وأخطر من ذلك كله أثرا في إعظام شأن الكعبة أنها المفخرة القومية، والحرم الإلهي الذي بقي للعرب بعد سيادة الروم على غسان، وتقلب الحبشة والفرس على اليمن، وشعور اللخميين - سادة الحيرة - أنفسهم بمناعة الكعبة، ومناعة الطريق في أيدي مضر ومن يواليها، وهوان سلطان هؤلاء اللخميين حتى آل بهم الأمر إلى الدثور، ثم جاءت وقعة ذي قار التي انتصر فيها العرب على الفرس بعد زوال دولة اللخميين وقضاء الفرس عليها، فهزت الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، ونمت على نخوة قومية عربية تمكنت من نفوس القبائل جميعا، فاشرأبت أعناقها زمنا إلى كل ملاذ تقصر عنه أيدي فارس والروم.
هؤلاء القوم الذين يفخرون بأنسابهم فيما بينهم، ويفخرون بجنسهم بين سائر الأجناس قد حلت اللغة عندهم محل العرش والدولة، ومحل البذخ والحضارة، ومحل العلم والصناعة، حتى أصبح الفخر بها علامة من العلامات التي يتميزون بها في عرف علماء الأجناس البشرية، فإذا وجد الفخر باللغة فتلك علامة العربي بين العناصر عامة من أقاربه الساميين إلى الغرباء عنه من الآريين والطورانيين والحاميين.
ثم تتجلى فيهم دون سائر الأمم تلك الظاهرة الفريدة في تواريخ الأديان والثقافات، وهي العلو بالبلاغة حتى تكون البلاغة في قسطاس كل مخاطب بالقرآن الكريم تحديا نبويا، وتحديا ربانيا، من معجزات الإله التي لا تتسامى إليها قدرة البلغاء في أمة اللسن والبيان.
وهذه ظاهرة متجلية للنظر القريب والبعيد لا تحتاج من المستشرقين إلى بحث عن مجهول أو معلوم، فما يجيء الكتاب بهذه المعجزة لأمة خلت من مأثورات البلاغة في شعرها وجوامع كلماتها، وما هو بجائز عقلا أن يتحداها القرآن وهي لا تعرف من كلامها شيئا يتجه إليه ذلك التحدي، وتدور عليه الموازنة في عرف الخبراء بالكلم البليغ، فالقياس المستقيم أن القرآن نزل في قوم لهم بلاغة موروثة يتناقلونها، ولا يجهلون أعلامها.
وأما القول بأن بلاغة الجاهلية لم تكن حقيقة واقعة، وإنما اصطنعها الرواة اصطناعا بعد الإسلام سندا للقرآن، ودفعا للشبهات عنه بين المؤمنين به؛ فليس من القياس المستقيم في مقياس غير مقياس أولئك المستشرقين، وما كان الجاهلي الكافر ليقبل آية القرآن، ولا يشك في فصاحة القرآن، ثم يأتي المسلم المؤمن، فلا تثبت له فصاحة القرآن إلا بكلام يخلقه خلقا لينسب إلى أولئك الجاهليين، ولقد حدث نقيض ذلك في كثير من الشواهد على صحة اللغة وسلامتها، فكان القرآن مرجع المصححين فيما يختلفون عليه، ويبتغون له سندا لا مراء فيه.
ومهما يبلغ من ضعف الذاكرة بالبادية - وليست هي بالضعيفة - فلن يبلغ من نسيانها أن ينقطع الجد عن أخبار أبيه وأخبار بنيه، وأن ينسى لغة سمعها في حياته، أو سمعها أبوه قبل مولده، فما كان جيلان أو ثلاثة أجيال بالامتحان العسير لذاكرة قوم لا معول لهم على غير الذاكرة ورواية الأخلاف عن الأسلاف، وإنه ليمتنع أو يستحيل أن ينشأ الإسلام في جيل يجهل اللغة التي تنسب إلى شعراء المعلقات، وأقدمهم لم يسبق جيل الإسلام بأكثر من مائة وخمسين سنة. وفي هذه السنين خاصة توحد حساب التاريخ، وتولاه قلامس العرب، وخالفوا فيه تقويم اليهود في حساب النسيء، فكان جنادة بن عوف ناسئا عند ظهور الإسلام، وسبقه أبوه عوف بن أمية، وسبقه أبوه أمية بن قلع، وسبقه أبوه قلع بن عباد، وسبقهم آخرون إلى عهد القلمس من بني كنانة، فهم في تاريخ معلوم متسلسل قبل الإسلام بأربعة أجيال.
ومن فهاهة المستشرقين هؤلاء أنهم لا يختارون من تاريخ العرب مطعنا يصيبونه غير اللغة والأنساب، وكلهم يتحذلقون على العلم في شكوكهم الموكلة بالتاريخ العربي أو الإسلامي من أقدم عهوده، ثم يأتي العلم فيثبت بالكشوف المحسوسة صدق الخرافة المزعومة، وكذب العلماء الزاعمين، حتى لقد أصبح التخريف حقا لهؤلاء المحققين، الذين لا يعرفون من التحقيق إلا اتهام كل رواية عربية أو إسلامية بالتخريف.
فمن أقطاب هؤلاء المخرفين من أنكر عادا وثمود، وأنكر الكوارث التي أصابتهم بغير حجة، إلا أنه يحسب أن المنكر لا يطالب بحجة، ولا يعاب على النفي الجزاف، فما لبثوا طويلا حين تبين لهم أن عادا “Qadita”
وثمود “Thamudida”
مذكورتان في تاريخ بطليموس، وأن اسم عاد مقرون باسم إرم في كتب اليونان، فهم يكتبونها «أدراميت»
Page inconnue