ظلت فلسطين خاضعة للرومان إلى أن فتحها العرب، ودخل عمر بن الخطاب مدينة القدس فاتحا، وسلمها إليه البطريرك في سنة 637 ميلادية. بعد أن أخذ عليه عهدا بعدم السماح لليهود بدخول فلسطين. واستمر العرب فيها إلى الآن، ونحن في سنة 1938 ميلادية، وعلى هذا لم تقم لليهود في فلسطين دولة، ولو صورية من سنة 63 قبل الميلاد إلى الآن؛ أي أكثر من ألفي سنة. ويكون العرب قد أقاموا فيها إلى الآن أكثر من 1300 سنة كافحوا فيها ما كافحوا ضد كل مغير، ومن يوم فتح فلسطين؛ أي من سنة 637 ميلادية، صارت أرضها موطنا لهم. عاش فيها آباؤهم وأجدادهم أكثر من ثلاثة عشر قرنا، ودفنوا في تربتها موتاهم، وأقاموا فيها مساجدهم، ومعابدهم. وصارت اللغة العربية لغة البلاد وحدها. ولم يبق للتاريخ اليهودي في فلسطين في تلك البقاع أي أثر.
قلنا: إن الرومان دمروا أورشليم سنة 135 ميلادية للمرة الأخيرة، فلما حلت هذه الكارثة خرج اليهود مهاجرين إلى العراق، ومصر، وسوريا، واليمن، مترسمين في هجرتهم آثار الفتح العربي في شواطئ أفريقيا الشمالية، إلى أن وصلوا إلى الأندلس تحت حماية العرب، وفي ظل الحرية التي أسداها إليهم العرب، واصطلحوا على استعمال اللغة العربية لغة لهم، واتخذوا لأنفسهم أسماء عربية، واتبعوا التقاليد والعوائد العربية.
ولما فتح مسلمو الترك مدينة القسطنطينية كانت دولة الأتراك مثابة لليهود وأمنا؛ فتوغلوا في هذه البلاد، وأقاموا بها على الرحب والسعة بعد أن هجروا إسبانيا وقد تركها المسلمون، واستقر قسم كبير من الإسبانيين اليهود في مقدونيا، وخاصة في سالونيك، تحت لواء الحرية التي أسداها إليهم المسلمون. وقد وصل بهم الأمر إلى أن تربعوا في أرفع المناصب، في بلاط السلاطين، وفي ميدان السياسة وقت أن كانت المذابح تتوالى عليهم من كل جانب في البلاد الأوروبية شرقيها وغربيها. وما زال صدى اضطهاد اليهود في روسيا وغيرها يرن في آذاننا إلى الآن. ولم يرجع اليهود إلى الهجرة في أوروبا الغربية إلا بعد أن ظهر فيها التسامح في العصور الأخيرة، وأعتقهم الأمريكيون والغربيون من القيود التي كانوا يرزحون تحتها. فلم يكونوا ليسمحوا لهم بامتلاك عقارات، أو اشتغال بالزراعة أو الصناعة. وكل هذه المعاملات الاستثنائية كانت عامة في إيطاليا، أو فرنسا، أو ألمانيا، أو إنجلترا، أو أمريكا، تلك حالهم في بلاد الغرب. أما في بلاد العرب والإسلام فقد كانوا في بحبوحة من العيش وحسن المعاملة، وإنه ليأخذكم العجب إذا عرفتم أن اليهود لم يعتقوا في فرنسا إلا في سنة 1790م ، وفي إيطاليا إلا سنة 1870م، وفي أمريكا إلا في 1887م. وكانت إنجلترا أبطأ الحكومات في إصدار تشريع بالمساواة بصورة رسمية، فاستمرت تسديهم بعض الحقوق إلى أن كان آخر مظهر من مظاهر الحرية في سنة 1890م.
يحدثنا التاريخ أن اليهود طالما جردوا من أملاكهم في إنجلترا، وفي فرنسا وفي غيرهما، وطالما طردوا، وسيموا العذاب، وطالما لقوا من إسبانيا أيام محاكم التفتيش ألوانا من الاضطهاد، والأذى، والتقتيل. إلى أن أصدرت أمرها في سنة 1492م بطرد الباقي منهم.
فما سبب هذه الكراهة المتأصلة في نفوس الغربيين؟
إن الذي يمكننا أن نستخلصه من أقوال المؤرخين هو أن الغربيين قد منعوا اليهود من امتلاك الأراضي، والاشتغال بالزراعة أو الصناعة لاعتبارهم فئة أقل منهم مرتبة لاختلافهم عنهم في العنصر، والدين، والعادات، والتقاليد؛ قد دفعوا هؤلاء الناس للاحتفاظ بوجودهم، فكان من الضروري أن يقوموا بأعمال تجارية صغيرة. ولما كانت الكنيسة تحرم الربا على النصارى، فقد أصبح اليهودي مرابيا بحكم الضرورة، وظهر بالتجربة أن مهمة إعطاء القرض بفوائد أخف المهن، وأكثرها در خير على صاحبها. وإن استعمال الفوائد قد دفع أصحابها إلى التمادي في سعر الفائدة. فأصبح كثير من اليهود أغنياء، بينما الفلاح والصانع والتاجر الغربي لا ينال قوته إلا بعد الكد والكدح والتعرض للمخاطر.
لهذا وجدت البغضاء بين الفريقين، ولهذا كان الملوك والأمراء، والحكام عندما يشعرون بحاجة للنقود، ويرون أمامها أجانب قد اكتظت خزائنهم بالذهب - كان هؤلاء يبررون مصادرة أموال أولئك الغرباء، ويعتقدون في ذلك الأجر والثواب والخير لأممهم. لم يكن شيء من هذا في بلاد العرب والمسلمين. وكان اليهود في بحبوحة من العيش، نعاملهم معاملة المواطن. لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. شيء آخر أثار بغض الغربيين لليهود؛ ذلك أن هؤلاء بعد أن صاروا أغنياء وصاروا بقوة الذهب من ذوي النفوذ، وهم محتفظون بكيانهم الأصلي، ورابطتهم اليهودية، ويعتبرهم الغربيون جسما غريبا عنهم؛ قد سولت لهم أنفسهم أن يتدخلوا في شئون البلاد التي تؤويهم، في توجيهها السياسي، وفق ما يرضون، كما تدخلوا في نظمها الاجتماعية. أحس الغربيون بهذا الخطر فقامت دول تنتقض عليهم، وتنتقم منهم وتطردهم. كما أحس باقي الأمم - ولو كانت ديموقراطية - بكثير من القلق لهذا التدخل الغريب، الذي يؤذي الممالك في كيانها السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، ولا بد أن الزمن سيساعد على إنماء هذا الشعور في العالم ضد اليهود. (1) معنى تصريح بلفور
ثم قال علوبة باشا: أيها السادة: الحق أني لم أفهم لهذا التصريح معنى محدودا، فهو مكتوب بطريق اللف والدوران، حتى صار مبهما، وأغلق علي الأمر في فهم حقيقته ومرماه، وتعرف ما يكنه في ثناياه. فلم أجد وسيلة سوى الرجوع إلى المراجع الإنجليزية نفسها. في التصريح شيء اسمه تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي، فما معنى هذا؟ وفيه شيء اسمه عدم إضرار بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية فما معنى هذا؟ وشيء اسمه حماية الأماكن المقدسة، والمواقع الدينية، فما معنى هذا؟ ذلك كله مع العلم بأن الانتداب بطبيعته مؤقت، وأن ميثاق عصبة الأمم احترم قاعدة تقرير المصير، وأن الحلفاء أعلنوا أن خير هذه الشعوب التي خرجت من حكم الأتراك وتقدمها أمانة مقدسة في عنق المدنية، فكيف يمكننا أن نفهم كل هذا، وأن نوفق بين النصوص الغامضة في تصريح بلفور، والصريحة فيما أعلنه الحلفاء جميعا؟ الحق أني تعبت، ولم أفهم معنى إنشاء الوطن القومي، وعلى أي نحو يكون؟ إذا صح أن له وجودا مشروعا! هذا؛ ولا يفوتنا أن الدعاية اليهودية قد نشطت بين العرب أيام صدور التصريح، مدعية أن الغرض من إنشاء وطن قومي لليهود لا يعدو أن يكون إنشاء وطن روحي لا سياسي. ورجعت إلى تقرير اللجنة الملكية لفلسطين «تقرير لورد بيل» لسنة 1938م، فإذا هو يفضح الأمر، ويثبت الحقيقة المرة.
فقد جاء في هذا التقرير أن المستر ونستن تشرشل - وزير المستعمرات سنة 1922م - أصدر بيانا في شهر يونية من السنة المذكورة بالسياسة البريطانية في فلسطين، يطمئن الناس على أن لا ضرر من تكوين طائفة لليهود في فلسطين، وأن تنمية الوطن القومي فيها لا تعني فرض الجنسية اليهودية على أراضي فلسطين إجمالا، بل زيادة نمو الطائفة اليهودية بمساعدة اليهود الموجودين في أنحاء العالم؛ حتى تصبح فلسطين مركزا يكون فيه الشعب اليهودي.
أيها السادة: كان من نتائج تلك الثورات المتوالية أن أرسلت إنجلترا لجانا في أثر كل ثورة. قدمت تقاريرها، تؤيد فيها ما للغرب من حقوق، وتتكهن بمآل استمرار الهجرة، وتؤكد ضيق أراضيها على أهليها، إلى أن قدمت اللجنة الملكية برياسة اللورد بيل تقريرها سنة 1937م بإثبات الوقائع التي ذكرناها عنها، وقررت فيما قررت أن الشعبين العربي واليهودي لا يمكنهما أن يعيشا معا بسلام وتعاون، على الوضع الحاضر، وأن بينهما عداء عنصريا، وشكا متبادلا، وظهر لنا استحالة التوفيق في التنفيذ بين التعهدات التي أعطيت للعرب باستقلالهم، وبين تصريح بلفور. وكنا نأمل من جانب اللجنة الملكية بعد أن ثبت لها ما رأته وقررته أن تنصح بالرجوع إلى قواعد العدل، وتقرير المصير، وتطلب إلغاء تصريح بلفور. لكنها لم تفعل، وأرادت تنفيذ العهدين المتناقضين، عهد قائم على الحق والعدل، وآخر قائم على الظلم ومنافاة القاعدة التي أقرها الحلفاء وأعلنوها، وهي أن رفاهية هذا الشعب، وتقدمه، وحقوقه أمانة في عنق المدنية.
Page inconnue