فضلًا وسع كل شيء، ولست مؤيستك من فضله إن رآك متبتلًا إليه ومما قدمت يداك معتذرًا أن يمن بي عليك، فإنه الملك الذي يجود على من ولى عنه بكرمه، فكيف من أقبل إليه، فلا يشك أنه إذا جاد على من ولى عنه، يكون لمن أطاعه مكرمًا وإليه وقت الندامة مسرعًا، وما أبقيت لك حجة تحتج بها، فليكن ما أخبرتك به نصب عينك ولا ترادني في المسألة، فلا أجيبك والسلام.
قال: فقامت المرأة من عندها، فأتته، فأخبرته بمقالتها. قال: فبكى بكاءً شديدًا، فقالت له العجوز: والله يا بني ما رأيت امرأة خوف الله، ﷿، في صدرها، مثل هذه المرأة فاعمل بما أمرتك به، فقد، والله، بالغت في النصيحة، وأحسنت الموعظة، فلا تلق نفسك في مهلكات الأمور، فتندم حيث لا تغني الندامة، ولو علمت يا بني أن حيلة تنفذ غير الذي دعتك إليه لاحتلتها، ولكان عندي من ذلك ما أرجو أن محتالةً، ولكني رأيت الله، ﷿، قد جعلته نصب عينيها، فهي إليه ناظرة ومن جعل الله ﷿ نصب عينيه لها عن زينة الحياة الدنيا، ورفعتها، واشتغل بما قد جعله نصب عينيه.
وجعل يبكي ويقول: كيف لي بالبلوغ إلى ما دعت إليه ومتى يكون آخر المدة التي نلتقي فيها؟ قال: فاشتد وجعه ذلك، وحال عن ذوي العقول، فلما نظر القوم إليه في تلك الحال، وجعل لا يقره قرار، حبسوه في بيت، وأوثقوه، وتوهم القوم أن الذي به من عشق، فكان ربما أفلت، فيخرج من منزله فيجتمع عليه الصبيان، فيقولون له: مت عشقًا، مت عشقًا! فكان يقول:
أَأُفشي إلَيكم بعضَ ما قد يَهيجُني ... أم الصبرُ أوْلى بالفتى عند ما يَلقَى.
أَأُوعَدُ وعدًا ما لَه، الدهرَ، آخِرٌ ... وَأُومَرُ بالتّقوَى، ومَن ليَ بالتّقوَى.
سلامٌ على مَن لا أُسَمّيهِ باسمِه ... وَلوْ صرْتُ مثلَ الطيرِ في قفصٍ يُلقى.
1 / 59