74

وملتقى الروايات في هذه القصة أنه أمر بنيه أن يكتب كل منهم اسمه في قدح، وطلب من صاحب القداح أن يضرب عليها، فخرج السهم باسم عبد الله، فهم بإنفاذ نذره لو لم يتشفع عنده ابنه العباس ورجالات قريش، وتنادوا بينهم: لئن فعل ذلك لتكونن سنة، ولا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه، فإن يكن فداء فبأموالنا جميعا نفديه.

واحتكموا إلى عرافة بالحجاز فسألتهم: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، قالت: قربوا عن ولدكم عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليها وعلى ولدكم، ثم زيدوا الإبل كلما أخطأها السهم حتى يخرج السهم عليها فانحروها عنه؛ فقد رضي ربكم ونجا ولدكم.

يقول الرواة: وعادوا إلى مكة فقربوا عشرة من الإبل، وضربوا القداح، فخرج القدح على عبد الله، وجعلوا يزيدون عشرة فعشرة حتى بلغت مائة، وقيل ثلاثمائة، فخرج السهم عليها فنحروها وتركوها لا يمنع من لحمها إنس ولا وحش ولا طير.

ومن أخباره أن قريشا خاصمته في ماء زمزم بعد أن احتفرها، وعارضوه في احتفارها، فاحتكموا إلى كاهنة بني سعد بن تميم بمشارف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر يتقدمون، وفني ماء عبد المطلب عند بعض المفاوز بين الحجاز والشام؛ فظمئ أصحابه حتى أيقنوا بالهلكة، وطلبوا الماء ممن معهم من قريش فلم يسقوهم، فجمع أصحابه وسألهم: ما ترون؟ قالوا: رأينا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل منا حفرته فيواريه فيها أصحابه إذا مات، حتى يكون آخركم موتا قد وارى الجميع، فضيعة رجل واحد خير من ضيعة الركب كله ...

ثم بدا له رأي أصوب من هذا الرأي فقال لأصحابه: والله إن إلقاءنا أنفسنا بأيدينا للموت هكذا دون أن نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لهو العجز؛ فهلموا نرتحل. ولم يذهبوا في طريقهم غير يسير حتى انفجرت عين ماء عذب تحت خف راحلته، فشربوا وملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فقال أصحابه: لا نسقيهم والله؛ لأنهم لم يسقونا، قال: نحن إذن مثلهم. ولم يرضه أن يعمل مثل عملهم وهو أحق بالرجحان عليهم، وعرف القرشيون له هذا الحق فكفوا عن منازعته في ماء زمزم، وسلموا له السقاية التي كانوا ينفسونها عليه.

ويروى عنه أنه كان له جار يهودي يسمى أذينة، وكان له مال كثير، فطمع فيه حرب بن أمية وأغرى به فتيانا من قومه فقتلوه، فلم يزل عبد المطلب يستقصي خبره حتى علم باغتياله ومن اغتالوه، فأبى إلا أن يكره حربا على الدية، وأخذ منه مائة ناقة أسلمها إلى ابن عم اليهودي، وارتجع ماله إلا شيئا هلك، فارتجعه من ماله.

وهذه هي المناقب «المخصصة» التي نقول: إنها لا تجري مجرى الطابع والوتيرة، ولا تغني عناوينها عن النظر في ملامح أصحابها ومميزاتهم في التفكير والعمل، وهي مناقب لا تخترع، ولا يضيرها أن يضاف فيها الخبر المخترع إلى الخبر الواقع؛ لأن الرواة المخترعين في هذه الحالة إنما ينقلون عن صورة أصيلة تمت في أذهانهم قبل اختراع أخبارهم عنها، فحاولوا أن تكون أخبارهم المخترعة مطابقة لحقيقتها.

ففي كل خبر من هذه الأخبار «المطلبية» إيمان وحزم ووفاء وجرأة على الخطر، ولكن في غير مغالطة ولا اصطناع، وإنما قوام ذلك كله حزم يملك زمامه، ويفعل واجبه كما يراه.

وأدعياء التاريخ خلقاء أن يسألوا أنفسهم هنا سؤالين لا يغفلهما أحد يفقه معنى تمحيص الخبر، وأولهما في هذا السياق: لماذا يخترع الرواة هذه الأخبار عن عبد المطلب دون غيره؟ وثانيهما: لماذا لم يخترعوها ولا اخترعوا أمثالها عن حرب بن أمية؟

فإذا كانت صورة الرجل في الأذهان هي علة الاختراع، فهناك حقيقة إذن ماثلة وراء هذه المخترعات، وهناك دلالة في اتفاق الأذهان على الاختراع أولى بالتصديق من اتفاقهم على رؤية العيان؛ لأن رؤية العيان تحتاج بعدها إلى البحث عما تدل.

Page inconnue