Anti-Semitism ». وكانت الحركة في مبدئها تقوم على أساس كره اليهود الذي يرجع إلى القرون الخالية، ولكن زعماء هذه الحركة ألبسوها ثوبا عصريا، وزعموا أنهم يقصدون بها منع الأجناس السامية من التغلب على الأجناس الآرية، ووقف تدفق سيل الساميين من آسيا على أوروبا، ونادوا بأنها حركة غايتها إنقاذ المدنية الأوروبية من غارة الجاهلية الآسيوية!
وفي الحقيقة إن هذه الحركة كانت سياسية، فلن تجد منشأها في النزاع القديم بين أوروبا وآسيا أو في الصراع الطويل بين الكنيسة والهيكل - المسيحية واليهودية - ذلك الصراع الذي طالما سالت من أجله الدماء وأزهقت الأرواح في القرون الوسطى، وإنما كانت نتيجة تحرير اليهود في أواسط القرن التاسع عشر. فقد عاش اليهود آلاف السنين في أوروبا، ومع ذلك فما برح سواد الأوروبيين ينظرون إليهم نظرهم إلى أجانب دخلاء، ولا يقبلون اندماجهم في أوساطهم. ولعل السبب في ذلك أن اليهود حافظوا على قوميتهم، وقضوا السنين الطويلة معتكفين في أحيائهم لا يختلطون بالشعوب الأخرى، ولا يتزوجون من سواهم؛ فاحتفظوا بطابع خاص وصبغة خاصة. وكان حي اليهود «الجيتو» في كل مدينة شبه معزل لليهود أقامه المسيحيون حتى يقوا المسيحية شر «اليهودية»، ولكنه ما لبث أن أصبح مركزا انحصرت فيه الجهود المالية والسياسية والاجتماعية التي قضت على النظام الإقطاعي في أوروبا، فإن اليهودي الذي قضى السنين الطويلة في «الجيتو» مشردا غريبا عن بلاده، احتفظ بالتقاليد السامية وأضاف إليها النشاط الأوروبي. ولما كان محروما وفاقا لشرائع البلاد من دخول الجيش أو امتلاك الأرض أو تأليف الشركات التجارية فقد أصبح يشتغل بالمال ويكتنزه ويدخره. واضطهدته الكنيسة وضايقته الحكومة فأصبح داعية للمبادئ الديموقراطية، وأصبح شديد الحذر والحيطة، وتنبهت حواسه واشتد ذكاؤه وقوي جهاده ودهاؤه، ولما حرر من قيوده ورخص له في أن يغادر «حي اليهود» مستمتعا بحقوق المواطنين الآخرين برز من حيه مخلوقا جديدا فلم يعد ذلك اليهودي الشرقي، وإنما كان أوروبيا عصريا يمتاز عن الأوروبيين بدقة ذكائه وسعة حيلته.
ولما كان اليهود كلهم من طبقة واحدة هي الطبقة المتوسطة فقد توحدت جهودهم وقواهم في تلك الطبقة، وما لبثوا حتى أصبحوا في طليعتها ماليا وسياسيا واجتماعيا، خاصة في ألمانيا والنمسا، وظهر تفوقهم وتسلطوا على شئون البلاد، ونبغ منهم أفراد كثيرون، منهم لدويج بورنه وهنريك هينه وإدوارد جانز وكارل ماركس وموسى هيس. وقبض أغنياؤهم على الحركة المالية في البلاد، وتجلى النفوذ السامي في كل الدوائر. وهكذا بدأ القلق يساور النفوس، وشعر الألمانيون والنمسويون أنهم سيصبحون غرباء في ديارهم، وأنهم لن يطول بهم الوقت حتى يصبحوا عبيدا ويصبح اليهود سادة. وعلى الرغم من أن اليهود برزوا على مواطنيهم في ألمانيا في الكثير من الشئون فإنهم كانوا أكثر الناس محافظة على القانون وخضوعا للشرائع. ولم يترددوا في أن يبذلوا كل ما لديهم في سبيل رفعة ألمانيا التي اتخذوها وطنا ثانيا، حتى إن البرنس بسمارك نفسه اعترف بأن المال الذي حصلت عليه الحكومة للإنفاق على حرب سنة 1866م دفعه المالي اليهودي بليخرودر بعد أن رفضت الأسواق المالية تعضيد الحكومة الألمانية في سياستها الحربية. وقد حدث في 1870م عند توحيد ألمانيا بعد حرب السبعين أن تولى إدوارد لاسكر اليهودي زعامة حزب الأحرار الوطنيين، واشتد نفوذ اليهود واستولوا على معظم شئون البلاد المالية.
وكان الحقد على اليهود كامنا في النفوس ينتظر الفرصة لينفجر إلى أن سنحت الفرصة في سنة 1873م؛ إذ نشر صحفي صغير الشأن من هامبورج يدعى «ولهلم مار» رسالة دعاها «ديرسيج ديس يودنتوس أوبرداس جرمانتوم»؛ أي «انتصار اليهودية على الألمانية».
ولقيت هذه الرسالة أذهانا مهيأة لقبولها؛ فهاج الشعب ضد اليهود الماليين، وانفجر الغيظ المكظوم.
وحدث يومئذ أن بسمارك اختلف مع حزب الأحرار الوطنيين الذي يرأسه لاسكر اليهودي فأخذ يعضد هذه الحركة. ثم انحصرت زعامة الحركة في رجل يدعى «أدولف ستوكر» له نفوذ اجتماعي كبير وقوة خطابية وعزم من حديد، حتى إذا كانت سنة 1880م بلغت الحركة أشدها، وانتشر اضطهاد اليهود في كل مكان، وقوطعوا وأهينوا واعتدي عليهم، ورفعت العرائض إلى البرلمان الألماني بطلب حرمان اليهود من دخول المدارس والجامعات وعدم تعيينهم في وظائف الحكومة.
وعضد حزب المحافظين هذه الحركة مناوأة لحزب الأحرار الوطنيين الذي كان ينصر اليهود. ولم يخل اليهود يومئذ من أنصار بينهم ولي عهد ألمانيا «الإمبراطور فردريك بعد ذلك»، الذي صرح بأن هذه الحركة عار وفضيحة. ثم انتشرت فكرة اضطهاد اليهود بين طبقات الشعب الجاهلة، وثار العامة ضد اليهود، وأحرقوا معابدهم، وقتلوا منهم أشخاصا عديدين. وقبض في سانتن على جزار يهودي بتهمة أنه ذبح طفلا مسيحيا ليصنع الفطير بدمه، وحوكم فحكم ببراءته، ولكن ذلك لم يقنع العامة ببطلان هذه التهمة. وقام حزب الأحرار الوطنيين يدافع عن اليهود ويتهم حزب المحافظين بأنه يدير هذه الحركة. وقامت الاختلافات الشديدة بين الحزبين، وانتهى الأمر بتراجع حزب المحافظين وهدوء حركة العداء بين اليهود، حتى إذا كانت سنة 1893م خمدت تلك الحركة بعد أن أهاجت الرأي العام طويلا في نواحي أوروبا.
اضطهاد اليهود في روسيا
كان يهود روسيا يعيشون في أحيائهم مكدسين؛ إذ كان يعدهم الروسيون أجانب غرباء، وينظرون إليهم نظر الهنود إلى الأنجاس المنبوذين، ثم قامت حركة تحرير الفلاحين في روسيا، وكانت هذه الحركة صدمة قوية لأصحاب الأرض، فكان اليهود هم الفائزون في تلك الحركة؛ إذ لم يكونوا من أصحاب الأرض ولم يكونوا من الفلاحين، فاشتغلوا بالأعمال المالية ومضوا يقرضون الطرفين ونشطوا للاستفادة من أن يكونوا وسطاء بين الطرفين فقويت شوكتهم واشتد نفوذهم هنا وهناك. ثم كانت الحرب بين روسيا وتركيا، وشعر الشعب الروسي بأنه في حاجة إلى تعديل نظام الحكم في بلاده، وقام الفوضويون يبثون روح التذمر بين الفلاحين، وشعر القيصر إسكندر الثاني بخطورة الحالة فوقع مرسوما بمنح بلاده الدستور. ولكنه اغتيل قبل تنفيذ هذا المرسوم، وأبى خلفه أن ينفذ سياسة أبيه، وقويت عند ذاك أحزاب المعارضة وانتشرت مبادئها واشتد التذمر. وكان اليهود ينتهزون هذه الفرصة ليزيدوا نشاطهم المالي، وشعر الروسيون بأن اليهود يستولون على مال البلاد وينعمون به وهم في فقر مدقع، فبدأ الحقد يثمر ثمره. ثم انتشرت أخبار اضطهاد اليهود في ألمانيا، فنبهت الروسيين إلى ما لم يكونوا يدركون، وانفجر العداء ضد اليهود فجأة وعلى غير انتظار إثر مشاجرة في حانة خمر في «خرسون» حيث اشتبك بعض الروس في عراك مع بعض اليهود متهمين إياهم بأنهم يذبحون أطفال المسيحيين ليصنعوا من دمائهم الفطائر.
وثارت ثائرة المتشاجرين وقد أعماهم السكر فحطموا الحانة وانطلقوا ينهبون ويسلبون حي اليهود ويفتكون بهم فتكا ذريعا. وانتشرت الاضطرابات في سرعة في كل مكان، وانقض الأهلون في كل مدينة يقتحمون أحياء اليهود وينهبونها ويحرقون منازلهم. وبعد أسابيع كانت روسيا الغربية من البحر الأسود إلى بحر البلطيق شعلة نار مضطرمة ضد اليهود، وقد أحرقت مساكنهم ودمرت دورهم ونهبت ممتلكاتهم وسفكت دماؤهم. وذبح مئات من الرجال والأطفال اليهود، وهتكت أعراض المئات من اليهوديات، وأصبح الآلاف منهم لا يجدون مأوى ولا طعاما. وانتشرت المذابح والحرائق في أكثر من 167 مدينة وقرية بينها «وارسو» و«أودسا» و«كيف». وضجت أوروبا لهذه الفظائع، واتهمت الحكومة الروسية بأنها تؤيد هذه المذابح لتشغل الناس عن دعاية الفوضويين وعن التذمر من الحكم القائم في البلاد. ومما لا شك فيه أن أولي الأمر الحربيين والملكيين في روسيا كانوا يؤيدون هذه الحركة ولا يتخذون أي إجراء لإخمادها ومقاومتها. ومع أن القيصر أبدى في أول الأمر استياءه من هذه الحركة إلا أنه ما لبث أن ارتاح لها تحت تأثير وزرائه، وأصدر مرسوما قيصريا يقضي بوقف تدخل اليهود في شئون البلاد، وإرغامهم على أن يقيموا في أحيائهم لا يغادرونها ولا يشتركون في الشئون العامة، فكأنما قضى عليهم بالاعتقال الأبدي وحرمهم من كل الحقوق المدنية. وكان تأثير هذا المرسوم شديدا في الممالك الأخرى؛ إذ دل على قسوة لا مبرر لها، واحتجت دول أوروبا وأرسلت الحكومة الإنجليزية نداء إلى القيصر تناشده فيه أن يكف عن اضطهاد اليهود، فكان جوابه: «لا أريد أن أسمع شيئا عن هذا الشعب.» وكان من أثر هذا القانون القيصري أن شلت الحركة التجارية والمالية في البلاد، خاصة وقد هاجر من روسيا 78 ألف يهودي، وحملوا معهم ما قدرت قيمته بنحو 60 مليون روبل من أموالهم. ولما انتهت هذه الاضطرابات في سنة 1882م تبين من الإحصائيات أنها كلفت روسيا أكثر مما كلفتها حربها مع تركيا في سنة 1877م؛ فقد وقفت حركة التجارة وأفلست بنوك عديدة، ونقلت أموال جمة إلى مصارف أجنبية، ونزلت أسعار الأوراق المالية الروسية. ومع ذلك فإن الحكومة الروسية مضت في سياستها التي تقضي بالقضاء على اليهود؛ فغادر روسيا العدد الكبير من اليهود، واستمرت هذه الاضطهادات ثلاث سنوات إلى أن مات القيصر فكان خلفه أقل صرامة، وقد تعبت البلاد من تلك الحوادث الدموية فخفت تلك الاضطهادات.
Page inconnue