الطوالع والنبوءات
على بركة الله نمضي في سرد المقدمات التي سبقت البعثة المحمدية بنوعيها: مقدمات ترتبط بما تلاها من الحوادث ارتباط الأسباب بالمسببات.
ومقدمات لا ترتبط بما تلاها هذا الارتباط، بل لعلها تناقضها، وتؤدي إلى خلافها، وإنما ترتبط بها ارتباط الداء بدوائه، والعلة بما يزيلها، فليست النتائج هنا وليدة المقدمات، بل هي العلاج الذي يزيلها، والآية الإلهية التي تحول الأسباب الطبيعية إلى طريق الحكمة الأبدية التي تنكشف أوائلها من خواتيمها، خلافا للعرف الشائع من دلالة الأوائل على الخواتيم.
ورائدنا في متابعة هذه المقدمات بنوعيها أن ننظر في الآيات الكونية والمعاني التاريخية؛ لأنها - ولا شك - عنوان إرادة الله المتصرف في الكون كله، ولأنها - على هذا - مفتوحة الصفحات لكل ناظر ومتأمل يعمل بفريضة الإسلام الكبرى، وهي التفكير في ملك الله، والنظر بالعقل في حقائق السماوات والأرضين.
رائدنا في البحث عن مقدمات الدعوة النبوية أن إرادة الله ظاهرة في ملكه وآيات خلقه، وأن الناس مطالبون بالنظر في هذه الإرادة قبل النظر في المعجزات والخوارق التي لا تأتي في كل حين، ولا تخص المؤمنين دون سائر المصدقين بالحس والعيان، وسؤالنا عن كل معجزة لا يدور على إمكانها أو استحالتها، فليست المعجزات بالقياس إلى قدرة الله خالق الكون إلا كالمألوفات التي تجري بها العادات في كل يوم، فإذا كانت الموجودات مخلوقة بخصائصها، فالذي خلقها وخلق خصائصها يملك تغييرها وتبديلها، ويأتي بالمعجزات كما يأتي بالمنظور والمطرد من النواميس والعادات، وعقيدتنا في ذلك عقيدة الإمام الغزالي رضي الله عنه؛ حيث قال غير مرة: إن الحوادث تجري عند حصول الأسباب، ولا تجري بحصول تلك الأسباب، فليست خصائص المادة من فعلها ولا إراداتها، ولكن المادة وخصائصها جميعا من فعل الحكمة الإلهية التي تسخر كل شيء بمقدار.
فنحن لا نسأل: هل المعجزة ممكنة أو غير ممكنة؟ فإن العقل الذي يقول: إن المادة لا توجد إلا هكذا، أضيق من العقول التي تصدق كل شيء بغير بحث ولا برهان.
ولكننا نسأل: هل المعجزة لازمة أو غير لازمة؟ وهل كان لها أثر مشهود في الإقناع بالدعوة، كما ينبغي لكل معجزة، أو كانت في تاريخ الدعوة عملا بغير أثر ولغير ضرورة؟
ذلك أن الله - جل وعلا - يضع قوانين الطبيعة لحكمة، ويخرقها لحكمة، وتعالى الله عن العبث في غير معنى، فلا يكون خرق القوانين وخلق المعجزات لغير قصد يعلمه شهود المعجزة التي تخالف مألوفهم ومجرى العادات أمامهم كل يوم.
وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا عن «عبقرية محمد» حين قلنا: «إن علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تتمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها، فإذا تجمعت هذه العلامات فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟ وإذا تعذر عليها أن تتجمع، فأي علامة غيرها تنوب عنها، أو تعوض ما نقص منها؟! وقد خلق محمد بن عبد الله ليكون رسولا مبشرا بدين، وإلا فلأي شيء خلق؟! ولأي عمل من أعمال الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات، وكل هاتيك المناقب والصفات؟!
لو اشتغل بالتجارة طول حياته، كما اشتغل بها فترة من الزمن؛ لكان تاجرا أمينا ناجحا موثوقا به في سوق التجار والشراة، ولكن التجارة كانت تشغل بعض صفاته، ثم تظل صفاته العليا معطلة لا حاجة إليها في هذا العمل مهما يتسع له المجال، ولو اشتغل زعيما بين قومه لصلح للزعامة، ولكن الزعامة لا تستوفي كل ما فيه من قدرة واستعداد، فالذي أعده له زمانه وأعدته له فطرته هو الرسالة العالمية دون سواها، وما من أحد قد أعد في هذه الدنيا لرسالة دينية إن لم يكن محمد قد أعد لها أكمل إعداد.»
Page inconnue