الشافعي
قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى في قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن!!
في غزة بأرض فلسطين سنة 150ه، وضعت (فاطمة بنت عبد الله الأزدية) مولودها (محمد بن إدريس الشافعي) في نفس العام الذي توفي فيه الإمام (أبو حنيفة) ليموت عالم ويولد عالم، يملأ الأرض علما ويحيي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويلتقي الشافعي مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الجد الأعلى.
فتح الشافعي عينيه على الحياة، فلم يجد والده بجانبه، حيث مات بعد ولادته بزمن قصير، فنشأ يتيما، لكن أمه الطاهرة عوضته بحنانها عن فقدان أبيه، وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، ففيها أهله وعشيرته وعلماء الإسلام، وظلت تربيه تربية صالحة، وترعاه، وتأمل أن يكون من العلماء الصالحين؛ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
حفظ الشافعي القرآن الكريم وسنه سبع سنين، ثم شرع في حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه تشجعه وتشد من أزره وتحنو عليه، ولما كان الشافعي لا يقوى على دفع أجر المحفظ أو شراء الورق الذي يسجل فيه محفوظاته؛ كان يطوف شوارع وطرقات مكة يجمع قطع الجلود وسعف النخيل وعظام الجمال ليكتب عليها!!
وكما أتقن الشافعي تحصيل العلم أتقن الرمي، حتى كان يرمي عشرة سهام، فلا يخطئ في سهم واحد منها، ثم أرسلته أمه إلى قبيلة (هذيل) في البادية، وهي قبيلة معروفة بالفصاحة والبلاغة؛ فمكث بينهم سبع سنين يتعلم لغتهم، ويحفظ أشعارهم، حتى عاد إلى مكة فصيح اللسان، ينشد الأشعار، ويذكر الآداب وأخبار العرب إلى أن اتجه إلى طريق الفقه والحديث، فرحل الشافعي إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلتقي بعالم المدينة الإمام (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة، ولما التقي به قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا، فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن.
وأخذ الشافعي بتلك النصيحة الغالية، فما مال إلى شر، ولا جنح إلى لهو أو مجون، بل كان قانعا بما قسم الله له، يرضى بالقليل، ويقنع باليسير، ويزداد زهدا كلما وقف على قيمة الدنيا، ويعيش في محراب الحق مسبحا مناجيا، يعبد الله بلسانه وقلبه، وظل الشافعي يتتلمذ على يد الإمام (مالك) حتى انتقل عالم المدينة إلى جوار ربه، لكن الشافعي رحل من بلد إلى أخرى، يتعلم على أيدي علمائها وشيوخها، فتعلم في العراق على يد (محمد بن الحسن) تلميذ أبي حنيفة وغيره، وهناك ظهرت صلابة الشافعي وقوته وقدرته على التحمل والصبر؛ حيث إن بعض الوشاة قد اتهموه عند أمير المؤمنين (هارون الرشيد) بالتشيع ومناصرة العلويين، ولكنه استطاع بثقته في الله ورباطة جأشه أن ينفي هذه التهمة عن نفسه.
ثم ترك بغداد إلى مكة حيث تعلم على يد (مسلم بن خالد الزنجي) و(سفيان بن عيينة) وفي الحرم المكي أخذ الشافعي يلقي دروسه، وحضر مجلسه أناس من جميع الأقطار والبلدان، والتقى به كبار العلماء وخاصة في مواسم الحج، ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195ه، وكان له بها مجلس علم يحضره العلماء يستزيدون من علمه، ويقصده الطلاب من كل مكان.
وجاء الشافعي إلى مصر في عام 198ه، لينشر مذهبه فيها، وليبتعد عن جو الاضطرابات السياسية في العراق، وألقى دروسه بجامع (عمرو بن العاص) وأحبه المصريون وأحبهم، وبقي في (مصر) خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم ومن أشهر مؤلفاته: كتاب (الأم) في الفقه، وكتاب (الرسالة) في أصول الفقه، وهو يعد أول كتاب يصنف في هذا العلم.
وقد لقي الشافعي تقديرا كبيرا من فقهاء عصره ومن بعدهم، سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل والده عن الشافعي فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن.
وقيل فيه :
ومن يك علم الشافعي إمامه فمرتعه في باحة العلم واسع
وكان أحمد بن حنبل -أحد تلاميذه- يحرص على ألا يفوته درس الشافعي، ويقول لأحد أصحابه: (يا أبا يعقوب، اقتبس من الرجل، فإنه ما رأت عيناي مثله)وكان صلى الله عليه وسلم سفيان بن عيينة) أستاذ الشافعي يستفسر منه عن بعض الأحكام الفقهية التي لم يقف عليها.
وكان الشافعي يقضي الساعات الطوال في دروس متصلة، ينتقل من علم إلى علم، يجلس في حلقته إذا صلى الفجر، فيأتيه من يريدون تعلم القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء طلاب الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا انتهوا جاء بعدهم من يريدون تعلم العربية والعروض والنحو الشعر، ويستمر الشافعي في دروسه من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر!!
وكما كان الشافعي فقيها ومحدثا كبيرا، كان أيضا شاعرا رقيقا فاض شعره بالتقرب إلى الله، فها هو ذا يستغفر الله ويدعوه قائلا:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ويوصي الشافعي من خلال شعره بألا نرد على السفيه قائلا:
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه وإن خليته كمدا يموت
ويصور عزة نفسه، وإن كانت ثيابه قديمه بالية، فتحتها نفس أبية عزيزة غالية لا مثيل لها فيقول:
علي ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفس لو يقاس ببعضها نفوس الورى كانت أجل وأكبرا
ومرض الشافعي، وقربت ساعة وفاته؛ فدخل عليه أحد أصحابه وقال له: كيف أصبحت؟ فأجاب الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخواني مفارقا، ومن كأس المنية شاربا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الكريم سبحانه واردا، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها.
ومات الشافعي ليلة الجمعة من آخر رجب عام 204ه، وبعد صلاة العصر خرجت الجنازة من بيت الشافعي (بمصر) مخترقة شوارع الفسطاط وأسواقها، حتى وصلت إلى درب السباع؛ حيث أمرت السيدة نفيسة -رضي الله عنها- بإدخال النعش إلى بيتها، ثم نزلت إلى فناء الدار وصلت عليه صلاة الجنازة ، وقالت: رحم الله الشافعي إنه كان يحسن الوضوء.
Page 25