Le Messie de Darfour
مسيح دارفور
Genres
دفن ولدها وجدته في قبر واحد، حفر عند أعلى التل الرملي من حيث قاد زوجها مقاومتنا، وقتل جنجويدنا التسعة بسهامه المسمومة، في قبر جماعي كبير دفنا الشهداء التسعة بعد أن تحرينا شخصياتهم وسجلنا المعلومات الأساسية عنهم، كما التقط الفريق الإعلامي صورا لهم، قمنا كالعادة بتنظيف ميدان المعركة من كل الآثار التي قد تسبب إشكالا أو تثير شهية العملاء، ممن يسمون أنفسهم بالمراقبين الدوليين، ونحن نسميهم كلاب الأمم المتحدة، إنهم يشمون الشبهات شما، ويطلقون الاتهامات جزافا وبالجملة، يريدون حربا دون موتى أو مشردين، بذلك يخالفون طبيعة الأشياء، حرقنا المنزل وما تبقى من بيوت لم تحرق حتى لا يعود إليها ساكنوها مرة أخرى ليثيروا الفتن.
بقيت بالمستشفى العسكري زهاء الأسبوعين فيما يشبه حجزا سياسيا إلى أن أفاقت من موتها، كل من تحرى معها كان يسألها عن شيء واحد وتجيبهم هي بذات الإجابة بلغتها، يترجمه لهم جنود من عشيرتها: كنت ميتة لم أع ما كان يدور حولي.
فتأكد لنا أن لا خطر من وراء امرأة بذاكرة مشوشة، فأطلقنا سراحها في معسكر كلمة وهو عالم كفيل بأن يجعلها تنسى حتى اسمها، بعد أن وفرنا لها ملابس جديدة نظيفة نقدناها مالا يكفيها لأسابيع كثيرة، وشرحنا لها بصورة دقيقة وواضحة ومفهومة بلغتها الأم، فضيلة ألا تثرثر مع أحد الأغراب إذا تذكرت شيئا ذا بال، بل يمكنها الاتصال بنا متى شاءت إذا أرادت المساعدة.
قالت العمة خريفية لنفسها: ما في عدالة، ما في «رجالة»، ما في إنسانية، ما في ما في ما في ...؟
كانت المرأة النحيفة الطويلة تتحدث إلى نفسها، أو إلى ملأ من الناس غير محدد أو مرئي، وهي تبتعد عن العمة خريفية، أدارت كما هي عادتها حوارا آخر وقصة أخرى مع سيدة أخرى أو رجل آخر. كان الأطفال يجرون خلفها ويحكون معها وأحيانا قبلها تفاصيل قصتها، يحاكون صوت الرصاص وهتاف الجنجويد وصرخاتهم من ويلات وقع السهام في أجسادهم، بل صرخات أطفالها وطريقة جري محمد واختفائه عن أعين الجنجويد، ويمثلون كيف رمى الجنجويد رأس ابنها بعيدا وهو يهتف الله أكبر، ويرقص في خيلاء الرقصة التي يسمونها «صقرية الرئيس» على موسيقى غير مسموعة أو موقعة بأفواههم وألسنتهم الغضة الصغيرة. كانت أحيانا تبعدهم عن طريقها برميهم بالحجارة أو الصراخ في أوجههم أو تهديدهم بالضرب، ولكنها في أحيان كثيرة عندما تكون معتدلة المزاج فإنها تتركهم يفعلون ما يشاءون، بل قد تستخدمهم مثل كورس عشوائي أو موسيقى تصويرية لحكاياتها، بل قد تعطيهم من الحلوى التي تحتفظ بها في جيبها من أجل أطفالها الذين سوف تجدهم في مكان ما في يوم ما جوعى أو متشردين.
قد لا يدري أحد - ولا هي - أنها سوف لا تلتقي بطفلها الهارب من المجزرة، إلا عندما تنضم لما يطلق عليه مسيح دارفور والمؤمنون به «الموكب». في ذلك الحين سوف لا يكون في حاجة لحلوتها، ولكن لصدرها الحنون، قد لا يكونان في حاجة لبعضهما البعض؛ فابن الإنسان قد قال: الموكب استعاضة عن كل الذي ذهب وكنز لما سيأتي.
البيت فارغ، ومنذ أن غادرها آخر أزواجها ظلت وحيدة، لكنها فكرت كثيرا في أمر تلك البنت المتشردة مجهولة الأهل والعشيرة، رفات الحروب أو النازحة كما يطلقون عليها، كان لولا اسمها الغريب وتصرفاتها الأكثر غرابة أحيانا لأتت بها إلى بيتها وتركتها تقيم معها تؤنس وحدتها، تساعدها في خدمة البيت، لكن مثل هؤلاء البنات المطلوقات قد يكن لصات أو داعرات أو يسلكن سلوكا يسيء إلى سمعتها الطيبة وسط الأهالي، لكن عبد الرحمن ستكون بنتا مختلفة، ستفيدك كثيرا وتصبح صديقتك وابنتك، إنك لم تسمعي عنها سوى كل خير وبركة، بل لقد طلبت منك هي بنفسها ذات مرة أن تأخذيها لبيتك لتقضي ليلتها، عندما تأخرت عن العودة إلى معسكر كلمة ذات يوم.
الناس مختلفون؛ فيهم الصالح وفيهم الطالح، لكن الرياح أيضا لا تأتي كما يشتهيان؛ ففي اليوم الذي قررت فيه خريفية أن تأخذ معها عبد الرحمن لبيتها لكي تقيم معها بصورة دائمة، ظهر في نيالا ما عرف بين الناس بالبرطابرطا، وهو مخلوق يظهر نهارا في شكل إنسان، إنسان عادي لا يمكن تمييزه، صفته الوحيدة الغريبة أنه يقضي النهار كله نائما، أما بالليل وخاصة في الليالي القمرية، فإنه يتحول إلى حيوان مفترس غريب، له ستة أرجل ومخالبه أشبه بمخالب الدب، له صوف غزير يغطي جسده كله، وصوته أشبه بصوت الكلب، أو أنه ينبح مثل الكلب، رأسه وفكاه أقرب للضبع، يأكل في الليلة الواحدة شخصا واحدا، يأكله كله عظما ولحما ويلعق التراب الذي يسقط عليه دمه، ولا يترك له أثرا مطلقا، ولا يمكن قتله بالطلق الناري أو الأسلحة التي يدخل المعدن في صناعتها؛ فقد جرب فيه كل ذلك، فقط يخشى العصا المصنوعة من أفرع وسوق الأشجار، إنها تخيفه ولا تقتله، فأصبح الناس في نيالا يخافون من بعضهم البعض وخاصة الغرباء منهم، حيث إنهم يتجنبونهم بصورة تامة ومطلقة، على الرغم من أن الغرباء أنفسهم يخافون من البرطابرطا إلا أنهم يضطرون لقضاء الليل في العراء؛ لأن لا أحد يقبل أن يستضيفهم. يظلون مستيقظين إلى الفجر حاملين عصيهم متأهبين لضرب البرطابرطا التي قد تخرج لهم في أية لحظة من حيث لا يعلمون؛ بالتالي يغلبهم النعاس نهارا فينامون أينما اتفق، مما يشكك الناس أكثر في أمرهم ظانين أنهم برطابرطا حقيقيون.
لم يكن من السهل بالنسبة لخريفية أن تستقبل في بيتها ما يحتمل أن يكون برطابرطا ليأكلها بالليل، لولا ذلك لما تأخرت في أن تأخذ عبد الرحمن معها لبيتها، كانت في أشد الحاجة لمن تحكي لها وتبادلها وجهات النظر في الناس والحياة، فرأسها ملآنة بالحكايات المكبوتة، وهي لا تريد أن تتطفل على الجارات، أو تحكي للناس - عامة الناس - ما تعتبره سرا في أحايين كثيرة.
فيما بعد حزمت العمة خريفية أمرها، لم تحاول أن تلحق بعبد الرحمن؛ فإنها تعرف أن عبد الرحمن اختارت الحرب، ومضت في طريقها، ولكنها اتجهت نحو جبل أم كردوس، كان عيسى ابن الإنسان يعلم الكلمة هنالك ويعد الناس للموكب.
Page inconnue