Vague de Feu : Collection de Nouvelles
موجة نار: مجموعة قصص
Genres
وكر ذلك الشريط السينمائي أمام عيني، وصار الباب كالشاشة البيضاء ، أتطلع إليه منتظرا ظهور كل غريبة، ولم يطل انتظاري حتى جاءني أميركي زري الثياب، مشعث الرأس، وناولني فاتورة بيع من «مكتب مخلفات الجيش، إلى مكحش وشركاهم» خمسة أطنان طحين فاسد لا تصلح للاستهلاك البشري. وهمس الأميركي في أذني: «إن كميونات السكر هنا.» قلت: «ما تعني بكميونات السكر؟ هذه فاتورة طحين فاسد.» قال مستغربا: «ألا تفهم؟ اشترينا الطحين الفاسد، ورشونا القائم على المستودع؛ فسلمنا سكرا، ودفع إلي بورقة: «تلفن إلى 72-24 وحينما يدفعون لك 82 ألف دولار سلمهم السكر، إبراهيم.»
وتلفنت وقبضت وسلمت، وقعدت في ذلك الكرسي ألهث تعبا كأني أركض وعلى ظهري كيس من حجارة. ودار الشريط، فإذا على الشاشة البيضاء صاحبنا الكابتن الأقرع يصافحني في مرح وظرف ويسألني عن القنبلة الذرية أين مكانها، فكان جوابي أن فتحت فمي ووسعت حدقات عيني، فمد يده إلى جرار في طاولتي قائلا: «كانت هنا.» وانتزع قنينة وسكي وكأسين فارغتين ملأهما وأعطاني إحداهما، ثم مضى يقص علي تاريخ حياته من يوم خلق إلى أن تخرج من جامعة هرفرد إلى أن تطوع في الجيش، وجرح في «أيوجيما»، ومنحوه رتبة كابتن والنيشان الفضي، وجاء «مانيلا» مسرحا من خدمة الجيش، غير أنه لمح في «مكتب مخلفات الجيش» ميدانا للتجارة، وها هو يتعاون مع صديقي جعفر في الاتجار وكلاهما ناجح؛ فالكابتن في يده فض غلافات المزايدة، وهو بدلا من أن يفضها في المكتب وعلى مشهد من التجار، يأخذها إلى غرفته ويطلع إبراهيم عليها، وأي صفقة أعجبت إبراهيم زاد هذا عليها عشرة سنتيمات فاشتراها وانتهى الأمر.
ولم يكن الكابتن في سرده أخبار المعارك التي خاضها متباهيا، بل كان كغيره من الأميركان يهزأ بنفسه ويبالغ بوصف رعبه في المعركة. كذلك لم يكن في تحداثه عن «تجارته» مع إبراهيم حييا؛ فقد كان يعتقد أن أشغاله تلك كانت أمورا مشروعة كأنها تجارة عادية. وحينما فرغت الزجاجة فرغ الكابتن من أحاديثه وناولني ورقة من إبراهيم تأمرني أن أدفع لحاملها ستة آلاف دولار، ففعلت.
واستمر عقربا الساعة في بطء دبيبهما نحو الساعة الثانية عشرة؛ إذ غمرت المكتب موجة من العطر فاسقة، ورن في أذني طقطقة كعبين عاليين، وأبصرت برقعة من البودرة، والحمرة، والأهداب المكحلة فوق فسطان من الحرير يتماوج ضيقا على قامة هيفاء شهية، وصوتا يقول: «هلو»، وأصابع حمراء الأظافر تدفع لي ورقة: «ادفع لحاملها ثلاثمائة دولار، إبراهيم.» وقد رسم إبراهيم تحت توقيعه رسم قرنين. وبعد أن عدت الدولارات، شكرتني، بغمزة زانية، ورددت عليها بنظرة بلهاء. وانصرفت، وأقفلت المكتب شاعرا كأنني خارج من كهف جناة أو قطاع طرق. •••
لن أروي لك حوادث الأربعة الأيام التي تلت الصباح؛ إذ إنها كانت مشابهة لما ققصت؛ حيلة إثر حيلة، ورشوة تتلو رشوة، وكذب وتزوير، ورجال ونساء يدفعون ويقبضون، والصندوق تتكدس فيه أوراق المال حتى كاد يضيق بها، وأنا متفكر متبرم بهذا الدور الذي أرغمني على لعبه، حانق عليه، متوعد له، أحاول أن أفهم لم أبطأ إبراهيم في عودته، وكيف زلقت أنا إلى قبول الاشتراك معه في اللعبة الذميمة.
وقرأت التلغراف:
صديقك إبراهيم في مستشفى سانتاماريا في خطر شديد، يصر عليك أن تحضر حالا.
الأب جورج هتكنسن
غريبة عواطف الإنسان، كيف تسرع في تقلباتها بين المد والجزر؛ فمنذ هنيهات كنت ناقما على إبراهيم مزدريا لأعماله، وها أنا حين مر نظري على ذلك التلغراف ذائب حنانا، لا أذكر من صديقي إلا كل ما كان فيه من نبيل وجميل، وكأنما الخطر الذي هو فيه أنا سببته، فرحت أوبخ نفسي على خيانتي لصديقي وأشجعها «لا لن يموت إبراهيم، سأهرع إليه وأدفع عنه الخطر، سأداعبه وأضحكه، سأريه كتاب «مجاني الأدب»، وأسأله أن يتبرك به، سأذكره بكل ما مضى بنا من حوادث فكهة، سأشجعه بقولي: إن من نجا من اليابانيين والمدافع وقذائف الطيارات لن يصرعه مرض في مستشفى.» وركبت قطار الليل إلى «سانتاماريا» متفائلا متحفزا إلى القتال كبدوي يهرع إلى مخيم قبيلته إذ قيل له إن عدوا هاجمها.
وقفزت من القطار قبل أن يقف، وطفقت أمشي وأركض إلى المستشفى في ضاحية «سانتاماريا». وفيما أنا في منتصف الطريق أطلت أشعة الشمس فبددت ما في نفسي من مخاوف، ورحت أقترب من المستشفى والكنيسة بقلب مفعم بالرجاء.
Page inconnue