بسم الله الرحمن الرحيم
باب في نقد الشعر
قال الحسن بن عبد الله بن سعيد: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال أخبرنا الرياشيّ عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان النابغة الذبيانيّ تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها، فأتاه الأعشى فأنشده أول من أنشد، ثم أنشده حسّان:
لنا الجَفَناتُ الغُرًّ يلمعن بالضُّحى ... وأسيافُنا يقطرن من نجدة دَما
ولدنا بنى العنقاءِ وابنَىْ محرِّقٍ ... فأكرمْ بنا خالًا بنا ابنما
1 / 3
قال النابغة: أنت شاعر ولكنك أقللت جفانك وسيوفك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى قال: حدثني علي بن العبّاس قال: رآني البحتريُّ ومعي دفتر، فقال: ما هذا؟ فقلت: شعر الشَّنفري قال: وإلى أين تمضي؟ قلت: أقرؤه على أبي العباس أحمد بن يحيى.
قال: رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام، فلم أر له علمًا بالشعر مرضيًّا، ولا نقدًا له، ورأيته ينشد أبياتًا صالحةً ويعيدها، إلا أنها لا تستوجب الترديد والإعجاب بها: قلت: وما هي؟ قول الحارث بن وعلة الشّيبانيّ:
قومي همُ قتلوا أميمَ أخى ... فإذا رميت يصيبني سهمي
1 / 4
فلئن عفوتُ لأعفون جللًا ... ولئن سطوتُ لأُوهنَنْ عَظمى
قلت: وهي يكون الحسن إلا مثل هذا، فما يعجبك أنت؟ قال يعجبني والله قول ربيّعة بن دؤاب الأسديّ:
إن يقتلوك فقد هتكتَ بيوتهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهابِ
بأحبِّهم فقْدًا إلى أعدائهِ ... وأشدِّهم فقدًا على الأصحابِ
قال: فإذا هو لا يعجب من الشعر إلا بما وافق مذهبه قال أبو بكر: نقد الشعر وترتيب الكلام، ووضعه مواضعه، وحسن الأخذ، والاستعارة، ونفى المستكره والجاسي صنعةٌ برأسها، ولا تراه إلى لمن صحّت
1 / 5
طباعهم، واتّقدت قرائحهم، وتنبهت فطنهم، وراضوا الكلام، ورووا وميَّزوا.
هذا شاعر حاذقٌ مميِّز ناقد، مهذّب الألفاظ، مثل البحتريّ، لم يكمل لنقد جميع الشعر. ولو أنّ نقد الشعر والمعرفة كان يدرك بقول الشعر وبالرواية، لكان من يقول الشعر من العلماء ويعرض له أشعر الناس.
هذا الخليل بن أحمد، وحمّاد الراوية، وخلفٌ، والأصمعيّ وسائر من يقول الشعر من العلماء، ليس شعرهم بالجيِّد من شعر زمانهم، بل في عصر كل واحدٍ منهم خلقٌ كثيرٌ ليس لجماعتهم علم واحد من هؤلاء، وكلُّهم أجود شعرًا. فقد يقول الشعر الجيِّد من ليس له المعرفة بنقده، وقد يميِّزه من لا يقوله.
وقد قيل لابن المقفّع: لم لا تقول الشِّعر مع علمك به؟ فقال: أنا كالمسنّ، أشحذ ولا أقطع.
أخبرنا الفسوىّ قال: حدّثني يموت بن المزرَّع قال: سمعت الجاحظ يقول: أجود الشعر ما رأيته متلاحم
1 / 6
الأجزاء، سهل المخارج، كأنّه قد سبك سبكًا واحدًا، وأفرغ إفراغًا واحدًا، فهو يجري على اللسان كما يجري فرس الرِّهان، وحتى تراها متّفقة ملسًا، وليّنة المعاطف سهلة. فإذا رأيتها مخلِّعة متباينة، ومتنافرة مستكرهة تشقُّ على اللسان وتستكدُّه، ورأيت غيرها سهلة ليّنة رطبةً متواتية سلسةً في النظام، حتّى كأنّ البيت بأسره كلمة واحدة، وحتّى كأنّ الكلمة بأسرها حرفٌ واحد، لم يخف على من كان من أهله.
من ذلك قوله:
من كان ذا عضُد يدركْ ظُلامتَه ... إنّ الذليل الذي ليست له عضُدُ
تنبو يداه إذا ما قلَّ ناصرهُ ... ويأنفُ الضَّيمَ إن أثرى له عددُ
1 / 7
وقوله:
رمتني وسترُ الله بيني وبينها ... عشيّة أحجار الكناس رميمُ
فلو كنت أسطيعُ الرِّماءَ رميتُها ... ولكنّ عهدي بالنَّضال قديم
فميِّل بين هذا وبين قوله:
لم يضرْها والحمدُ لله شيءٌ ... وانثنتْ نحو عَزْفِ نفسٍ ذهول
فتفقَّد النِّصف الأخير من هذا البيت، فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأُ من بعض، كما قال:
وبعضُ قريض القوم أولادُ علّه ... يكدُّ لسان الحافظ المتحفِّظ
1 / 8
وأنشد أبو بكر محمد بن يحيى أبيات ابن الرومي:
ومهفمفٍ تمتْ محاسنهُ ... حتى تجاوزَ منتهى النًّفسِ
تصبو الكؤوسُ إلى مراشفِهِ ... وتهشُّ في يده إلى الجسِّ
أبصرته والكاسُ بين فمٍ ... منه وبين أناملٍ خمسِ
فكأنَّها وكأن شاربها ... قمرٌ يقبِّل عارضَ الشمس
فقال أبو بكر: قد أحسن وملّح، إلاّ أنّه جاءَ بالمعنى في بيتين، واقتضى للبيت الأوّل دينًا على البيت الثاني.
وخير الشّعر ما قام بنفسه، وكما معناه في بيته، وقامت أجزاء قسمته بأنفسها، واستغنى ببعضها لو سكت عن بعض، مثل قول النابغة:
فلست بمستبقٍ أخًا لا تُلمُّه ... على شعَثٍ أيُّ الرجال المهذَّبُ
فهذا أجلُّ كلام وأحسنه، ألا ترى أن قوله: فلست
1 / 9
بمستبقٍ أخًا لا تلمُّه، كلامٌ قائم بنفسه. فإن زدت فيه على شعثٍ كان أيضًا مستغنيًا. ولو قلت أيّ الرجال المهذًّب، وهو آخر البيت، مبتدئًا به كمثلٍ أردته، كنت قد أتيت بأحسن ما قيل فيه.
قال أبو أحمد: وحدّثني جماعة من أصحابنا عن أحمد بن يحيى البلاذريّ قال: قرأت على ابن الأعرابيّ شعر الأعشى، فلمّا بلغت قوله
لا تشكَّى إلىَّ من ألم النِّس ... عِ ولا من حَفىً ولا من كَلال
نقب الخفّ للسّرى ...
قال ابن الأعرابي: نقب الخفِّ للسُّرى، فقلت أصلحك الله، إنّ تضمين بيتين عيبٌ في الشعر شديدٌ أفيضمّن الأعشى مع حذقه وتقدُّمه ثلاثة أبيات فيقول
لا تشكَّى إلىّ من ألم النِّس ... عِ ولا من حَفىً ولا من كَلالِ
نَقَبَ الخفِّ للسّرى وترى الأن ... ساعَ من حلِّ ساعةٍ وارتحالِ
1 / 10
أثّرتْ في جناجنٍ كإران ال ... ميت عُولينَ فوق عُوجٍ طوالِ
فقال ابن الأعرابيّ: أنت شاعر؟ فقلت: شاعر كاتب فقال: منها علمت، اروه كما رويت: نقب الخفُّ للسُّرى قال أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، وأبو روق، قالا: أنشدنا الرياشيّ:
زواملُ للأشعار لا عِلمَ عندهم ... بجيِّدها إلاَّ كعلم الأَباعرِ
لعمرك ما يدرى البعيرُ إذا غدا ... بأوساقه أو راحَ ما في الغرائر
أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه قال:
1 / 11
أنشدنا أحمد بن يحيى:
الشعرُ لبُّ المرءِ يعرضه ... وتراه مثل مواقع النَّبل
منه المقصِّر عن رميّته ... ونوافذٌ يذهبن بالخصْلِ
أخبرنا أبو بكر النديم قال: حدثني يحيى بن علي أبو أحمد قال: نازعني محمد بن القاسم بن مهرويه يومًا فقال: دعبلٌ أشعر من أبي تمام فقلت له: بأيّ شيءٍ قدّمته: فلم يأت بمقنع، فجعلت أنشده محاسنها فيرى محاسن أبي تمام أكثر وأطرز، فأقام على تعصُّبه فقلت فيه:
يا أبا جعفر أتحكم في الشِّع ... ر وما فيك آلةُ الحكّامِ
إنّ نقد الدينار إلاّ على الصَّيْ ... رف صعبٌ فكيف نقدُ الكلام
1 / 12
قد رأيناك ليس تفرقُ في الأش ... عار بينَ الأرواحِ والأجسام
قال: وحدّثني أبو أحمد عن أبيه عن إسحاق قال: كان إدريس بن سليمان بن أبي حفصة، أخو مروان، ينشد الشعرَ الجيّد لنفسه ثم يقول: يا أبا محمد، قول الشِّعر أشدّ من قضم الحجارة على من يعلمه! وهو القائل:
وأنفى الشعرَ لو يلقاه غيري ... من الشُّعراء ضنّ بما نفيتُ
قال أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد: سرق إدريس بن سليمان هذا القول من قول الفرزدق: أنا عند العرب أشعرُ الناس، ولربّما كان نزع ضرس أسهل على من قول بيت شعر قال أبو أحمد الحسن بن عبد الله: وأنشدني أبو أحمد يحيى بن علي:
1 / 13
اعرف الشعر قبل تعرضه ... وادرِ ما وكدهُ وما سببه
وأعاريضَه التي أَخذت ... منْ أساليبه ... وما شُعُبه
إنما الشعرُ حُسن وحيٍ إلى ... حرِّ معنىً وبعده طُنبه
وحُلاهُ ألفاظه لا كمن ض ... مَّ قماشًا بالليل محتطبُة
أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدثنا أبو العيناء قال سمعت الأصمعيَّ يقول: أحسن ما قيل في اللوَّن عمر بن أبي ربيعة:
وهي مكنونةٌ تحيَّرَ منها ... في أديم الخدَّين ماءُ الشَّبابِ
1 / 14
شفَّ عنها محقَّق جندىٌّ ... فهي كالشَّمس من وراء السّحاب
وأحسن ما قيل في السِّنِّ قول بشر بن أبي خازم:
يفلّجن الشّفاه بأقحوانٍ ... جلاه غبّ سارية قطار
وأحسن ما قيل في العين قول عديّ بن الرّقاع:
وكأنّها بين النّساء أعارَها ... عينيه أحورُ من جآذر جاسمِ
وسنانُ أقصده النعاسُ فرنّقت. ... في عينه سنةٌ وليس بنائم
قال أبو أحمد: سمعت أبا بكر يقول:
سمعت محمد بن يزيد يقول: لو سئلت عن أحسن أبياتٍ تصَّرفت من المراثي لم أختر على أبيات الخريمي:
1 / 15
ألم ترني أبنى على الليث بيته ... وأحثُو عليه التّربَ لا أتخشَّعُ
وأعددتُه ذخرًا لكلِّ ملمَّة ... وسهمُ المنايا بالذَخائر مُولَع
وإنِّي وإن أظهرتُ منّي جلادةً ... وصانعتُ أعدائي عليه لموجَع
ولو شئتُ أن أبكي دمًا لبكيتُه ... عليه ولكن ساحةُ الصَّبر أوسعُ
وقال الأصمعيّ: أرثى بيتٍ قيل في الجاهلية:
أيّتها النفس أجملي جَزَعا ... إنّ الذي تحذرين قد وقعا
وقال أبو عمر: أرثى بيت قول عبدة:
فما كان فيسٌ هُلكُه هلكَ واحدٍ ... ولكنَّه بنيانُ قوم تهدَّما
1 / 16
وقال خلفٌ: أرثى بيت:
الآن لمّا كنت أكملَ من مَشَى ... وافترَّ نابُك عن شَباة القارح
وتكاملَتْ فيك المروءةُ كلُّها ... وأعنتَ ذلك بالفعال الصالح
وقول الخنساء:
أغرُّ أبلجُ تأتمُّ الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ
وقال غيره:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوِّه ... فطيبُ تُراب القبر دلّ على القبر
وقال غيره:
لن يلبث القُرناءُ أن يتفرَّقوا ... ليلٌ يكرُّ عليهُم ونهارُ
1 / 17
قال الأصمعي: أرثى بيت قوله:
ومن عَجَبٍ أن بتَّ مستشعرَ الثرى ... وبتُّ بما زودّتني متمتِّعا
ولو أنّني أنصفتك الودَّ لم أبتْ ... خلافك حتّى ننطوي في الثرى معا
قال أبو أحمد: أخبرني أبو عبد الله نفطويه، أخبرنا أحمد بن يحيى عن الرياشي عن الأصمعي قال: قيل لأبي عمرو بن العلاء: ما أحسن ما قيل في الماء؟ فقال: قول امرئ القيس:
فلمّا استطابوا صبّ في الصّحن نصفه ... وشجّ بماءٍ غير طرقٍ ولا كدر
بماءِ سحابٍ عن صخرةٍ إلى ... بطن أخرى طيِّب طعمه خصرْ
وقيل له: ما أجود ما قيل في صفة سيل؟ قال قول أبي ذؤيب:
1 / 18
لكلِّ مسيلٍ من تهامة بعد ما ... تقطَّعُ أقرانُ السّحاب عجيج
قيل: فما أحسن ما قيل في السحاب؟ قال قول أوس:
دان مسفِّ فويق الأرض هيدبُه ... يكاد يدفعه من قام بالرَّاحِ
فمن بنجوته كمن بعقوتهِ ... والمستكنُّ كمن يمشي بقرواحِ
يقشر جلدَ الحصى أجشَّ مبتركا ... كأنه فاحصٌ أو لاعبٌ داح
قال: وأهجى بيت قالته العرب قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونَكم ... وجاراتكم غرثى يبتنَ خمائصا
1 / 19
وقول زيد الخيل:
وخيبةُ من يخيب على غنىّ ... وباهلة بن أعصرَ والرّبابِ
وقول جرير:
فغُضَّ الطرفَ إنك من نميرٍ ... فلا كعبًا بلغتَ ولا كلابا
وقوله:
وإنّك لو رأيتَ عبيدَ تيمٍ ... وتيمًا قلت أيُّهم العبيدُ
ويقضى الأمرُ حين تغيب تيمٌ ... ولا يستأذنون وهم شهودُ
وقوله:
وكنتَ إذا حللتَ بدار قومٍ ... رحلت بخزية وتركتَ عارا
1 / 20
وأفحش بيت قالته العرب قوله:
قومٌ إذا طرق الأضيافُ دارهمُ ... قالوا لأمِّهم بولي على النارِ
وقال عبد الملك بن مروان: أهجى بيت:
فإن تصبك من الأيام جائحةٌ ... لم أبكِ منك على دنيا ولا دين
وأهجى بيت في الإسلام:
قبحتْ مناظرُه فحينَ خبرتُه ... فبحتْ مناظره لقُبح المخْبَر
قال: وأمدح بيت قول زهير:
تراه إذا ما جئته متهلِّلًا ... كأنك معطيه الذي أنت سائلُه
وبيت النابغة:
1 / 21
بأنّك شمس والملوك كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يبد منهنّ كوكب
وبيت جرير:
ألستم خيرَ من ركب المطايا ... وأندى العالمينَ بطونَ راحِ
وبيتُ أبى الطّمحان القينىّ:
أضاءَت له أحسابُهم ووجوهُهم ... دجى الليل حتّى نظّم الجَزعَ ثاقبُه
وقال ابن الأعرابيّ: أمدح بيت قالته العرب قول أوس بن مغراء في سعيد بن العاص:
ما بلغتْ كفُّ امرئٍ متناولٍ ... من المجد إلاَّ والذي نلت أطولُ
1 / 22