فقالوا١ في مكرهم ﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: ٢٣]، فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله. في المحمديين: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [نوح: ٢٣] أي: حكم٢، فالعالم يعلم٣ من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة٤، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله.
_________
١ يعني قوم نوح الوثنيين.
٢ بل أمر ووصى كما ستعرف.
٣ في الأصل: يعلمه.
٤ يشبه الحق والخلق، بالجسد وأعضائه في أن كليهما واحد في الحقيقة، كثير بالاعتبار فأنت إذا أفردت بالنظر كل عضو من أعضاء الجسم، فهو كثير، إذ ترى رأسا، ووجها، ويدين، وقدمين، وإذا نظرت إليه جملة وجدته واحدا.
وهذه الوحدة حقيقية، أما الكثرة فاعتبارية فحسب. وكذلك -هكذا يفتري الزنديق- الله والعالم. فالعالم في حقيقته ليس شيئا سوى الله، أو هو تعينات أسمائه برزت في صور مادية. كما أن أعضاء الجسم ليست شيئا آخر غير الجسم، بل هي هو. ومدلول جميعها مدلوله. ورغم ما في المثل من تلبيس وزندقة فإنه لا يصحح لابن عربي مذهبه، فاليد مثلا ليست هي كل الجسد، وإنما هي عضو، أو جزء منه. وابن عربي لا يقول عن شيء ما: إنه عضو الإله أو جزؤه، بل هو عنده عينه وكله!!
والذي يستلفت نظر المؤمن أن الغزالي سبق ابن عربي إلى استعمال هذا المثل في نفس ما استعمله فيه ابن عربي؛ إذ يقول، وهو بصدد بيان المرتبة الرابعة من التوحيد: "ألا ير ى في الوجود إلا واحدا"، وهي مشاهدة الصديقين. وتسمية الصوفية الغناء في التوحيد" ثم يشرح حال الموحد في هذه المرتبة، فيقول: "والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد، فإن قلت: كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحدا وهو يشاهد السماء والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة؟ " يجيب الغزالي عن هذا بمثال يقرب في زعمه ذلك إلى الذهن، فيقول: "إن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وعروقه، وهو باعتبار آخر، ومشاهدة أخرى واحد، وكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد، وباعتبارات أخر سواه كثر" انظر باب التوحيد من كتاب الإحياء.
1 / 51