85

فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين [سبأ: 14].

والقرآن الكريم يقول في غير موضع إنه لا يعلم الغيب إلا الله، ويقول بلسان النبي: ولا أعلم الغيب؛ فلا كاهن يعلم من أمر الدنيا سرا من أسرار الغيب؛ فضلا عن أمر النبوة والرسالة، والكاهنة التي تريد أن تحمل بنبي لا يخطر لها أن تحمل به سفاحا، فيقول لها عبد الله:

أما الحرام فالممات دونه

والحل لا حل فأستبينه

وأما أن تكون زوجة ثم لا ترى من زوجها تلك الغرة قبل ذهابها، ثم تأبى معاشرته بعد ذهابها، فليس مما يجوز تصديقه من شئون الزواج.

فالقصة كلها وما شابهها من القصص رغوة وزبد، وزبدتها جمال عبد الله، وأسى النفوس لما فات ذلك الجمال في عنفوان صباه.

ولا نكران لما كان عليه عبد الله من الوسامة والوضاءة وغضارة الشباب، سواء حفظت لنا السيرة قصة من تلك القصص أو جاءتنا غفلا منها، فقد حفظت لنا رؤية العيان أنه كان وإخوته يطوفون بالكعبة مع أبيهم فيأخذون الأبصار، ولم يصف الواصفون بني هاشم بدمامة أو معابة في الخلق والصورة، حتى فيما وصفهم به الشانئون وطلاب العيوب ... •••

وفيما وصل إلينا من سيرته قصة غير تلك القصص لا قبل للمبالغة وحدها بأن تخلقها؛ لأنها تحتاج إلى افتنان في وصفها، وتحتاج - مع الافتنان - إلى مصلحة مفروضة تدعو إلى اختلاقها، أو علة من العلل المعروفة تفسر لنا ذلك الاختلاق.

وتلك هي قصة النذر التي أوردناها في الكلام على الكعبة، وهي تقوم بديوان جامع من القصص للتعريف بخلائق عبد الله.

وليس يكفي في معيار النقد التاريخي أن يكون اختراع القصة ممكنا ليقال: إنها مخترعة؛ فإن اتهام كل خبر بالاختراع لأنه يجوز أن يخترع يسقط أخبار التاريخ كله في الزمن القديم وفي الزمن الحديث، وإنما يظن الاختراع بالخبر لمسوغ يدعو إلى الشك فيه، ولمصلحة توجب اختراعه، وتضطرنا اضطرارا إلى نفيه على ثقة أو على ترجيح.

Page inconnue