تكفير الصوفية لنوح:
لو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه: فدعاهم جهارا، ثم دعاهم إسرارا، ثم قال لهم: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [نوح: ١٠] وقال: ﴿إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَارًا﴾ [نوح: ٥، ٦] وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته، فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح ﵇ في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغى إلى الفرقان، وإن كان فيه. فإن القرآن١ يتضمن
_________
= لإثبات أن الله سبحانه له صفتا السمع والبصر، وأنه لإعجاز حكيم أن يجيء الإثبات بعد النفي، حتى يستقر اليقين في القلب بأنه سبحانه لا يماثله شيء، ولا يماثل هو شيئا، فإذا أثبت الله بعد هذا النفي المؤكد لنفسه صفتي السمع والبصر، فهم فيهما المؤمن ما يليق بجلال الله وكبريائه وربوبيته، لا ما استقر في الوعي مما يشهده الحس في الخلق فسبق النفي تصفية للفهم والقلب والفكر، من زيغ المثلية، وإعداد لتلقي ما يرد بعده من إثبات تلقي إيمان ويقين لا يمسه وهم من التشبيه، أو طائف من المثلية.
أما إذا اعتبرت الكاف غير زائدة، فلا يفيد هذا مطلقا إثبات المثلية، لأن سياق الآية ينفيها، والضمير "هو" ينفيها كذلك، ثم إن العرب -والقرآن عربي- كانوا إذا بالغوا في نفي المثلية قالوا: مثلك لا يفعل كذا، ومرادهم نفي الفعل عنه، لا عن مثله، ولكن إذا نفوه عمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه بالأولى.
وعلى فرض، المستحيل فإن تلبيس ابن عربي يهدم باطله؛ لأن المثلية تستلزم الاثنينية، تثبت وجود اثنين في أحدهما غير ما في الآخر. وهو يدين بالوحدة المطلقة.
١ يريد ابن عربي بالقرآن: الجمع بين الحق والخلق، أي: إدراك أنهما وجهان لحقيقة واحدة سميت حقا باعتبار باطنها، وخلقا باعتبار ظاهرها، هذه الحقيقة: هي ماهية الله سبحانه، ويريد بالفرقان: التفرقة بينهما. ولذا يبهت نوحا ﵇ بأنه جهل حقيقة الدعوة إلى الله سبحانه، أو بأنه مكر بقومه في دعوته، إذ دعاهم إلى الإيمان بالحق مجردا عن الخلق، أي: بأن الحق غير الخلق، ففصل نوح -هكذا =
1 / 46