كأسا الويسكي خاليتان. كانت الفتاة قد مالت إلى الأمام وتقبل وجه الرجل. رأسه مستقرة على الوسادة ولا يتحرك. تميل فوقه، وعيناها مغمضتان، أو تكاد تكون مغمضتين، وجهها عريض، وشاحب، ولا يعبر عن أي شيء، وجه قمر حقيقي. تقبل شفتيه، خديه، جفنيه، جبهته. يستسلم لها؛ يدعها تقوم بذلك. تقبله وتلعقه. تلعق أنفه، الذقن الخفيفة النابتة في خديه، ورقبته، وذقنه. تلعق كل جزء من وجهه، ثم تلتقط أنفاسها، وتواصل التقبيل.
يجري هذا في غير عجلة، في غير نهم. ولا يجري الأمر بصورة آلية أيضا. لا يوجد أي أثر من آثار الإجبار. الفتاة متحمسة؛ تمر بنشوة هيام. هيام حقيقي. لا يوجد شيء غاية في الجرأة مثل الغفران أو السلوى. طقس يستحوذ على كل ذرة في تركيزها ونفسها، لكنه طقس تفقد نفسها فيه. كان يمكن أن يستمر الأمر إلى الأبد.
حتى عندما تنفتح عينا الفتاة، وتنظر مباشرة عبر الممر، مرتسما على وجهها تعبير غير ذاهل وغير غائب عن الوعي، بل تعبير مباشر وصادم؛ حتى حينها، لا تملك ماري جو إلا الاستمرار في النظر إليهما. فقط بعد جهد كبير، وبعد وقت طويل للغاية، تستطيع أن تبعد عينيها عنهما.
لو أن أحدا سألها عما كانت تشعر وهي تشاهد هذا، لكانت ماري جو ستقول إنها كانت تشعر بالغثيان. وكانت ستعني ما تقول. ليس هذا الشعور بالغثيان الذي يظهر مع بدايات الإصابة بالحمى أو أيا كان والذي يجعلها تشعر بالكآبة والارتعاش، لكن كانت تشعر بالغثيان بسبب النفور، كما لو كانت تشعر بالحركات البطيئة للسان الدافئ، السميك فوق وجهها. ثم، عندما تبعد ناظريها، ينطلق شيء آخر؛ ألا وهو الرغبة، بشكل مفاجئ وقاس مثل اندفاع الأتربة بسرعة شديدة على منحدر جبلي.
في الوقت نفسه، تستمع إلى صوت دكتور ستريتر، الذي يقول في وضوح: «تعرفين، ربما تكسرت أسنان هذه الفتاة بسبب لكمة شديدة. ربما في مشاجرة.»
هذا هو صوت الدكتور ستريتر المألوف، العقلاني، مطالبا بتمييز بعض الحقائق، وبعض الأحوال. لكنها أضافت بعدا جديدا إلى صوته؛ رضى ماكرا وطبيعيا. فهو ليس حزينا فقط، ليس راضخا فقط ؛ بل راض عن أن تكون بعض الأشياء على النحو الذي هي عليه. يقابل الرضى البادي في صوته الشعور بالقلقلة في جسدها. تشعر بالخزي وبالنفور الجسدي، حرارة تبدو كما لو كانت تنتشر من معدتها. ينتهي هذا، موجة هذا الأمر تنتهي، لكن يبقى النفور. النفور، الاشمئزاز، الكراهية التي تخرج من المرء يمكن أن تكون أسوأ من الألم. سيكون هذا وضعا أسوأ للعيش فيه. بمجرد التفكير في هذا، ووضع اسم لما تشعر به، باتت تشعر بثبات أكثر قليلا. لا بد أن السبب هو غرابة الوجود في رحلة طيران، والشراب، والحيرة التي سببتها لها هذه الفتاة، وربما فيروس ما، هذا الذي تتصارع معه. يمثل صوت دكتور ستريتر ما هو أكثر من الوهم الحقيقي، لكنه ليس وهما بالنسبة لها؛ تعرف أنها اختلقته بنفسها. اختلقت ما كانت تستطيع حينئذ التحول عنه، كراهيته كرها خالصا. إذا صار هذا الشعور حقيقيا، إذا تمكن وهم كهذا منها، فستكون في حالة من الكآبة لا تستطيع حتى التفكير فيها.
تبدأ في تهدئة نفسها عن عمد. تتنفس في عمق وتتظاهر بأنها ستغط في النوم. تبدأ في تخيل قصة تمضي الأمور فيها على نحو أفضل. افترضت أن الفتاة تبعتها إلى مؤخرة الطائرة منذ فترة؛ أنهما استطاعتا التحدث معا. تمضي القصة قدما، على نحو ما، إلى غرفة الانتظار في هونولولو. ترى ماري جو نفسها جالسة هناك في غرفة بها أشجار نخيل غير مكتملة النمو مزروعة في أصص، على مقعد مبطن. يمر الرجل والفتاة عليها. تسير الفتاة في المقدمة، حاملة حقائب التسوق. يحمل الرجل حقيبة السفر فوق كتفه، ويمسك المظلة. يلكز الفتاة بطرف المظلة المغلقة. لا شيء يؤلمها أو يفاجئها. مزحة. تهرول الفتاة، وتضحك، وتتلفت حولها، وعلى وجهها تعبير اعتذار، وإحراج، وعجز، وروح دعابة لا نهائية. ثم تشير إليها ماري جو بعينيها لتتبعها، دون أن يلاحظ الرجل. تنهض ماري جو وتسير عبر غرفة الانتظار وتصل إلى حمام السيدات المضيء، المكسو بالقرميد.
وفي هذه المرة تتبعها الفتاة.
تفتح ماري جو الماء البارد. تنضح وجهها بالماء، في إشارة على الحماس.
تحث الفتاة على أن تفعل مثلها.
Page inconnue