والثالث : وهو أن العقلاء يجزمون بأن البناء المعين في الدار والمدرسة لا يحصل إلا من إنسان يتولى إصلاح حال ذلك البناء [فأما أن يحدث ذلك البناء] (1) من غير أن يتولاه إنسان ، فذلك مستبعد عند الكل ، حتى إن إنسانا لو ادعى أنه غاب بالأمس عن الصحراء المعينة ، ثم عاد إليها في اليوم الثاني ، فوجد الدور والبساتين قد حدثت من غير أن يحضر هناك إنسان يتولى إصلاحها ، فإن جمهور العقلاء يكذبون هذا القول ، فهذا الجزم حاصل في عقول الجمهور ، ثم إن هذا الجزم باطل عند المتكلمين فإنهم يجوزون أن يخلق الله تعالى ذلك البناء ابتداء من غير واسطة إنسان ، ويجوزون أيضا أن ملكا من الملائكة تولى إصلاحه ، أو واحدا من الجن والشياطين تولى إصلاحه ، فثبت بهذا : أن المتكلمين أطبقوا على أنه ليس كل ما يحكم به جمهور الخلق بحسب ما لهم من الفطرة الأصلية والغريزة السليمة ، وجب أن يكون ذلك الحكم حقا ، وإذا ثبت هذا وثبت أنه لا تعويل لكم على صحة قولكم : «إن الحادث لا بد له من محدث » إلا على أن جمهور الخلق يحكمون بصحة هذه المقدمة بمقتضى الفطرة الأصلية ، ثبت أن هذه المقدمة ضعيفة.
السؤال الرابع : أن نقول : إن دل ما ذكرتم على أن العلم بافتقار الممكن والمحدث إلى المؤثر علم ضروري ، فههنا وجوه تدل على أن هذا العلم ليس بضروري وبيانه من وجوه :
الأول : إنا إذا عرضنا على عقولنا : أن الواحد نصف الاثنين ، وعرضنا أيضا على عقولنا : أن الممكن لا بد له من مرجح ، وجدنا حكم العقول بالقضية الأولى أظهر من حكمها بالثانية والتفاوت بين الحكمين في القوة يدل على أن احتمال النقيض حاصل في المرجوحية ، وذلك يدل على أن هذه المرجوحية ظنية لا يقينية.
فإن قيل : لا نسلم وقوع التفاوت في جزم العقل بهاتين القضيتين ، فما الدليل عليه؟ سلمنا أنه قد يقع التفاوت بين هذين الحكمين في بعض
Page 79