وقد حدث في عهد هركانوس الأول المكابي أنه أغار على الأدوميين وأكرههم على التهود فتهودوا، وقامت منهم دولة هيرود حليفة الرومان. وكان ذلك في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد حين ضعف إيمان اليهود برجعة الدولة الدنيوية إلى أرض الموعد، وكان تدبيرا حربيا سياسيا دعت إليه الرغبة في تأمين الطريق ومخالفة الرومان؛ لدرء الخطر من ناحية فارس وحلفائها من جانب الصحراء.
فإذا كان اليهود قد أكرهوا قبائل اليمن على التهود، فمن أين لهم القوة التي تضارع قوة المكابيين في الشام وفلسطين؟ وإذا كانوا قد هودوا تلك القبائل بالتبشير والإقناع، فكيف قبلوا أن يشركوا معهم أناسا من المطرودين المحرومين في وعد إبراهيم الخليل؟
إن الاحتمال الراجح بين هذه النقائض أن اليهود وصلوا إلى اليمن مهاجرين متفرقين، وربما بدأت هذه الهجرة من أيام السبي البابلي لقرب بابل من طريق البحرين إلى اليمن، فإن لم تكن موغلة هذا الإيغال في القدم، فقد يكون مبدؤها عند تشتيت اليهود في أوائل القرن الثاني للميلاد، ثم استمرت نحو ثلاثمائة سنة إلى أواخر الدولة الحميرية، ثم وجد اليهود الحميريون أنفسهم معرضين لخطر واحد أمام تحالف الحبشة والروم ونصارى اليمن بنجران وغير نجران، فعقدوا الحلف المقابل لهذا الحلف بينهم وبين فارس وأعوانها من عرب الشواطئ الشرقية.
ومن المعلوم أن الدولة الفارسية كانت تنازع الحبشة والروم في أرض اليمن، وكانت ترحب في بلادها باليهود بعد انقلابهم على الدولة الرومانية، واشتهارهم بمعاداتها وموالاة أعدائها، وكانت ترحب بالنصارى الذين اضطهدهم الرومان الوثنيون، ولم تزل ترحب بعد ذلك بالنصارى من أتباع المذاهب التي وقع عليها التحريم والتشريد بعد تنصر العواهل الشرقيين في القسطنطينية، ولم تقبل نصارى الحيرة إلا لعلمها بمنافستهم لنصارى غسان من أتباع الرومان، وانتمائهم إلى مذهب النسطوريين.
فالدولة الحميرية على عهد ذي نواس لم تكن دولة يهودية يقبلها اليهود، ويدخلونها معهم في عداد شعب الله المختار، ولكنها كانت تحالف اليهود وتعمل على الاشتهار بمحالفتهم؛ لإقناع فارس بولائها في النزاع بينها وبين الحبشة والروم، واشتهرت من ثمة بالتهود لأنها أيدت اليهود وتنكرت للنصارى؛ حذرا من معاونتهم - خفية أو جهرة - لشركائهم في العقيدة أبناء الحبشة. ولو كان اليهود هم القوة التي قامت عليها دولة حمير لما صاروا إلى القلة التي غمرتها الكثرة العربية في القرن الخامس للميلاد.
وأيا كان تاريخ اليهودية في اليمن وفي بلاد العرب عامة، فإنها لم تكن ذات رسالة دينية أو روحية للصلاح والإصلاح، ولم تكن يهودية معترفا بها بين بني إسرائيل في غير الجزيرة العربية، وقد نقل الدكتور إسرائيل ولفنسون، صاحب كتاب «تاريخ اليهود في بلاد العرب»، رأيا فيهم ليهود دمشق وحلب رواه جريتز
Graetz
فقال: «إنهم كانوا ينكرون وجود يهود في الجزيرة العربية ويقولون: إن الذين يعتبرون أنفسهم من اليهود في جهات خيبر ليسوا يهودا حقا؛ إذ لم يحافظوا على الديانة الإلهية التوحيدية، ولم يخضعوا لقوانين التلمود خضوعا تاما، وأن العالم «شير» كان يعتقد أن اليهودية في بلاد العرب كانت لها صبغة خاصة؛ فقد كانت يهودية في أساسها، ولكنها غير خاضعة لكل ما يعرف بالقانون التلمودي.»
ولا يمنع هذا أن يكون ليهود يثرب رأي في أنفسهم غير رأي إخوانهم الدمشقيين والحلبيين، فقد روي أوليري
O’leary
Page inconnue