيق المخطط.
لاحظت أن جسده أبيض مشرب بحمرة، يوحي بقوة ونضارة، ونظافة يومية، وحسن تغذية، ولا بد أن عيني كانتا لا تزالان شاخصتين إلى عينيه؛ لأنني أدركت بعد لحظة أنه أمسك رأسي بيده وحركه بحيث تسقط عيني فوق جسده.
وتأملته مرة أخرى بعينين سليمتي النظر 6/ 6، ورأيت مرة أخرى القوة والنضارة والنظافة والتغذية الحسنة، وكدت أعبر له عن رأيي فيما أراه من حيث النضارة والقوة والنظافة والتغذية الحسنة.
لكن عيني ارتفعتا والتقتا بعينيه، ولم أعرف هل كان ينظر إلي بدهشة، أم أن الدهشة كانت في عيني أنا، وقلت لنفسي: لا بد أنه موقف يدعو إلى الدهشة؛ فالساعة جاوزت الثالثة صباحا، وزجاجة الخمر فرغت، والبيت ليس فيه أحد، والعالم من الخارج صامت مظلم ميت ساقط ليس في العدم، فما الذي يحول بين جسدي وجسده؟!
حينما حركت رأسي ناحيته رأيته جالسا مرتديا الثوب وحزام الثواب مربوط بعناية حول خصره، يخفي صدره وفخذيه، ولم أعد أرى منه إلا رأسه وعنقه وقدميه داخل خف منزلي خفيف. وجهه من الجانب مرهق، كأنما أرهق أو شاخ فجأة، وتهدلت بعض الشيء ملامحه كطفل يريد أن ينام بعد أن أعياه السهر. امتدت يدي كيد الأم تربت على وجه الطفل (طفلها)، وقبلة أمومية حانية فوق جبهته.
خرجت إلى الشارع، أرفع وجهي الساخن لنسمة الفجر الباردة الرطبة، إحساس خفي بالزهو يمتزج بإحساس غريب بالحزن. وضعت رأسي على وسادتي، عيناي مفتوحتان مبللتان بدموع، عقلي ينتصر على الخمر، حتى أسلم رأسي للوسادة فتغلب الخمر وينتصر الحزن على الزهو.
حينما فتحت عيني في اليوم التالي كانت الخمر قد تبددت، وانقشعت عن عيني الغشاوة، نظرت في المرآة إلى عيني اللامعتين المغسولتين بالدموع. كدت أترك المرآة ككل مرة وأدوس على القناع الساقط تحت قدمي، وأمشي فوقه بقوة جديدة، لكني لم أتحرك من مكاني. انثنى جسدي والتقطت القناع من فوق الأرض، ووضعته مرة أخرى على وجهي.
اعتراف رجولي
املئي لي كأسا أخرى من الخمر مع كثير من الثلج، ودعيني أتكلم ولا تقاطعيني. يمكنك من حين إلى حين أن تمري بيدك فوق رأسي أو عنقي أو صدري أو ما تشائين من جسدي، بشرط ألا تعطليني عن الكلام؛ فأنا الليلة جئت إليك لأعترف لك بكل ما لا يمكن أن أعترف به لأحد، ولو كان هو مندوب الله على الأرض.
أنا في الحقيقة لا أومن بهؤلاء المندوبين، وأشعر بكراهية لأي وسيط بيني وبين الله، ليس معنى ذلك أنني متكبر أو متغطرس أو أتعامل مع الناس بعنجهية، العكس هو الصحيح؛ فأنا متواضع رحيم، أشفق على كل الناس، وأشفق على نفسي كواحد من هؤلاء الناس.
إن شفقتي على نفسي ليس لها حدود؛ لأنني أحب نفسي، وأعترف لك أن حبي الحقيقي الوحيد هو حبي لنفسي، وقعت في حبي لنفسي منذ ولدتني أمي، ولمعت عيناها وهي تقول لأبي: إنه ذكر. أحببت ذكورتي، وأدركت منذ البداية أنها سبب تميزي، وكان علي دائما أن أثبت وجودها، وأعلن عنها، وأبرزها للناس؛ لتكون واضحة ومرئية، وثابتة ثبوتا لا يقبل الشك.
ذات يوم، وأنا طفل صغير، كنت أقف إلى جوار أبي في الشارع، فإذا بقدم كبيرة ضخمة تدوس على إصبعي، وصرخت من الألم: «أي!»، ونظر إلي أبي في امتعاض، وقال بغلظة: «الرجل لا يقول «أي» أبدا.» ومنذ ذلك اليوم لم أقل «أي» أبدا. كنت أحسس الألم والدموع حين أتألم أو يضربني أحد، وأشد عضلات ظهري وعنقي، وأقول لنفسي: أنا رجل.
وذات مرة أخذ الطبيب يعبث بمشرطه الحاد في بطن قدمي ليخرج منه قطعة زجاج، وشعرت بلحمي يتمزق والدم يسيل، وغرقت من شدة الألم في بحر من العرق، ولم أنطق «أي». وفي تلك الليلة بعد أن نمت ونام الجميع، وجدتني أبكي في الحلم وأهمس لنفسي بصوت خافت: «أي! أي!» حتى الصباح.
وحين استيقظ الجميع واستيقظت، شددت عضلات ظهري وعنقي، وارتديت ذكورتي، وسرت مزهوا بها، أقول لنفسي: «أنا رجل!» ماذا تقولين يا سيدتي؟ قدمي ناعمة وأصابعي ناعمة كأصابعك. هذا صحيح؛ فأنا أنتمي إلى الطبقة المستريحة، بورجوازي بمعنى آخر، ولا أستخدم أصابعي إلا في الإمساك بكأس من الخمر، أو التوقيع باسمي على بعض الأوراق في المكتب، أو التلويح بيدي للأصدقاء. أصدقائي كثيرون كما تعرفين، وأنا أحبهم جميعا كما أحب كل الناس؛ أي إنني لا أحب أحدا. ليس معنى ذلك أنني أكرههم، ولكني مشغول دائما، ومستغرق دائما في حب نفسي، وأنا مستعد في أي وقت للدفاع عن نفسي وبأية وسيلة، وإن كانت جريمة قتل.
لا تنظري إلي هكذا كأنما أنا المجرم الوحيد على الأرض، الجريمة في حياتنا نحن الرجال ضرورة، إنها الوسيلة الممكنة الوحيدة ليثبت الرجل منا أنه رجل. ولأن الجريمة تحتاج إلى جرأة أو سلطة فأنا عاجز دائما عن أن أكون مجرما، وليس أمامي إلا أحلام اليقظة، وتخيل نفسي بطلا مغوارا أفصل الرءوس عن الأجساد بخبطة سريعة من سيفي. نحن الرجال نعجب بالقتلة إعجابا شديدا، والرجل منا لا يمكن أن يعجب برجل آخر دون أن يكرهه، وهذا هو سبب الانقباض النفسي الذي أشعر به وأنا بين الرجال المهمين من ذوي السلطة؛ ولهذا أنا أهرب من مجالس الرجال المحترمين وأشعر براحة نفسية في مجالس الرجال غير المحترمين، ولكني بصفة عامة أفضل مجالس النساء؛ فالمرأة مهما ارتفع شأنها تظل لي ميزة عليها وهي ذكورتي، ماذا تقولين؟ أرجوك لا تقاطعيني واملئي لي كأسا أخرى من الخمر مع كثير من الثلج، ودعيني أتخفف من جرائمي التي تثقل قلبي.
لا أكذب عليك، جرائمي كلها إنسانية؛ لأن لها هدفا واحدا هو إثبات أنني رجل، ولا يمكن للرجل منا أن يثبت رجولته إلا بانتصاره على الرجال الآخرين. وهكذا لم يكن لي مفر من الدخول في الصراع الأبدي، الصراع مع أي رجل غيري، في حجرة الاجتماعات أو في حجرة النوم سيان؛ فالصراع واحد لا يتغير، ولأنني في حجرة الاجتماعات أفتقد الجرأة والسلطة فلم يكن أمامي إلا حجرات النوم، لا تقولي عني: إنني ذئب أو صياد نساء؛ فأنا رجل متزوج، أحب زوجتي كما أحببت أمي. هذا النوع من الحب الروحي المقدس؛ أي الحب الذي آخذ منه كل شيء ولا أعطي شيئا، وهذا هو الحب المثالي. زوجتي هي الشخص الوحيد (وقبلها كانت أمي) التي أستطيع أن أغضب معها، وأشخط فيها بحرية؛ والسبب معروف فهي لا تستطيع أن ترد علي غضبي بغضب مماثل. نحن الرجال لا نستطيع أن نعلن عن غضبنا أمام هؤلاء الذين يستطيعون الغضب منا. لم أغضب أبدا أمام رئيسي، ولكني أغضب بسرعة أمام أمي. أما مع زوجتي فأنا أغضب وأشخط بحرية، وكذلك أغضب بكل حرية مع أولادي؛ هؤلاء جميعا أنا أعولهم وأطعمهم، وإن غضبوا مني فلن يجدوا بديلا لي.
وهذا هو هدف الزواج؛ فكيف كان يمكن للرجال بغير الزواج أن ينفسوا عن غضبهم؟ إن أفقر رجل في أحط طبقة اجتماعية يعود في النهاية إلى زوجته ليغضب وليشعر أنه رجل، ماذا تقولين يا عزيزتي؟
رفضت أن تتزوجي لهذا السبب، أنت امرأة ذكية، لا أظن أن الذكاء وحده هو الذي يجذبني إلى فراشك من دون نساء الأرض، لماذا أنت بالذات أعترف لك كما يعترف العبد أمام الإله؟ لماذا أتسلل من فراش زوجتي كل ليلة لآتي إليك؟ لا أكذب عليك، ليس هو الحب؛ فأنا - كما ذكرت لك - قد وقعت في حب نفسي منذ البداية وانتهى الأمر.
السبب يا عزيزتي هو أنك الشخص الوحيد الذي لست مضطرا لأن أثبت له أنني رجل، هذا السبب لم يكن واضحا لي أول الأمر، وكنت أتساءل دائما بيني وبين نفسي: ما الذي يربطني بهذه المرأة؟ وكنت أتساءل دائما: لماذا أحتاج إليها هذه الحاجة الشديدة؟ وقد عرفت السبب في تلك الليلة، أتذكرين؟ الليلة التي جئت إليك بعد هزيمة ساحقة أمام منافسي في الانتخابات ومشادة عنيفة مع زوجتي حين رأيتها عارية بين ذراعي صديقي. جئت إليك وبكيت بين ذراعيك وأحسست وأنا أبكي أن هذه الدموع محبوسة داخلي كالبخار المضغوط منذ نهرني أبي وأنا طفل وقال لي: الرجل لا يقول «أي» أبدا. تلك الليلة رأيت دموعي تنهمر كالنهر، وسمعت صوتي يهتف «أي» عشرات المرات، مئات المرات، وحين أفقت وجدت رأسي عند قدميك جاثيا في محرابك كما يجثو الإنسان في معبد الإله. ماذا تقولين يا عزيزتي؟ رأيت على وجهي أول ابتسامة حقيقية؟ قلت لك إنها أسعد ليلة في حياتي؟ هذا صحيح، لقد اكتشفت لأول مرة في حياتي أني كنت أبله، إنني كدت - وأنا صبي - أن أفقد عينا من عيني في معركة صبيانية لأثبت أنني رجل، إنني وأنا شاب كدت أفقد حياتي عدة مرات بسبب استعدادي الدائم للمبارزة، إنني وأنا كهل كدت أن أفقد قواي العقلية بسبب انهزامي أمام منافسي، ثم خيانة زوجتي لي. كل شيء في تلك الليلة تغير، وسقط القناع المزيف الذي سموه الرجولة، وبدأت أرى نفسي على حقيقتها، وأكتشف لأول مرة أنني لست مضطرا لأن أثبت لنفسي أو لغيري أنني رجل، فما معنى كلمة رجل؟ وكان هذا الاكتشاف هو أسعد لحظة في حياتي. من شدة سعادتي أخذت أقبلك وألثمك وألثم قدميك، وأمرغ أنفي ببطن قدميك وأبكي، وأستعذب طعم دموعي ووضعي السفلي تحت قدميك، ماذا تقولين؟ اعترفت لك بحبي في تلك الليلة، نعم يا عزيزتي قلت لك: إنني أحبك، ولكني أعترف لك أنني بمجرد أن خرجت من عندك وعدت إلى بيتي ومكتبي شعرت بالخجل من نفسي، فخجلت حين تذكرت أنني كشفت أمامك عن الجزء المكبوت من نفسي، الجزء الأنثوي، الجزء الذي يخفيه كل الرجال عن الأعين كالعورة. ومن شدة الخجل قررت بيني وبين نفسي ألا أراك مرة أخرى، ولكن عدت إليك في الليلة التالية والتي تلتها وكل الليالي بغير انقطاع. أعرف أنني مشدود إليك بقوة رغبتي في ألا أكون رجلا وأن أكون نفسي كما هي، ولكني مشدود أيضا إلى ذلك العالم الذكوري المزيف، أضع فيه القناع، وآخذ مكاني في الصف، وألعب دوري. أضرب ضربتي حين لا يملك الآخر ضربي، وأتلقى الضربة من الواقف فوقي دون أن أرد، وأكتم غضبي حتى أعود إلى زوجتي، وأحبس دموعي حتى أجيء إليك. إنها قسمة عادلة يا عزيزتي؛ فالرجل منا يحتاج إلى امرأتين على الأقل: امرأة يستطيع أن يغضب أمامها وامرأة يبكي في حجرها، ماذا تقولين يا عزيزتي؟ نعم، زوجتي تحبني ، وهي تخونني من شدة حبها لي. لم أكن مقتنعا بهذه الحقيقة ولكني اقتنعت بها، وتعلقت بزوجتي واشتهيتها أكثر وأكثر، نعم، اشتهيتها أكثر يا عزيزتي؛ لأنني عن طريقها اكتشفت شيئا جديدا لم يكن في إمكاني اكتشافه، اكتشفت أنني لست الرجل الوحيد على الأرض. أعترف لك أنني شعرت براحة شديدة لهذا الاكتشاف، راحة الاستسلام للحقيقة التي كنت عاجزا عن الاستسلام لها، رائحة لو ذاقها الرجال مرة واحدة لدفعوا زوجاتهم إلى خيانتهم بأسرع ما يمكن. كم ضيعت من السنين وأنا أفتقد هذه الراحة يا عزيزتي.
ماذا تقولين؟ أنا تأخرت جدا، نعم نعم، ولكني أكثر حظا من غيري، هناك رجل يموت وهو لا يزال متصورا أنه الرجل الوحيد على الأرض.
ماذا تقولين؟ المرأة تعرف هذه الحقيقة منذ البداية، نعم يا عزيزتي، المرأة أذكى من الرجل؛ إنها تعلم دائما أنها ليست المرأة الوحيدة على الأرض. املئي لي كأسا أخرى مع كثير من الثلج، ودعيني أموت بين ذراعيك ولا تقاطعيني.
رسالة خاصة إلى صديق فنان
ما دمت قد فتحت قلبك وعاتبتني ذلك العتاب القاسي إلى حد الرقة، والذي أبكتني رقته أكثر مما أبكتني قسوته؛ ما دمت قد فعلت ذلك، فقد أصبح من حقي أن أعاتبك عتاب فنانة لفنان، وصديقة لصديق حميم. لم يكن الشعور الحميم بينهما إلا إحساسا عميقا مستقرا في أغوار النفس، رقيقا وشفافا شفافية الهواء النقي، بقدر ما نحسه في العمق كبيرا يكاد يملأنا بقدر ما نعجز عن الإمساك به في لحظة حقيقية واحدة. ويبدو أن هذه هي الصفة الوحيدة للشعور الحميم الحقيقي، إنه بقدر ما يكون حقيقيا يبدو لنا كالحلم.
ما دمت قد فعلت بي كل ذلك فاسمح لي أن أعاتبك، وأنا لم أعاتب أحدا من قبل، حتى أبي وأمي لم أعاتبهما؛ لأنهما أتيا بي بغير إرادتي، حتى الله لا أعاتبه لأنه يأخذني بغير إرادتي، لا أعاتب أحدا؛ لا رجلا ولا امرأة ولا إلها، ولا أعاتب في الحب ولا في الكراهية، وكم من أذى أصابني من الحب أكثر مما أصابني من الكراهية.
ولكنك أصبحت أحد هؤلاء القلائل النادرين في حياتي، الذين حين أمسك القلم فأنا لا أكتب ليقرأ الناس، ولكني أكتب لشخص واحد بالذات؛ ليقرأ هو وحده دون جميع الناس، وبغير أن يكون هناك ناس على الإطلاق.
شيء عميق وخاص شديد الخصوصية أعجز أحيانا عن أن أكتبه لنفسي لو حاولت؛ كالجرح العميق الغائر في الجسد، كالبئر السحيقة وأنا فيها ساقطة حتى القاع، حتى النخاع، أحس الألم في عظام رأسي. أهو قدري أن أكون شيئا آخر غير ما أراده لي القدر، أن لا أكون أنثى (بمفهوم العالم للأنثى)، وأن لا أكون طبيبة (حسب تخرجي في كلية الطب)؟ أهو قدري أن أكون إنسانة قبل أن أكون أنثى، وأن أكون فنانة قبل أن أكون طبيبة؟
منذ ولدت وصراعي أحسه كأنه صراع مع القدر ذاته، لكني أدرك بإحساس آخر أن القدر معي، وأن القدر هو الذي أرادني فنانة وأرادني إنسانة، فما هي القوة الأخرى إذن التي أرادتني أنثى وطبيبة؟ أهناك قدر آخر غير القدر الذي نعرفه؟
وعشت سنوات حياتي كالمشدود بين قدرين؛ كقطعة اللحم ممسوكة بين فكين ضاريين. أحاول الإفلات والهرب، وأظن أحيانا أنني هربت وأنني أنقذت، وأتنفس بعمق وأنا أمسك القلم لأسكب نفسي فوق الورق صدقا بديهيا بداهة الموت، بسيطا كابتسامة تلقائية في وجه طفل. وأظن بسذاجة طفل أنني لم أفعل شيئا ذا بال، حتى الكلمات فوق الورق تبدو لي قليلة أقل من نفسي وأضعف، لكن العالم من حولي ينتفض ذعرا، كأنما الصدق لم يعد كلمة وإنما وحش مفترس، والحقيقة أصبحت كالموت أو أكثر من الموت.
وهل هناك ما هو أكثر من الموت في حياتنا؟ أم أن حياتنا نفسها قد تصبح أحيانا أكثر من الموت؟ كنت أسأل نفسي هذا السؤال فلم أعرف له إجابة في حياتي أو في موتي، ولم أكن أعرف في معظم الأحيان الفارق بين أن أحيا أو أموت، وحياتي تبدو لي أحيانا كالموت، والموت يصبح في عيني فجأة كالأمل الوحيد في أن أحيا.
ألم عميق يصل إلى أعمق مما يمكن أن يصل إليه أي سكين. وأتلفت حولي كأنما أبحث عن آخرين مثلي يحملون السكين في أجسادهم، كأنما أبحث عن شخص واحد غيري يقول لي: نعم، أنت على حق والعالم مخطئ، أنت تقولين الصدق والعالم يكذب.
نادرون جدا هؤلاء، ندرة الكلمة الصادقة تضيع بين السماء والأرض؛ كقطرة ماء تضيع في بحر، كخفقة قلب، حقيقة تضيع في أغوار الصدر فلا يعثر الواحد منا عليها لو أراد. وكم من مرة يخفق القلب خفقة حقيقية واحدة وسط ملايين الدقات والضربات. في كل دقيقة يدق القلب سبعين دقة (في المتوسط)، وفي الساعة الواحدة أربعة آلاف، وفي الشهر الواحد ثلاثة ملايين، فكم يمكن أن يدق القلب في سنوات عمرنا؟ وهل يمكن لأحد فينا أن يعرف خفقة القلب الحقيقية من بين بلايين الدقات؟ بل إنه لو عرف فهل هو يمسك بها حتى لو أراد؟
كنت أدرك بعقل آخر غير ذلك علموني به أن حجم حياتي ليست هي عدد السنوات بين تاريخ ولادتي ووفاتي، كنت أدرك عن يقين أن هناك نبضا غير نبض القلب، وأن حجم حياتي كلها قد لا يكون إلا خفقة حقيقية واحدة أنجح في الإمساك بها من بين ملايين الخفقات غير الحقيقية، أو كلمة صدق تلقائية أنجح في الإمساك بها فوق الورق من بين ملايين الكلمات غير التلقائية.
عن يقين كنت أدرك هذه الحقيقة، أدركها بعقلي وجسدي، بالاثنين معا أدركها، وبالحواس التي أملكها ولا أملكها، ومع ذلك كم كان هذا اليقين الهائل يتحول أحيانا إلى شك هائل لا يتسرب إليه شك؛ فيصبح هو اليقين وما عداه هو الشك. هذه اللحظات أحس أنني مقتولة جسدا وعقلا، وأنني مخطئة والعالم هو الصواب. وقد أرى نفسي وأنا سائرة في الشارع أو راكبة سيارتي، لكني أدرك عن يقين أنني مقتولة، وأن جسدي الذي يتحرك هذا ليس هو جسدي الحقيقي؛ فقد أخفى القتلة جسدي في حفرة في بطن الأرض، وأرى جسدي غير الحقيقي يتحرك أمامي، وقد يصافح الناس، وقد يبتسم، وقد ينافق العالم ويقول له إنه على صواب وأنا المخطئة.
كيف كنت أشد جسدي المقتول من بطن الأرض؟ كيف كنت أشد يدي شبه المشلولة وأمسك القلم؟ لم أعرف، لكنها لحظة واحدة، وقد أكون جالسة أو واقفة أو راقدة، وقد أكون وحدي أو وسط ناس آخرين، لكني أبصر جسدي ينتفض وحده فجأة، فإذا بي أقف إذا كنت جالسة، أو أجلس إذا كنت واقفة، وإذا بي أجري بعيدا عن الناس إذا كنت مع الناس، أو أجري إلى الناس إذا كنت وحدي.
كانتفاضة الرعب، كمن يرى الموت وجها لوجه. وأكتشف لدهشتي الشديدة أن جسدي يرتعد فعلا، وصوتي يرتعد، لكنها ليست إلا لحظة خاطفة، كالصرخة الواحدة أطلقها في وجه المتكلم ليصمت أو في وجه الصامت لينطق.
كان المتكلم في لحظة من تلك اللحظات مسئولا كبيرا يرأسني في عملي الطبي. واحد من الرجال الذين يمتلئ بهم العالم. طبيب يقيس نجاحه الطبي بمساحة الأرض التي يمتلكها فوق الكرة الأرضية. رجل كذكور العالم لا يعرف من المرأة إلا الأنثى. وأراد أن يعاملني كما يعامل العالم لكني رفضت، الرفض عندي كان سهلا طبيعيا؛ فأنا بالطبيعة إنسانة ولست أنثى، وأنا بالطبيعة فنانة ولست طبيبة، الرفض عندي كان سهلا وطبيعيا كهواء أتنفسه، لكن الرفض عنده كان صعبا أصعب من الموت.
دائما كنت أتحير لماذا يعجز الرجال في هذا العالم عن تحمل الرفض، وبالذات رفض المرأة لهم؟ أرى وجه الواحد منهم وقد شحب وهرب منه الدم؛ فأصبح لونه أبيض كوجه الميت، هل كان هذا الرفض يكشف له عن حقيقة وجهه، ويدرك لأول مرة أنه وجه ميت، أم أنه كان مرفوضا داخل نفسه أيضا فإذا به عاجز عن احتمال الرفضين معا؟
وقال لي بلهجة الرؤساء إن موظفا لم يخالفه أبدا، وإن امرأة لم تعصه من قبل. وفتح لي درج مكتبه الفاخر، وأخرج شهادات تفوقه وبطولاته ونياشين انتصاراته، وجدران حجرته تغطيها إطارات مذهبة داخلها شهادات وشهادات من مصر والخارج. وكان الدم قد عاد إلى وجهه فلم يعد أبيض، ورأسه أصبح يرفعه عاليا فوق عنق صغير تحوطه ربطة عنق كبيرة (على الطراز الأمريكي الحديث) وصدره منتفخ بعضلات ظهر مشدودة، يحاول أن يشدها بمشقة وجهد، فكأنما هو عاجز عن إقناع عضلات جسده بانتصاراته الخارجية العديدة، وأنه منهزم من الداخل هزيمة لا يعرفها أحد.
وربما هو رأى أو أحس أنني الوحيدة التي شهدت هزيمته، ولأنني امرأة فقد أصبحت هزيمته مضاعفة، وتحول الرضا عنده إلى غضب، والإقبال إلى نفور، والرغبة في ترشيحي إلى الترقية ورفعي إلى السماء السابعة إلى الرغبة في دفني في بطن الأرض وإغلاق الحفرة بالشمع الأحمر.
لم تكن المرة الأولى التي أشهد فيها هزيمة رجل؛ فالرجال كثيرون، وعدد الهزائم أكثر من عدد الرجال، ولست في نهاية الأمر إلا امرأة واحدة، لكني كنت أدرك أنني رغم كوني امرأة ورغم كوني واحدة؛ فإن من بين هؤلاء الرجال الكثيرين المتكاثرين هناك رجل واحد على الأقل لم يهزم، وأنني في كل خطوة فوق الأرض، أو في كل حركة أو لفتة، وإن كانت مجرد تحرك الرأس لحظة وأنا أمشي في أي شارع، أنني كنت بوعي وبغير وعي، بإرادتي وبغير إرادتي، بجسدي وعقلي، بالاثنين معا - أدرك أنني أبحث عن هذا الرجل، وأدرك أيضا أنه ليس واحدا، وأنه قد يكون هناك اثنان أو ثلاثة أو أربعة، ربما لا يزيد عددهم عن عدد أصابع اليد الواحدة، لكنهم هناك رغم ندرتهم، وطالما أنهم هناك فلا بد أني عاثرة عليهم.
لمحتك مرة وأنا أمشي مسرعة كعادتي، وكنت غاضبة من ذلك الرئيس، وحين أغضب فإني أمشي بسرعة أكثر. يكشف لي الغضب عن أنني أسير نحو معركة جديدة، وأنني يجب ألا أضيع وقتا في الطريق؛ فالدقيقة من حياتي أصبح لها ثمن، والإحساس بحركة الزمن يصبح عندي طاغيا إلى حد الجري في الطريق. أخاف أن يبلغني الموت قبل أن أخوض معركتي، وكأنما هي المعركة الأخيرة في حياتي وبعدها سأموت، ولأنني في الأصل ميتة فأنا لا أخاف الموت، ولأنني لا أخاف الموت فإن الناس تخافني، وهذا هو السبب الوحيد الذي يخرجني من بعد كل معركة حية وباقية فوق ظهر الأرض.
سألتني في هذا اليوم عن غضبي فحكيت لك، لم أكن أحكي لأحد، لم أكن أعرف ماذا أقول، ولم أكن أستطيع لو عرفت، وما كان لأحد أن يسمعني أو يصدقني لو أنا قلت، فماذا كنت أقول؟ هل أقول إن العالم كله مخطئ وأنا وحدي على صواب؟ هل أقول إن العالم هو المجنون وأنا وحدي العاقلة؟ هل أقول إنني منذ ولدت وأنا أحس الحروف تمشي في جسدي كدورة الدم، وأنني حين أمسك القلم يتلاشى العالم كله وتتلاشى لذة الأكل ولذة الحب ولذة الجنس ولذة الموت، وأفنى في السطر كما أفنى في الحب كما أفنى في الموت، وأدرك مع كل ذلك أنني لا أفنى في شيء؟ هل أقول إن الفن كان اختياري وإرادتي لكني بالصدفة كنت أنثى، وأنني أرفض منذ الطفولة أنوثتي لأنها ليست أنا، وليست من صنعي، وإنما هي من صنع عالم مليء بالذكور وخال من الرجال؟ هل أقول إنني أخوض حياتي بقليل من العقل وكثير من الحب وأنني لا أمجد العقل رغم شهادتي الطبية؛ فالذي يصنع عقولنا هو العالم من حولنا، ولأن العالم مزيف تصبح عقولنا مزيفة، وفي ثورتنا في العالم لا بد أن نثور على عقولنا. أأقول كل هذا؟ وإذا قلته فهل يصدقني أحد؟
في ذلك اليوم قلت لي إنك تصدقني، ودهشت إلى حد عدم التصديق، إلى حد الجمود في مقعدي وأنا جالسة أمامك، وكنت أريد أن أبقى قليلا لكني وقفت وخرجت. لا أذكر لماذا خرجت، ربما دخل شخص آخر، ربما دق جرس التليفون أو الباب، المهم أنني خرجت ولم نلتق بعد هذا اليوم إلا نادرا. أحيانا ألمحك صدفة في طريق تسير بسرعة، وأنا أيضا أسير بسرعة، أحيانا ألمح كلماتك فوق صفحة؛ فأقف عندها وأتذكر، أو ألمح وجهك بين الوجوه فأرفع عيني فجأة، وقد أحييك من بعيد إذا لمحتني، وإذا لم تلمحني استدرت وسرت بسرعة. رغم خطوتي السريعة كنت أحس أن شيئا من نفسك قد أصبح معي إلى الأبد، وأسأل نفسي أتراه هو أيضا يحس أنني أعطيته من نفسي في لحظة مضت ولن أسترجعها، وأحيانا كنت أركب عربتي لآتي إليك لكني أتوقف وأسأل نفسي ماذا سأقول له، وهل هو يذكر ما حدث بيننا؟ وهل حدث شيء يمكن له أن يذكره؟
لم أكن أعرف هل حدث شيء؟ وإذا كان قد حدث فما هو؟ وهل هو شيء يمكن للذاكرة أن تمسكه كدليل، كشيء أبرر به ذهابي إليه لو أنا ذهبت، كسبب واحد أستطيع أن أحوله إلى كلمات تنطق لو هو سألني لماذا جئت؟
كم سنة مرت دون أن آتي إليك، لا أعلم فأنا لا أقيس الزمن بالسنوات، وعمري كله قد لا يساوي في نظري لحظة واحدة أحسها بعقلي وجسدي وبكل طاقتي المخزونة من عقلي وجسدي. كنت أدرك الزمن بالسنوات، وعمري كله قد لا يساوي في نظري لحظة واحدة أحسها بعقلي وجسدي وبكل طاقتي المخزونة من عقلي وجسدي. كنت أدرك دائما أن ما عندي من حواس ليس هو كل ما عندي، وأنه هناك تحت السطح نبض آخر غير نبض القلب، وعقل آخر تحت العقل، وجسد آخر تحت الجسد. أهناك امرأة كاملة أخرى داخلي؟ وأيهما أنا؟ أيهما الحقيقة وأيهما اللاحقيقة؟ كنت أحس دائما أن بين الحقيقة واللاحقيقة مسافة قد لا تكون إلا شعرة، لكني أحاول - على الدوام - أن أقطعها لأقتحم ذلك المجهول، وكلاهما - المجهول والمعلوم - أحسه كالرهبة داخل جسدي، وقد كسر الطب والتشريح رهبة الجسد في عيني، وكسر الفن رهبة المجهول، وأبحت لنفسي أن أتحدث عن جميع أعضاء الجسد كما يتحدث الشعراء عن نبض القلب، وأتساءل دائما لماذا أصبح نبض القلب هو النبض الوحيد المباح؟
كم سنة مرت دون أن آتي إليك، لا أذكر، لكني أذكر أنني في لحظة مفاجئة، في تلك الانتفاضة حين أقطع الشعرة بين المعلوم والمجهول أو بين اليقين والشك، وأدرك أن العلم مخطئ وأنا على صواب، وأهب من حياتي كالممسوسة برغبة مباغتة في الموت، أو أهب من موتي بأمل مفاجئ في الحياة، في لحظة من تلك اللحظات مددت إصبعي في قرص التليفون وأدرت رقمك، ورد علي صوت رجل قال إنك غير موجود؛ فتركت اسمي ورقمي وقلت إنني أنتظر ردا.
كم سنة مرت وأنا أنتظر، لا أذكر، وما حاولت أن أذكر؛ فقد حزنت وسحق الحزن ذاكرتي فلم أعد أتذكر، وكلما تذكرت حزنت ونسيت إلى أن أصبحت لا أحزن ولا أنسى. وأكاد في كل لحظة أتذكر، وفي كل مرة لا أعرف بالضبط ما الذي أتذكره، فليس هناك شيء حدث بيننا يمكن للذاكرة أن تمسك به، وليس هناك دليل ولا سبب ولا مبرر يمكن أن أقوله لو أن أحدا سألني.
لمحتك مرة من بعيد فتوقفت وتحركت نحوك، لكني استدرت وسرت من جديد بخطوتي السريعة وأنا أسأل نفسي أهو حب أم لا حب؟ وهل يختلط الأمر إلى هذا الحد؟ إلى حد العجز عن الفصل بين الحب واللاحب، إلى حد العجز عن رؤية الأبيض من الأسود، كالعمياء تماما، توقفت لحظة لأمسك رأسي بيدي، وأغمض عيني أو أفتحهما، وسألت نفسي أيكون العالم قد سلب من عيني البصر؟ أيكون العالم قد مزق أعصاب العين وأعصاب القلب؟
كنت أدرك أن العالم قد مزق كل شيء في العالم إلا أنا، ومزق البشر إلى عبيد وأسياد، ومزق الإنسان إلى عقل وجسد، ومزق الجسد إلى أعضاء شريفة وأعضاء غير شريفة. كنت أدرك أن العالم قد مزق كل شيء في العالم إلا أنا. مزق الرجال ومزق النساء ومزق الأطفال، ومزق الحكام ومزق المحكومين، وليس هناك من فاصل بين التمزق السياسي والتمزق الجنسي، والفنان الصادق يسقط بصدقه في ألاعيب السياسة، ويغرق بفنه في أحابيل الجنس، وكلاهما - الجنس والسياسة - محنة الفن ومحنة الإنسان، لكن الفنان مشدود بفنه إلى صفوف المحكومين تحت أي اسم وفوق أي أرض، ونافر بإنسانيته من أجساد الحكام بأي ثقل وبأي شكل، منجذب بنظرته إلى الجنس تحت وهم أي حب، مشدود إلى العالم بكل ما فيه وما عليه، يدرك أن العالم - عن يقين - سيمزقه، لكنه يدرك، بيقين آخر، أنه أبدا لن يتمزق.
كم سنة مرت دون أن أذهب إليك؟ لكني فتحت الجريدة صدفة مرة؛ فأنا لا أفتح الجرائد في عالم تكذب فيه الأقلام والأجساد. ذلك الصباح لم أعرف لماذا أمسكت بالجريدة؟ ربما كنت أنوي أن أفرش بها أحد رفوف المطبخ، لكني لمحت وجهك، وقرأت كلماتك الدقيقة السوداء، وحروف المطبعة تكاد تشبه خط يدك، وصدق الكلمة فوق الورق له حركة تشبه حركة عينيك وهما تنظران إلي. أكنت تراني أمامك وأنت تكتب، لكنك لم ترني منذ سنين طويلة، ولا يمكن لأي ذاكرة مهما قويت أن تحتفظ بشيء حدث منذ سنين طويلة، فما بال الشيء الذي لم يحدث؟
وحين دق جرس التليفون ظننت أن الرنين يأتيني من أي مكان فوق الأرض إلا مكتبك، وحين أتيت إليك كنت أظن أننا سنتبادل بعض كلمات عادية، كتلك المجاملات المألوفة بين المعارف والأصدقاء، لكن كلماتك لم تكن عادية، وعتابك لم يكن مألوفا. وبقدر ما دهشت لم أدهش، وبقدر ما تألمت لم أتألم. وقلت لك إنني حاولت مرة أن ألقاك ولم يأتني الرد، ولم تصدقني، وقلت لي لو أردت أن تأتي لأتيت. وأكدت لك أنني حاولت مرة لكنك لم تصدقني، وقلت لي لو رغبت حقا في لقائي لما استطاع أن يحول بين لقائنا شيء. كنت شديد القسوة في عدم تصديقك لي ... وبقدر ما آلمتني قسوتك بقدر ما أدهشتني، ولعلك رأيت الدهشة في عيني تشبه الدموع، كنت مندهشة إلى حد البكاء، فهل يمكن بعد كل هذه السنين أن تمسك الذاكرة بشيء لم يحدث؟ أو أنه إذا كان قد حدث فلم يكن إلا لحظة خاطفة كلمعة ضوء ظهرت ثم اختفت، كخفقة قلب دقت مرة واحدة ثم اندثرت بين ملايين الدقات.
وحين أصبحت يديك حول يدي في المصافحة الأخيرة كنت أدرك أن ستقبلني، وأن قبلتك فوق وجهي ستكون حانية ورقيقة إلى حد الشفافية، كقبلة طفل فوق وجه طفل، بريئة وغير بريئة، ككل المشاعر التلقائية.
وأعطيتني رقم تليفونك على قصاصة ورق صغيرة، ووعدك بأن أتصل، وكنت صادقة في وعدي، لكني ما إن خرجت إلى الشارع المزدحم حتى بدا لي كل شيء كالحلم أو كالوهم، وبدا لي العتاب شيئا عاديا يمكن أن يحدث بين أي صديقين يلتقيان بعد غيبة طويلة، وأن القبلة أيضا شيء عادي يمكن أن تحدث بين صديقين أو زميلين. وأدركت - وأنا أسير بخطوتي السريعة - أنني سأظل أسير بسرعتي المعهودة حتى أموت وأنا سائرة، وأن سنين أخرى طويلة ستمضي قبل أن أعرف الحقيقة من اللاحقيقة، وأنني في كل مرة أعجز عن اقتحام الموت، أعجز عن تمزيق الشعرة بين الشك واليقين، هل أنا على صواب والعالم مخطئ؟ أم أنا المخطئة والعالم على صواب؟ إذا كنت لا تصدقني هذه المرة فأنا أعاتبك، وإذا كنت تصدقني فإن عتابي لك أشد.
الجلسة السرية
أول ما شعرت به ذلك الضوء الباهر القوي، لم تر شيئا، كان الضوء مؤلما رغم أن لا تزالان مغمضتين، الهواء البارد ضرب وجهها وعنقها العارية، وتسرب من فتحة العنق إلى صدرها وبطنها، وهبط إلى أسفل حيث الجرح النازف، وأصبح كصفعة حادة فوق نسيج هش حساس. وضعت يديها فوق عينيها لتحميهما من الضوء، وبيديها الأخرى أغلقت فتحة العنق وهي تضم ساقيها على الألم المفاجئ، شفتاها أيضا مضمومتان مطبقتان على ألم لم يعرفه جسدها من قبل، أشبه بوخز الإبر في عينيها وثدييها وتحت الإبط وأسفل البطن. وقدماها وساقاها من طول ما نامت وهي واقفة، ومن طول ما وقفت وهي نائمة، لم تعد تعرف في أي وضع يكون جسدها، أفقيا أو رأسيا، معلقة من قدميها في الهواء، أو واقفة على رأسها في ماء.
ما إن أجلسوها وتحسست ببطن كفيها المكان الذي جلست عليه حتى استرخت عضلات وجهها، واستعادت شكلها الآدمي. رجفة من اللذة العارمة المفاجئة هزت أحشاءها حين اتخذ جسدها وضع الجلوس فوق ذلك المقعد الخشبي، وربما تقلصت عضلات شفتيها عن ابتسامة واهنة. قالت لنفسها: كم أدرك الآن أن الجلوس راحة كبرى.
الضوء لا زال قويا، وعيناها لا تزالان غير قادرتين على الرؤية، لكن أذنيها بدأتا تسمعان بعض الأصوات والهمهمات. رفعت يديها من فوق عينيها، وبدأت تفتحهما بالتدريج، أشباح آدمية تتحرك أمامها من فوق شيء مرتفع، شعرت بخوف مفاجئ؛ فالأشباح الآدمية تخيفها أكثر من أي أشباح أخرى. هذه الأجسام الطويلة التي تتحرك بسرعة وخفة فوق ساقين داخل سروال وقدمين داخل حذاء. وكل شيء يتم في الظلام بمنتهى السرعة والخفة، وهي لا تستطيع أن تبكي أو تصرخ. لسانها، عيناها، فمها، أنفها، كل ملامحها تحجرت، وجسدها لم يعد جسدها، وإنما جسد عجل صغير يضرب بكعوب الأحذية، وتدخل العصا الغليظة بين فخذيها لتمزق أحشاءها، ثم تركل بالقدمين في ركن مظلم، وتظل متكورة حول نفسها حتى اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث لا تعود كما كانت، وإنما تظل حيوانا صغيرا عاجزا عن النطق بتلك الكلمة العادية التي ينطقها البشر: يا رب. وتقول لنفسها: هل الحيوانات مثل الإنسان تعرف شيئا اسمه الرب؟
بدت عيناها تريان الأجسام الجالسة على ذلك المكان المرتفع، فوق كل رأس جسم، الرءوس ملساء بغير شعر، حمراء في الضوء كمؤخرات القرود، ذكور كلهم لا شك؛ لأن المرأة مهما شاخت فلا يمكن لرأسها أن يصبح كمؤخرة القرد. بحثت بعينيها لترى بوضوح أكبر. في الوسط رجل سمين يرتدي شيئا كالقفطان الأسود، فمه مفتوح، وفي يده شيء كالمطرقة، يذكرها بحاوي القرية، وعيناها وعيون الأطفال كلها مبهورة مفتوحة على يده التي تحول العصا إلى ثعبان أو نار. المطرقة تتلوى في يده كالأفعى، ودوى في أذنيها صوت حاد يقول: محكمة! قالت لنفسها: لا بد أنه القاضي. وهي لأول مرة في حياتها ترى قاضيا، ولأول مرة تدخل محكمة، كلمة محكمة سمعتها لأول مرة وهي طفلة، سمعت خالتها تقول لأمها: لم يصدقني القاضي وطلب مني أن أعري جسمي ليرى علامات الضرب، وقلت له لا أعري جسمي أمام رجل غريب؛ فرفض الدعوى وأمرني بالعودة إلى زوجي. كانت خالتها تبكي ولم تعرف ذلك الحين لماذا يطلب القاضي منها أن تعري جسمها؟! وسألت نفسها: يا ترى هل يطلب القاضي مني أن أعري جسمي؟ وماذا يقول حين يرى ذلك الجرح؟
تعودت عيناها على الضوء تدريجيا، وبدأت ترى وجه القاضي بوضوح أكثر، وجهه أحمر أيضا كرأسه، وعيناه مستديرتان جاحظتان كعيني الضفدع، تتحركان ببطء هنا وهناك، وأنفه كبير مقوس كمنقار الحدأة، من تحته شارب أصفر كثيف كحزمة من العشب الجاف تهتز فوق فتحة فمه المشدود كالسلك، والمفتوح دائما كمصيدة الفئران.
لم تعرف لماذا ظل فمه مفتوحا، وهل كان يتكلم طول الوقت أم كان يتنفس من فمه، ورأسه الأصلع اللامع يتحرك دائما بتلك الحركة التي تشبه الإيماءة؛ فيرتفع قليلا ويتحرك إلى الوراء ليدخل في شيء مدبب، ثم ينخفض قليلا متحركا إلى الأمام حتى تدخل ذقنه في فتحة عنقه. ولم تكن ترى بعد ماذا وراءه، لكنها رأت أن رأسه حين يرتفع ويتحرك إلى الوراء يدخل في شيء مدبب أشبه ببوز حذاء. ودققت النظر وتأكدت أنه حذاء فعلا مرسوم على الجدار فوق رأس القاضي، ومن فوق الحذاء رأت الساقين المشدودتين داخل السروال المشدود كأنما من الجلد الثمين، جلد نمر أو جلد ثعبان، والسترة أيضا مشدودة فوق الكتفين، ومن فوق الكتفين يطل الوجه الذي رأته آلاف المرات في الصحف، عينان شاخصتان إلى فراغ، فيهما من الغباء أكثر مما فيهما من السذاجة، وأنف مسطح كأنما ضرب بالمطرقة حتى استكان، وفم مزموم ينم عن جدية مصطنعة يتقنها كل الحكام والملوك حين يقفون أمام آلة التصوير. رغم عضلات فمه المزمومة في كبرياء وجدية فإن عضلات خديه مرتخية، من تحتها ابتسامة هزلية ساخرة، فيها مجون مزمن أو فساد منذ الطفولة.
كانت طفلة في المدرسة الابتدائية حين رأت لأول مرة صورة ملك، كان الوجه مليئا باللحم والعينان ضيقتان والشفتان رفيعتان مزمومتان في كبرياء أشبه بالوقاحة. وتذكرت صوت أبيها وهو يقول كان فاسقا وعاهرا، ولكنهم كلهم بهذا الشكل، وحين يقفون أمام آلة التصوير يظنون أنفسهم آلهة.
إنها لا تزال تحس بجسدها جالسا فوق الكرسي الخشبي، وهي أصبحت تشك في الأمر، فكيف تركوها تجلس كل هذا الوقت. والجلوس بهذا الشكل راحة وأي راحة؛ فهي تستطيع أن تجلس وتترك جسدها في وضع الجلوس، وتستمتع بتلك المقدرة الخارقة لجسم الإنسان. لأول مرة تدرك أن جسم الإنسان يتميز عن جسم الحيوان بشيء هام وهو الجلوس، لا يوجد حيوان يستطيع أن يجلس مثلها هكذا، وإذا جلس فكيف يتصرف في قوائمه الأربع؟ تذكرت المنظر الذي أضحكها في طفولتها، ذلك العجل الذي أراد أن يجلس على مؤخرته فانقلب على ظهره، وتقلصت شفتاها في محاولة يائسة لأن تفتح فمها لتقول شيئا أو تبتسم، لكن فمها ظل مطبقا كخط أفقي يشق نصف وجهها الأسفل نصفين. أيمكن أن تفتح فمها قليلا لتبصق؟ لكن حلقها جاف، ولعابها جاف، وعنقها جافة، وصدرها جاف، وكل شيء فيها جاف إلا ذلك الجرح المفتوح بين فخذيها.
ضمت ساقيها أكثر لتضم الجرح وتضم الألم وتستشعر لذة الجلوس فوق مقعد، وكان يمكن أن تظل في هذا الوضع إلى الأبد أو حتى تموت، إلا أنها سمعت فجأة صوتا يهتف باسمها: ليلى الفرجاني!
تنبهت حواسها الميتة، وارتجفت عضلات أذنيها لوقع الاسم الغريب؛ ليلى الفرجاني! كأنما هو ليس اسمها. لم يطرق أذنيها منذ زمن سحيق، وهو لفتاة اسمها ليلى، فتاة ترتدي ملابس الفتيات، وترى الشمس، وتمشي على ساقين ككل البشر. وقد رأت هذه الفتاة منذ زمن سحيق؛ لأنها منذ ذلك الزمن لم ترتد ملابس الفتيات، ولم تر الشمس ولم تمش على ساقين. منذ زمن سحيق وهو حيوان صغير داخل كهف سحيق مظلم، وحين ينادونها فهم لا ينادونها إلا بأسماء الحيوانات.
لا زالت عيناها تبحثان في محاولة للرؤية الواضحة، وقد أصبح رأس القاضي أكثر وضوحا وأكثر حركة، لكنه لا زال يدخل في بوز الحذاء إذا ما ارتفع، أو يدخل في فتحة عنقه إذا ما انخفض، والصورة المعلقة من خلفه أصبحت أكثر وضوحا. الحذاء لامع مدبب، والبدلة مشدودة كبدل فرسان الخيل، والوجه مشدود من الخارج بعضلات صناعية مليئة بالرصانة والغباء، ومن الداخل نظرة خليعة معربدة.
قوة بصرها لم تعد كما كانت، لكنها لا زالت ترى التشويه واضحا، ترى الوجه الممسوخ، وقد تذكرت كلام أبيها: إنهم يا ابنتي لا يصلون إلى مقاعد الحكم إلا لأنهم مشوهون نفسيا وفاسدون من الداخل.
وأي فساد من الداخل؟! فهي التي رأت فسادهم الحقيقي. تود في تلك اللحظة أن يعطوها قلما وورقة لترسم ذلك الفساد، ولكن أيمكن أن تظل لها أصابع قادرة على الإمساك بقلم وتحريكه فوق الورق؟ أو على الأقل ، أيمكن أن يظل لها إصبعان اثنان تضع بينهما القلم؟ وماذا تفعل إذا ما قطعوا إصبعا من هذين الإصبعين؟ هل يمكن أن تمسك القلم بإصبع واحدة؟ هل يمشي الإنسان فوق الأرض بساق واحدة؟ أحد الأسئلة التي كان يرددها أبوها. وكانت تكره أسئلة العاجزين وتقول لنفسها: سأشق الإصبع الواحد وأدس فيه القلم، كما شقت إيزيس ساق أوزوريس. لا زالت تذكر القصة القديمة، ولا زالت ترى منظر الساق المشقوقة وهي تنزف دما، أي كابوس طويل تراه، وكم تريد أن تهزها يد أمها لتفتح عينيها وتدرك أن ذلك الوحش الذي أراد أن ينهش جسدها لم يكن إلا حلما أو كابوسا كما كانت تسميه أمها. في كل مرة تفتح عينها وتفرح حين يختفي الوحش وتكتشف أنه لم يكن إلا حلما، لكنها هذه المرة فتحت عينيها ولم يذهب الوحش، فتحت عينيها وظل الوحش فوق جسدها. من هول الفزع أغمضت عينيها مرة أخرى لتنام؛ لتوهم نفسها أنه كابوس، لكنها فتحت عينيها وعرفت أنه ليس حلما، وتذكرت كل شيء.
أول ما تذكرته كانت صرخة أمها في سكون الليل، كانت تنام في حضنها كطفلة في السادسة مع أنها كبرت وأصبحت في العشرين، لكن أمها كانت تقول: ستنامين في حضني حتى إذا جاءوا في منتصف الليل شعرت بهم وأمسكتك بكل قوتي فإذا ما أخذوك أخذوني معك.
لم يعذبها مثل وجه أمها وهي تراه يبتعد ويبتعد حتى اختفى. كان وجهها شاحبا وعيناها شاحبتين وشعرها شاحبا، وأرادت أن تموت ولا ترى وجهها بمثل هذا الشحوب. وقالت لنفسها: أيمكن أن تغفري لي يا أمي لأنني تسببت لك بكل هذا الألم؟ وكانت أمها تقول لها دائما: يا ابنتي ما لك وللسياسة، أنت لست رجلا، والبنات من عمرك لا يفكرن إلا في الزواج. ولم تكن ترد على أمها حين تقول لها: السياسة لعبة قذرة لا يتقنها إلا الرجال العاطلون.
الأصوات الآن أصبحت أكثر وضوحا في أذنيها، والصور أيضا بدت واضحة، وإن كان الضباب لا زال كثيفا، هل كان الجو شتاء والقاعة بغير سقف؟ أم كان الجو صيفا وهم يدخنون في حجرة بغير نوافذ؟ واستطاعت أن ترى رجلا آخر جلس غير بعيد عن القاضي، رأسه كرأس القاضي، أملس وأحمر لكنه ليس تحت الحذاء تماما كرأس القاضي، إنه يشغل الناحية الأخرى، ومن فوق رأسه علقت صورة أخرى داخلها شيء كالعلم، أو الراية الصغيرة المتعددة الألوان، ولأول مرة تلتقط أذناها بعض الجمل ذات المعنى المفهوم. «تصوروا يا حضرات السادة المحترمين أن هذه الطالبة التي لم تصل إلى العشرين بعد تقول عنه - حفظه الله وأدامه على رأس هذه الأمة الكريمة مدى الحياة - تقول عنه إنه «غبي».»
ورنت كلمة «غبي» كقطعة حجر تلقى في بحر من الصمت الرهيب أحدث وقعها صوتا كارتطام قطعة حجر بالماء، أو ارتطام يد بشيء صلب أشبه ما تكون بالصفعة، أو صفقة يد فوق يد.
هل صفق أحد؟ وأرهفت أذنيها تتسمع الصوت، أكان صفقة؟ أم ضحكة سريعة على شكل قهقهة؟ ثم دب الصمت الرهيب مرة أخرى في قاعة المحكمة، صوت طويل سمعت فيه دقات قلبها، وظلت أذناها تحتفظان بصوت الضحكة أو الصفقة، وتساءلت بينها وبين نفسها من ذا الذي يمكن أن يصفق في تلك اللحظة الخطيرة حين توصف الذات العليا بالغباء، وبصوت عال؟
جسدها لا زال ملتصقا بالمقعد الخشبي تشبثا به، يخشى أن يسحب من تحته فجأة، والجرح لا زال أسفل بطنها ينزف، إلا أنها استطاعت أن تحرك رأسها وعيناها نصف المفتوحتين تبحثان عن مصدر الصفقة. اكتشفت فجأة أن القاعة مليئة برءوس متلاصقة على شكل صفوف رءوس آدمية كلها لا شك. بعض الرءوس تبدو كثيفة الشعر كأنما لنساء أو بنات بعض رءوس صغيرة كأنما رءوس أطفال. وهذا رأس يشبه رأس أختها الصغيرة، وانتفض جسدها لحظة فوق المقعد وعيناها تفتشان: هل أتت وحدها أم معها أبي وأمي؟ وهل يرونني الآن؟ وكيف أبدو؟ هل يمكن أن يتعرفوا على وجهي؟ على جسمي؟
حركت رأسها وعيناها تبحثان، بصرها أصبح ضعيفا لكنها تستطيع أن ترى أمها مهما ضعف بصرها، تستطيع أن تلتقط وجهها من بين الآلاف وهي مغمضة العينين. أيمكن أن تكون أمها موجودة في هذه القاعة؟ دقات قلبها أصبحت مسموعة، والهواجس تهز جسدها من الداخل. كثيرا ما انتابتها الهواجس، وأحست أن شيئا فظيعا حدث لأمها. ذات ليلة هاجمها الخوف وهي متكورة كحيوان صغير حول نفسها، وقالت لنفسها: لا بد أنها ماتت ولن أراها حين أخرج. لكنها في اليوم التالي رأتها، جاءت إليها في الزيارة، جاءت بكامل جسمها وكامل صحتها وفرحت، وقالت لها: لا تموتي يا أمي حتى أخرج وأعوضك عن الألم الذي سببته لك.
الصوت أصبح الآن واضحا في أذنيها، إنه ليس صفقة واحدة بل صفقات متتالية، والرءوس في القاعة تتحرك بغير نظام. القاضي لا زال جالسا برأسه الأملس تحت الحذاء، والمطرقة في يده أصبحت تهتز بعصبية وتدق على المائدة الخشبية دقات سريعة، لكن الصفقات لم تنقطع، وهب القاضي واقفا فأصبح رأسه عند منتصف بطن الصورة، وارتعشت شفته السفلى وهو يزمجر بكلمات لم تستطع أن تسمعها من شدة الضوضاء.
ثم دب الصمت فترة من الزمن، وهي لا تزال تحاول الرؤية، يداها تمتدان على جانبيها وتمسكان بالمقعد، تتشبثان به، تمسكان وتضغطان عليه، كأنما تريد أن تتأكد من حقيقة وجوده تحتها أو وجودها فوقه، وأنها لا تزال جالسة. رأتها يقظة وليست نائمة ومغمضة العينين. كانت حين تفتح عينيها ويختفي الوحش تفرح؛ لأنه لم يكن إلا حلما، لكنها لم تعد قادرة على الفرح، وأصبحت تخشى أن تفتح عينيها.
الأصوات في القاعة هدأت والرءوس لا زالت تتحرك كما كانت إلا رأس واحد، ليس أملس ولا أحمر، وإنما كثافة من الشعر الأبيض، كثافة ثابتة لا تتحرك، والعينان لا تتحركان، مفتوحتان جافتان وشاخصتان فوق ذلك الجسد الصغير المكوم فوق المقعد الخشبي. يداها مضمومتان فوق صدرها، وقلبها تحت يديها يدق بسرعة، وأنفاسها تلهث كأنما جرت حتى آخر الشوط ولم تعد قادرة على التنفس. صوتها متقطع وهي تقول لنفسها: يا إلهي، إن عينيها تتحركان نحوي لكنها لا تراني، ماذا فعلوا بعينيها؟ أم هي تقاوم النوم؟ يا إله الأرض والسموات السبع كيف تركتهم يفعلون بها كل ذلك؟ وكيف تحملت يا ابنتي كل هذا الألم؟ وكيف تحملت معك؟ لكني كنت أحس دائما أنك قادرة يا ابنتي على أي شيء، وإن كان تحريك الجبال أو تفتيت الصخر. رغم أن جسمك صغير وضعيف مثل جسمي لكنك حين كنت ترفسين بقدمك الصغيرة جدار بطني أقول لنفسي: يا إلهي أي قوة وجبروت داخل جسمي؟ كنت جبارة من حركتك وأنت لا تزالين جنينا، ترجيني من داخل كما يرج البركان الأرض، ومع ذلك كنت أعرف أن حجمك صغير كحجمي، وعظامك رقيقة كعظام أبيك، وقامتك طويلة نحيلة كجدتك، وقدماك كبيرتان كأقدام الأنبياء. وحين ولدتك قالت جدتك وهي تمصص شفتيها حسرة: بنت وقبيحة! يا للمصيبتين! وشددت عضلات بطني لأغلق الرحم على الألم والدم، وقلت لها وأنا أتنفس بصعوبة (كانت ولادتك صعبة وكنت مرهقة كأني ولدت جبلا): هي أغلى عندي من الدنيا، وضممتك إلى صدري ونمت نوما عميقا، أيمكن يا ابنتي أن أحظى مرة أخرى بلحظة نوم عميق وأنت داخل صدري، أو على الأقل: وأنت إلى جواري أمد يدي فألمسك؟ أم وأنت في حجرتك المجاورة لي، أنهض على أطراف أصابعي لأطل عليك وأنت نائمة؟ كان الغطاء يسقط دائما من فوق جسمك وأنت نائمة فأرفعه وأغطيك، هاجس بالليل كان يوقظني كل ليلة لأنهض على أطراف أصابعي وأذهب إلى حجرتك. أي هاجس وفي أي لحظة؟ أهي اللحظة التي كان الغطاء يسقط فيها عن جسمك؟ ولكني كنت قادرة دائما على أن أحس بك، حتى وإن سافرت وإن اختفيت عن عيني، وإن أخفوك تحت الأرض، تحت سابع أرض، وإن أحكموا حولك الجدران والطوب والحديد، كنت - ولا أزال - قادرة على أن أحس لفحة الهواء على جسدك وكأنما على جسدي. تحيرت أحيانا هل ولدتك أم لا تزالين داخل بطني، وإلا فكيف أحس الهواء إذا ضربك، والجوع إذا قرصك، وألمك هو ألمي، كالنار اللاسعة في صدري وبطني. يا إله الأرض والسماوات السبع، كيف تحمل جسمك وجسمي؟ لكني ما كنت أتحمل لولا الفرح بأنك ابنتي وأنني ولدتك، وأنك قادرة على أن ترفعي رأسك عاليا فوق جبال الوسخ ، ثلاث آلاف وخمس وعشرون ساعة (عددتها ساعة ساعة) تركوك مع القيء والصديد والجرح في بطنك ينزف. أذكر عينيك حين قلت لي - والأسلاك بيننا: لو كان النزيف دما أحمر، لكنه ليس أحمر، إنه أبيض، وله رائحة مثل الموت، ماذا قلت لك يومها؟ لا أعرف، لكني قلت أي شيء، قلت إن الرائحة تصبح عادية حين نألفها ونعيش معها، ولم أستطع أن أرفع عيني إلى وجهك الشاحب لكني سمعت صوتك وأنت تقولين: إنها ليست رائحة يا أمي ككل الروائح تدخل الأنف أو الفم، ولكنها شيء كالهواء السائل، أو كالبخار الذي تحول إلى ماء لزج، أو كالحديد الذي انصهر وسال ودخل جميع فتحات الجسم، ولا أعرف يا أمي إن كان ساخنا ملتهبا أو باردا كالثلج. وضغطت بيدي على صدري، وشددت على يدك الناحلة من خلال الأسلاك وأنا أقول لك: حين يصبح الساخن كالبارد يا ابنتي فكل شيء محتمل، لكني ما إن تركتك حتى أحسست قلبي يتمدد ويتمدد حتى ملأ صدري، وضغط على رئتي ولم أعد قادرة على التنفس، كالاختناق أصابني فمددت أنفي نحو السماء لأشد الهواء إلى صدري. لكن السماء ذلك اليوم خلت من الهواء، والشمس مصبوبة فوق رأسي كنار جهنم، وعيون الحراس تلسعني، وأصواتهم البذيئة لا تزال في جوفي كالبصقات المتراكمة. آه، لو تحولت الأرض إلى وجه رجل منهم لبصقت عليه، وبصقت وبصقت حتى يجف حلقي وصدري، نعم يا ابنتي، شدي عضلات ظهرك وارفعي رأسك وحركيه نحوي فأنا جالسة بالقرب منك، وقد سمعتهم وهم يصفقون لك، فهل سمعتهم؟ ورأيتك تحركين رأسك نحونا فهل رأيتنا أنا وأباك وأختك الصغيرة وكلنا صفقنا معهم؟ هل رأيتنا؟
عيناها كانتا لا تزالان تشقان الضباب الكثيف، والقاضي كان لا يزال واقفا برأسه الأملس الأحمر، وشفته السفلى ترتعش بكلمات سريعة، وعن يمينه وعن يساره رأت الرءوس الملساء الحمراء التي أصبحت تتحرك مبتعدة عن تلك المائدة المرتفعة، واختفى رأس القاضي واختفت معها الرءوس الملساء. إلا أن الصورة فوق الجدار لا زالت كما كانت، والوجه داخلها لا زال هو الوجه، والعينان هما العينان. لكن عينا منهما تبدو لها الآن أصغر من العين الأخرى، كأنما هي نصف مغمضة، أو كأنما هي تغمز لها، تلك الحركة المألوفة حين يغمز رجل لامرأة ليغازلها. انتفض جسدها بدهشة كالرعب: أيمكن أن يغمز لها؟ وهل يمكن أن تتحرك عيناه داخل الصورة؟ وهل يتحرك الجماد؟ أم أنها مريضة وتهذي؟ وتحسست المقعد تحتها ببطن كفيها، وارتفعت يداها تتحسس جسمها، سخونة ما شديدة تنبعث من جسمها كنار تلسع، وشيء كالحريق داخل صدري، وهي تريد أن تفتح فمها وتقول: كوب ماء. لكن شفتيها ملتصقتان كشفة واحدة، كخط أفقي مشدود كالسلك، وعيناها أيضا مشدودتان نحو الصورة، والعين داخل الصورة لا زالت تغمز لها، لماذا يغمز لها؟ هل يغازلها؟ أم يبعث إليها بتحية؟ لم تكن تعرف أن الغمز نوع من التحية إلا حينما رأت - منذ عامين - طابورا من السياح الأجانب سائرا في الشارع. كانت في طريقها إلى الجامعة، وكلما كانت تنظر في وجه الرجل منهم أو المرأة إذا بالعين تغمز لها بتلك الحركة الغريبة. ودهشت إلى حد الخوف ولم تعرف كيف يمكن للنساء أيضا أن يغازلنها بذلك الغمز الغريب، إلا أنها عرفت فيما بعد أن هذه هي طريقة الأمريكيين في التحية.
المنصة التالية لا تزال خالية من القاضي والرءوس الملساء من حوله، والصمت لا زال ممتدا، والرءوس في القاعة لا تزال متلاصقة على شكل صفوف، وعيناها لا تزالان تتحركان تبحثان عن كثافة من الشعر الأبيض، وعن عينين سوداوين تستطيع أن تراهما وهي مغمضة العينين. لكن الرءوس متلاصقة كثيفة وهي لا ترى سوى كتل من السواد أو البياض، دوائر أو مربعات أو مستطيلات. أنفها بدأ يتحرك كأنما يتشمم، فهي تعرف رائحتها وتستطيع أن تميزها من بين الآلاف، فهي رائحة كاللبن وهي طفلة ترضع، وكرائحة الصبح حين تطلع، والليل حين ينام، والمطر فوق الأرض المتربة، والشمس فوق السرير، والحساء الساخن في الصحن. وهي تقول لنفسها: أيمكن أن تتغيبي يا أمي؟ وأبي هل جاء؟
الضباب أمام عينيها لا زال كثيفا، ورأسها لا زال يتحرك ناحية صفوف الرءوس المتلاصقة، الدوائر البيضاء والسوداء تتداخل بعضها ببعض في حركة دائبة، إلا دائرة واحدة من الشعر الأسود ثابتة فوق جبهة عريضة سمراء، وعينان ثابتتان فوق الوجه النحيل الشاحب والجسد الصغير المكوم فوق المقعد من خلف الأسلاك، يداه الكبيرتان المعروقتان تمسكان ركبتيه، تضغطان عليهما من شدة الألم، لكنه ما إن سمع الصفقة حتى ارتفعت يداه من فوق ركبتيه وتلامستا في صفقة طويلة. يداه لا تريدان العودة مرة أخرى فوق ركبتيه، والألم في عظام ساقيه لم يعد محسوسا، وقلبه يصفق مع يديه بضربات عالية تهز جسده الضامر فوق المقعد، وعيناه أصبحتا تدوران حوله فوق الوجوه والعيون، وشفتاه انفرجتا قليلا وكأنما على وشك أن يهتف: أنا أبوها، أنا «الفرجاني» الذي أنجبتها وهي تحمل اسمي. يا إلهي كيف تتلاشى كل آلام جسمي دفعة واحدة أمام تلك الصفقات السريعة؟ ماذا لو وقفت الآن وكشفت لهم عن شخصيتي؟ هذه اللحظة فريدة وعلي ألا أضيعها؛ فالرجل منا يعيش ويموت من أجل لحظة كهذه، من أجل أن يعترف بنا الآخرون، أن يصفقوا لنا، أن نصبح أبطالا تتطلع إلينا العيون وتشير إلينا الأصابع. وقد تحملت الألم والعذاب معها يوما بيوم وساعة وراء ساعة، ومن حقي الآن أن أحظى بشيء من المكافأة وأشاركها البطولة.
حرك جسده قليلا في المقعد وكأنما يهم بالوقوف، لكنه ظل جالسا إلا أن رأسه كان لا يزال يتحرك، وعيناه تنتقلان من وجه إلى وجه، وكأنما يود لو تعرف عليه أحد. وتخلل التصفيق صوت القاضي الغاضب ودقات مطرقته السريعة الحادة فوق المائدة، ثم ما لبث أن انسحب القاضي ومن معه إلى حجرة المداولة. ودب الصمت من جديد في القاعة، صمت طويل رهيب، التقطت أذناه خلاله بعض الهمسات الخافتة: سيطبخون القضية في حجرة المداولة، هذه هي عادتهم، لا يوجد عندنا قضاء أو عدالة، سيعلنون بعد قليل أن الجلسة العلنية انتهت، إنها بطلة - ولا شك - لتظل حية حتى اليوم. تصور هذه الفتاة الصغيرة الجالسة هناك في قفص الاتهام تسبب كل هذا الهلع للحكومة. هل تعرف كيف عذبوها؟ انتهك جسدها عشرة رجال واحدا وراء الآخر، داسوا على شرفها وشرف أبيها بالأحذية. مسكين أبوها! هل تعرفه؟ يقولون: إنه مريض في الفراش، ربما لم يعد قادرا على مواجهة الناس بعد أن انتهكوا شرفه.
في هذه اللحظة ارتفعت يداه لتضغطا على أذنيه حتى لا يسمع، وتضغطا على رأسه حتى يدخل رأسه داخل صدره، وتضغطا أكثر وأكثر ليدخل جسده داخل المقعد أو تحت المقعد أو تحت الأرض. يريد أن يتلاشى، ألا يراه أحد أو يعرفه أحد. إن اسمه ليس الفرجاني ولا الشرقاوي ولا الزفتاوي ولا أي شيء. ليس له اسم وليس له وجود؛ فماذا يبقى للرجل منا بعد أن ينتهك شرفه؟ وقد قلت لها مرارا: يا ابنتي السياسة ليست مجال النساء ولا البنات لكنها لم تسمع كلامي، لو كانت رجلا ما كنت أتعذب كما أتعذب الآن، وما كان باستطاعة كلب منهم أن يمس شرفي وعرضي، الموت أفضل لي ولها الآن.
لا زال الصمت يخيم فوق القاعة، ولا زال القاضي وحاشيته لم يظهروا بعد، وعيناها لا تزالان تفتشان في محاولة للرؤية، تبحثان عن وجه بين الوجوه، عن عينين تعرفهما، عن كثافة من الشعر الأبيض بلون لبن الأطفال، لكن كل ما تراه ليس إلا دوائر ومربعات سوداء وبيضاء متداخلة ومتحركة على الدوام. أيمكن أن تتغيبي يا أمي؟ وأبي ألا زال مريضا؟ أنفها أيضا يتحرك هنا وهناك باحثا عن الرائحة المألوفة، عن رائحة الصدر الدافئ المليء باللبن، ورائحة الشمس ورذاذ المطر فوق العشب، لكن أنفها أصبح عاجزا أيضا عن التقاط الرائحة. كل ما يستطيع أن يلتقط هو رائحة جسدها المكوم فوق المقعد، وذلك الجرح النازف بين ساقيها، رائحة الصديد والدم، وأنفاس عطنة وعرق عفن لعشرة رجال، لا تزال آثار أظافرهم فوق جسدها، وأصواتهم البذيئة وبصقاتهم وصوت مخاطهم، وأحدهم يقول لها وهو جاثم فوقها: هذه هي طريقتنا لتعذيب النساء؛ أن ننتهك أعز ما يملكن. كان جسدها من تحته باردا كالجثة، لكنها استطاعت أن تفتح فمها وتقول له: يا غبي، إن أعز ما أملكه ليس بين ساقي! كلكم أغبياء! وأكثركم غباء هو كبيركم.
مدت عنقها لترفع رأسها وتشق الضباب بعينيها الضعيفتين، الرءوس الكثيرة لا تزال متلاصقة، وعيناها لا تزالان تجاهدان. لو استطاعت أن ترى أمها لحظة أو أباها أو حتى أختها الصغيرة لقالت لهم شيئا غريبا، لقالت لهم إنهم كفوا عن استخدام هذه الوسيلة من التعذيب حين اكتشفوا أنها لم تكن لتعذبها، وبدءوا يبحثون عن وسائل أخرى.
في حجرة المداولة المجاورة للقاعة، كان القاضي وأعوانه لا زالوا مجتمعين، يتداولون الأمر، ماذا يفعلون الآن وقد صفق الجمع للمتهمة، وبدأ القاضي يوجه الاتهام بدوره: - نحن لا نلقي عليك الاتهام يا أستاذ، ولكنك سببت لنا الحرج جميعا، وعلى رأي المثل حاولت أن تكحلها فعميتها، كيف تقول يا أستاذ عنه - حفظه الله وأدامه على رأس هذه الأمة الكريمة مدى الحياة - إنه غبي! - حاشا لله يا سيدي، أنا لم أقل ذلك، ولكني قلت إنها هي التي قالت إنه غبي. - ألا تعرف يا أستاذ المثل الذي يقول ما شتمك إلا من بلغك؟ فأنت قد أعلنت على الملأ أنه غبي. - أنا لم أعلن ذلك يا سيدي، أنا رددت ما قالته المتهمة لأثبت عليها التهمة، وهذه هي وظيفتي بالتحديد. - هي وظيفتك يا أستاذ، نحن نعرف ذلك، ولكن كان يجب أن تكون أكثر ذكاء وأكثر كياسة من ذلك. - لا أفهم شيئا. - ألم تر كيف صفق الناس لها؟ - وما ذنبي أنا؟ - ألا تعرف لماذا صفقوا؟ - لا أدري. - لأنك قلت في العلانية ما يقال في الخفاء؛ فأصبح وكأنما يقرر حقيقة بدلا من أن يثبت تهمة. - وماذا كنت أفعل غير ذلك يا سيدي؟ - كان يمكن أن تقول إنها سبت الذات العليا دون أن تقول ماذا قالت بالضبط. - وإذا سئلت عن أنواع هذا السباب؟ - لم يكن أحد ليسألك، لكنك تطوعت بالإجابة دون أن يسألك أحد، وكأنك انتهزت الفرصة لتقول بصوت عال وعلى لسانها ما تريد أن تقوله أنت، أو ربما ما قلته لنفسك في الخفاء. - أنا يا سيدي؟ أيمكن أن تتهمني بهذا الشكل؟! أنا أديت واجبي كما تمليه علي وظيفتي، ولا يستطيع أحد أن يتهمني بشيء، ربما كنت «غبيا» لكني لم أكن بأي حال «سيئ النية». - لكن «الغباء» أحيانا قد يكون أسوأ من «سوء النية»، ألا تعرف أن «الغباء» أسوأ صفة يمكن أن يوصف بها رجل، فما بالك إذا كان رجلا كهذا الرجل؟ إنه يفضل أن يكون ماكرا كاذبا لئيما داهية بل لصا أو خائنا، أما أن يكون «غبيا»؟! الغباء معناه أنه «لا يفكر»، أي إنه بغير عقل؛ أي حيوان، وهذه أسوأ صفة يمكن أن يوصف بها رجل عادي، فما بالك إذا كان حاكما؟! وأنت لا تعرف الحكام يا أستاذ، أنا أعرفهم جيدا، إن الواحد منهم يتصور أن عقله أفضل من عقل أي رجل آخر، إنه ليس تصورا فحسب لكنه إيمان أعمى كالإيمان بالله، ومن أجل هذا الوهم يمكن أن يقتل الآلاف. - لم أكن أعرف هذا يا سيدي، وكيف أنقذ نفسي من هذا المأزق؟ - لا أدري لماذا بدأت بصفة الغباء يا أستاذ، مع أنك لو قرأت كل أقوالها لوجدت أنها نسبت إليه صفات أخرى أقل بشاعة. - وما هي هذه الصفات يا سيدي؟ أرجوا أن تساعدني في انتقاء بعض منها حسب خبرتك، إني لا أريد أن أخرج من هنا متهما بعد أن دخلت في الصباح لأوجه الاتهام. - ولكن مثل هذه الصفات يا أستاذ لا يمكن أن تقال هكذا في العلانية، لا بد أن تكون الجلسة سرية، إن أي صفة مهما كانت أقل بشاعة فسوف يكون لها صدى داخل النفوس إذا ذكرت في العلن؛ ومن أجل هذا وجدت الجلسات السرية يا أستاذ، إن أمورا كثيرة تغيب عن ذهنك، ويبدو لي أنك قليل الخبرة بالقانون.
بعد لحظات قليلة، دب صوت حاد في القاعة، وأخليت القاعة تماما، أما هي فقد ساقوها إلى حيث كانت من قبل.
Page inconnue