تدل الروايات الراجحة الواردة في الكتب القديمة على أن منطقة حرم المسجد الأقصى تحوي المصلى الذي كان يصلي فيه داود، وأن الصخرة التي أقيمت عليها القبة في صدر الإسلام هي المذبح الذي كان يشوي عليه داود قربانه، فكان الدم يسيل منها إلى غرفة تحتها، ومن هناك يجري إلى وادي كدرون، وأن أول ذكر للصخرة في كتب المتقدمين جاء من رجل من بوردو حج إلى بيت المقدس في سنة 330 للميلاد، فقال: إنه رأى بالقرب من التمثالين المنصوبين للإمبراطور «هارديان» داخل المعبد حجرا مخروقا من عادة اليهود أن يضمخوه بالزيت مرة في السنة حيث ينوحون ويعولون ويخرقون ألبستهم ثم ينصرفون. وكانت هذه المنطقة مقدسة عند الوثنيين قبل اليهود، ويدعى محلها «تل موريا»، وربما كان بيدرا لأحد اليبوسيين سكان فلسطين القدماء.
ثم إن سليمان الحكيم قد أقام حول هذه الصخرة معبده المشهور الذي يسمى «هيكل سليمان»، فجلب له الصناع والمهندسين من مدينة صور الفينيقية بمساعدة ملكها الملك حيرام، وذلك في سنة 1013 قبل الميلاد. وذكر رواة الأقاصيص والأخبار أنه أنفق في بناء هذا الهيكل مائة ألف وزنة من الذهب ومليون وزنة من الفضة، وهو ما يعادل في عملتنا الحاضرة زهاء ثماني مائة وتسعة وثمانين مليونا ونصف مليون من الجنيهات الإنكليزية. وهذا مبلغ يستكثره العقل. هذا عدا ما أفاضوا فيه من ذكر الحديد والنحاس والذهب والفضة والعاج والأحجار الكريمة وخشب الأرز الذي جيء به من لبنان، فتم بناؤه سنة 1005 قبل الميلاد.
وأقيم على الجانب الشرقي منه رواق من الأعمدة فأدار الملوك المتأخرون هذا الرواق حتى شمل الهيكل جميعا. وقد قام الصوريون بهذا البناء، وكان عملا فينيقيا من حيث التصميم والزخرف والبناء. ولقد بقي هذا الهيكل زينة من زينات العالم القديم حتى خربه ملك بابل في سنة 424ق.م. فلما عاد اليهود من السبي، جددوه من بعد ما اندثرت محاسنه، وأعادوه إلى هيأته الأولى. هذا؛ وقد تداعى هذا البناء وأصيب بأنواع التخريب من جراء الاضطرابات وحوادث الدهر مرة أخرى، فجدد بناءه الملك هيرود الكبير، وهو من أصل أدومي، كان ملكا على اليهود، ودام ملكه سبعا وثلاثين سنة من سنة أربعين إلى سنة أربع قبل الميلاد، وهو الذي جدد بناء مدينة «سامرة» فدعاها «سبسطية» كما تدعى اليوم؛ نسبة إلى «أغسطوس»، وحول «صرح ستراتو» إلى أسكلة على البحر عظيمة دعاها «قيصرية»، وباشر بناء الهيكل أو تجديده في السنة العشرين قبل المسيح، ودامت الأسمال فيه تسع سنوات ونصف سنة من غير أن يتم بناؤه. وقد أنفذ «عمر بن الخطاب» «عمرو بن العاص» إلى فلسطين فنزل بيت المقدس، لكن القوم امتنعوا عليه فجاءهم «أبو عبيدة بن الجراح» بعد أن افتتح «قنسرين»، وذلك في سنة 16 للهجرة، فطلبوا منه الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل الشام من أداء الجزية والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر بن الخطاب، فكتب أبو عبيدة بهذا إلى عمر؛ فقدم عمر ونزل الجابية من دمشق ، ثم صار إلى بيت المقدس، فأنفذ صلحهم وكتب لهم كتابا، وكان ذلك في سنة 17 كما جاء في معجم البلدان لياقوت. ودائرة المعارف البريطانية. «زار عمر الصخرة المباركة بإرشاد البطريرك «صفرونيوس»، وهي مصلى داود ومكان معبد اليهود، فوجدها ملطخة بالأقذار وضعها عليها النصارى نكاية باليهود، فنظفها عمر وصحبه بأيديهم، وجعلوها مصلى. ومع أن هذا المصلى جدد بناؤه فيما بعد فقد احتفظ باسم الخليفة الثاني منذ ذلك الحين إلى اليوم.» ووصف المطران «أركولفوس» في سنة 670 للميلاد هذا المصلى فقال: إنه بناء بسيط من الخشب يستوعب ثلاثة آلاف مصل. ولكن لما ولي الخلافة عبد الملك بن مروان أمر بإنشاء المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ورصد لذلك خراج مصر سبع سنين، وانتهى من العمل سنة 72 للهجرة. ومال بعض النقاد - ولا سيما من الفرنجة ومن جاراهم - في تعليل البذخ الذي بذخه عبد الملك والأبهة البنائية التي أتى بها والفن المعماري الذي أحكمه في هذا العمل العظيم إلى القول: إنه أراد أن يحول به الأنظار عن الحرمين الشريفين حين أعلن عبد الله بن الزبير خلافته في الحجاز واستقل بها. فمثل هذا البناء البراق المشمخر يسترعي أنظار العامة ويستولي عليهم فيعود قبلة المسلمين الأولى. ولكن فات الذين يقولون هذا القول أن الإسلام في هذا العصر الذي نحن بصدده كان قد استحكم في القلوب وقواعده صارت ثابتة كالطود فلا مجال لمثل هذا التلاعب أن يحوز على الناس. ثم إن الأعمال البنائية العظيمة الأخرى التي قام بها عبد الملك كمسجد دمشق مثلا تدل دلالة صريحة على أنه أراد من هذه الأبهة وهذا البذخ ألا تكون معابد المسلمين دون معابد الأمم والدول الأخرى جمالا وجلالا، متى فازت من الغنى بسهم وافر.
وكتب الوليد اسمه منقوشا بالفسيفساء فوق الكرنيش الموضوع على المثمن الذي يحمل قبة الصخرة، وذلك عند مدخل الباب الجنوبي كما يأتي: «بنى هذه القبة عبد الملك أمير المؤمنين في سنة اثنتين وسبعين، تقبل الله عنه، ورضي الله عنه، آمين.» ولكننا نجد الآن اسم عبد الملك ممسوحا، ونجد في محله اسم الخليفة المأمون. كما يمسح الملك المتأخر اسم الشوارع التي تحتل اسم الملك المتقدم، ويدل على هذا التغيير الطارئ في قبة الصخرة إقحام الحروف الجديدة في المكان الممسوح، وازدحامها، واختلاف لون البلاط الذي يحملها، ونسيان الكاتب - سامحه الله - أن يغير التاريخ الأصلي؛ إذ أصبح المأمون بهذا النسيان قد شاد هذا البناء قبل أن يولد بنحو مائة سنة فقط! والواقع أن قبة الصخرة احتاجت في زمن المأمون إلى ترميم ففعل الخليفة ذلك، وطمع أن يخلد اسمه مكافأة على هذا الترميم، وإن شكل القبة ومظهرها لم يتغير تغييرا يذكر منذ الزمن الأموي إلى اليوم مع كل ما أصابها من الزلازل والكوارث.
على أن الكتاب العرب الأولين لم يذكروا أن عمر بن الخطاب بنى مسجدا في بيت المقدس باسمه، خاصة والمسجد الموجود الآن الذي يزدان باسمه العظيم هو مسجد ضئيل لم يلتفت إليه أحد من الجغرافيين المتقدمين، والغالب أنه مسجد بني ليخلد ذكرى صلاة اشتهرت في الخافقين امتنع عمر أن يقيمها في كنيسة القيامة فأقامها في هذا المكان الصغير - امتنع عمر أن يقيمها في الكنيسة لشعورين عميقين متأصلين في نفسه؛ شعوره بالحق من جهة وشعوره بأنه سيكون شخصية مقدسة من جهة أخرى، فلو أنه صلى في كنيسة قيامة المسيح ما أمن عليها من أتباع محمد.
قال أبو الفداء في معجم البلدان: «واتفق أن الإفرنج في هذه الأيام «القرن الخامس للهجرة» خرجوا من وراء البحر إلى الساحل فملكوا جميع الساحل أو أكثر، وامتدوا حتى نزلوا على بيت المقدس فأقاموا عليها نيفا وأربعين يوما، ثم ملكوها من شمالها من ناحية باب الأسباط عنوة في اليوم الثالث والعشرين من شعبان سنة 492، ووضعوا السيف في المسلمين أسبوعا، والتجأ الناس إلى الجامع الأقصى فقتلوا فيه ما يزيد على سبعين ألفا من المسلمين، وأخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا فضة كل واحد وزنه ثلاثة آلاف وست مائة درهم فضة، وتنور فضة وزنه أربعون رطلا بالشامي، وأموالا لا تحصى.» والظاهر أنهم حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة والمسجد الأقصى إلى قصر لسكنى مليكهم، وجعلوا القمم الأدنى منه إسطبلا للخيل ومأوى للخنازير. ولم يزل في أيديهم حتى استعاده الملك الناصر صلاح الدين يوسف سنة 583 بعدما بقي في أيدي الإفرنج إحدى وتسعين سنة.»
ويستدل من الآثار والكتب التي بأيدينا على أن الصخرة في إبان الاحتلال الإفرنجي كانت تقطع منها القطع لأخذها إلى أوروبا على سبيل الأثر، فإن الكهنة الذين كانوا على سدانتها كانوا يتناولون أثمانا بهيظة يبيعون بها هذه القطع. وقيل: إن سوء الاستعمال هذا أدى إلى تبليط الصخرة لحمايتها، فأمر السلطان صلاح الدين بإزالة البلاط عنها.
ولما استعاد السلطان صلاح الدين بيت المقدس أعاد الحرم إلى الحالة التي كان عليها، وأمر بترميم محراب المسجد الأقصى وكتب عليه بالفصوص المذهبة: «باسم الله الرحمن الرحيم، أمر بتجديد هذا المحراب المقدس وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مؤسس: عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة، وهو يسأل الله إذاعة شكر هذه النعمة، وإجزال حظه من المغفرة والرحمة.»
ولما احتل الإنكليز فلسطين في سنة 1917م، ودخل الجنرال اللنبي مدينة القدس دخولا رسميا في اليوم الحادي عشر من ديسمبر من تلك السنة، كانت الحكومة البريطانية قد أصدرت في اليوم الثاني من نوفمبر سنة 1917م تصريحا يدعى تصريح بلفور، وترجمة هذا التصريح هي كما يأتي:
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية مع البيان الجلي بأن لا يفعل شيء يضير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين الآن ولا الحقوق أو المركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
Page inconnue