Position sur la métaphysique
موقف من الميتافيزيقا
Genres
فبينما «الفلسفة» - بمعنى التحليل - ضرورية لتوضيح القضايا العلمية والعبارات الجارية في الحياة اليومية، نرى «الميتافيزيقا» - بمعنى الحكم على أشياء غير محسوسة - واجبة الحذف من دائرة المعارف الإنسانية؛ لأنها لا هي مزودة بأدوات المشاهدة التي تمكنها من الحكم على الأشياء، ولا هي ارتضت لنفسها أن تسمع ما يقوله المؤهلون لذلك مكتفية بتوضيحه وفهمه، «فإذا أراد الفيلسوف أن يثبت صدق ما يزعمه من أنه شريك في زيادة المعرفة الإنسانية، فلا يجوز له أن يحاول وصف الحقائق عن طريق التأمل الخالص، أو أن يبحث عن المبادئ الأولى، أو أن يصدر أحكاما قبلية عن صحة ما نعتقد في صدقه على أساس التجربة، بل ينبغي له أن يحصر مجهوده في التوضيح والتحليل.»
21
نعم، إن الفلسفة لم تجعل مهمتها دائما تحليل ألفاظ الناس وعباراتهم
22
كما نريد لها أن تكون، فقد جرى التقليد على أن تطلق كلمة «فلسفة» على موضوعات مختلفة فيما بينها جد الاختلاف، إذ تطلق على موضوعات شيئية كما تطلق على موضوعات منطقية على السواء.
غير أنها حين كانت تصب بحثها على موضوعات شيئية، لم تكن «أشياؤها» التي جعلتها موضوع بحثها هي بذاتها الأشياء التي تبحثها العلوم الطبيعية، أو ربما كانت هي نفسها أشياء العلوم الطبيعية، منظورا إليها من زاوية أخرى، ومبحوثا فيها بمنهج آخر غير التجربة. فإن كانت العلوم الطبيعية تبحث في الصخور والمعادن والنبات والماء والهواء، فقد جعلت الفلسفة «أشياءها» التي تبحث فيها غير تلك، إذ جعلتها أحد نوعين: فإما هي «أشياء» لا تقع لنا في الخبرة الحسية، مثل «الشيء في ذاته» و«المطلق» و«العدم» و«القيم»، وعندئذ كانت تسمي بحثها بالميتافيزيقا، وإما هي «أشياء» مما نصادفه في مباحث العلوم الأخرى، كالإنسان والمجتمع واللغة والتاريخ والاقتصاد والمكان والزمان والسببية، لكنها تعالجها بغير الطريقة التجريبية التي تعالجها بها العلوم، وعندئذ كانت تسمي بحثها فلسفة طبيعية أو فلسفة التاريخ أو فلسفة اللغة ... وهكذا.
وأما الموضوعات المنطقية التي كانت هي الأخرى تندرج تحت كلمة «فلسفة» - إلى جانب الموضوعات الشيئية التي ذكرناها - فلا يتعذر حصرها، فهي واقعة فيما نسميه حتى اليوم «بالمنطق»، وأهم أبحاثه طرائق تعريف الألفاظ وتحديدها، وصور القضايا المختلفة، وأنواع الاستدلال وهكذا، أضف إلى ذلك بعض أجزاء ما يسمى بنظرية المعرفة.
23
من ذلك ترى أننا حين نختار للفلسفة أن تحصر نفسها حصرا في التحليل المنطقي وحده، وأن تطرح كل محاولة نحو وصف شيء من العالم وصفا إيجابيا تعتمد فيه على التأمل، فإننا في الحقيقة نختار لها إحدى المجموعتين اللتين جرى العرف على جمعهما معا تحت اسم «الفلسفة»، وليس اختيارنا المجموعة المنطقية، وتركنا المجموعة «الشيئية» تعسفا وجزافا، بل هو قائم على أننا ننكر الميتافيزيقا إنكارا تاما من جهة -كما سيتبين خلال الكتاب - ونريد، من جهة أخرى، أن نترك «الأشياء» كالإنسان والمجتمع والتاريخ واللغة والطبيعة، إلى العلوم؛ لأن العلماء وحدهم، بما لديهم من أدوات ومناهج للبحث، هم القادرون على الوصول بهذه المباحث إلى نتائج يمكن الاعتماد على صدقها.
إننا نريد الإبقاء على الفلسفة، على شرط ألا تجاوز دائرة التحليل لما يقوله الناس في شتى نواحي التفكير، أي إننا لا نريد للفيلسوف أن يتقدم إلينا بقائمة من القضايا، قائلا هذه القضايا هي ما تقوله الفلسفة، فلكم أن تضيفوها إلى القضايا التي يقولها العلماء، ليتم بذلك علمكم عن العالم. كلا، فليست الفلسفة مع العلوم الأخرى في مستوى واحد، وليست الفلسفة علما من العلوم الطبيعية، بل موضوعها هو توضيح الأفكار توضيحا منطقيا، ليست الفلسفة نظرية تضاف إلى غيرها من النظريات، بل هي فاعلية [تنصب على تحليل القضايا العلمية]، وقوام العمل الفلسفي طائفة من توضيحات، ليست نتيجة العمل الفلسفي مجموعة من القضايا الفلسفية، بل نتيجته توضيح للقضايا [التي يقولها غير الفلاسفة من الناس]، واجب الفلسفة أن توضح وأن تحدد تحديدا قاطعا تلك الأفكار التي لولا الفلسفة لظلت معتمة مهوشة.»
Page inconnue