ولكن حدث إذ كان النصر حليف عبد القادر باشا أن احتلت بريطانيا القطر المصري، وبالرغم من أن الحكومة البريطانية أعلنت زهدها في السودان، وأكدت أن لا مطمع لها فيه، ولا شأن لها فيما يجري في أنحائه، وأنها لا تريد أن تتدخل في أموره. نعم، حدث أنها مع ذلك تدخلت بكيفية فعالة، آل الأمر بعدها إلى استدعاء عبد القادر باشا وإحلال هكس باشا محله يعاونه طائفة من الضباط البريطانيين كهيئة أركان حرب. ولقد قيل حينئذ إن الحكومة المصرية كانت مستقلة فيما صنعت تمام الاستقلال، وأنها فعلت ذلك بمجرد مشيئتها، وبغير أي إيعاز أو تدخل من الحكومة البريطانية، ولكن هذ ا الزعم لا ينطبق على الواقع، ولا يمكن أن يقبله من عنده مسكة من عقل؛ فإنه لم يحدث قط أن أمة استدعت قائدها المظفر، ولنا فيما ضربته الحكومة البريطانية من مثل دليل بين على ما نقول، فإنها لا تعزل قوادها وإن أخفقوا كما كان الأمر في حرب البوير، فكيف جاز لمصر إذن أن تسحب قائدها المنتصر - وهو من أبنائها - لكي تولي مكانه قائدا أجنبيا؟
ولقد كان من نتيجة هذا التبديل تلك الحملة الطائشة التي جردت على كردفان، وكان من جرائها هلاك الجيش وحمل إنجلترا لنا عن التخلي عن السودان، وهو الأمر الذي كانت تطمع فيه منذ مدة طويلة؛ كي يتسنى لها أن تغتصب هذه البلاد من أيدينا كما وقع الآن. فلقد كانت إنجلترا تنظر على الدوام بعين السخط إلى توسع مصر في إفريقية ولا سيما في المناطق الاستوائية، وها هي شهادة رجل لا يمكن أن تكون أقواله موضع أية ريبة ، ألا وهو القس فلكن
Rev. Felkin
الذي يقرر في صفحة 324، ج1 من كتابه «أوغندة والسودان المصري
Uganda
and the Egyptian Sudan » ما يأتي:
مما يستوجب الأسف أن سلطة هذا الطاغية - أي كباريجا ملك أنيورو - لم يقض عليها كما كان سيحصل منذ مدة لو لم تقم تلك المعارضة الشديدة التي أثارها في إنجلترا أناس يتطلعون بعين الغيرة إلى توسع مصر في أملاكها، ولكن في استطاعتي أن أؤكد يقينا أن أهالي الجهات المحكومة من تلك البلاد بالسلطة المصرية - حيث يدير دفة الحكومة فيها الآن مدير مديرية خط الاستواء - هم أحسن حالا بكثير من أمثالهم المحكومين بملوك منهم من الهمج المستبدين غلاظ القلوب فظاظ الطباع. ا.ه.
هذه أقوال باحث نشرت في سنة 1878 قبل ثورة المهدي وقبل الاحتلال البريطاني لمصر، وهي دليل ناطق على أن حكمنا في السودان لم يكن مشوبا بالسيئات التي ينسبها إليه المغرضون.
ولقد رأيت إنجلترا بعد نكبة هكس باشا أن ترغمنا على ترك السودان، فلما الوزارة المصرية أن توافق على ذلك جابهتها الحكومة البريطانية بتصريح إرل جرانفيل الذي وضع فيه مبدأه المشهور، وهو أنه ما دام الاحتلال البريطاني بمصر فإن كل نصيحة - وهي بالفعل أمر - يجب الإصغاء إليها، وإلا فعلى من يخالفها من الموظفين أن لا يستمر في منصبه، وهكذا صارت مصر في الواقع بهذا التصريح تحت وصاية إنجلترا، أو أصبحت إنجلترا مسئولة عن كل ما حدث وما يحدث، ما دام الاحتلال البريطاني باقيا. وبناء عليه يقع على عاتقها تبعة تعيين هكس باشا وضياع السودان.
ولما كانت مديرية خط الاستواء ما زالت تقاوم بقيادة أمين باشا، وكانت بقعة مطموعا فيها أشد الطمع، أصبح من الأمور الهامة التعجيل بسحب أمين باشا من هناك؛ حتى تعد بعد رحيله عنها من الأراضي المهجورة التي ليس لها مالك. وبذلك تستطيع الحكومة البريطانية أن تستولي عليها، وتعتبرها من الممتلكات البريطانية وفاقا للشرط الذي وضعته بخصوص حالة كهذه في الاتفاقية الإنجليزية المصرية الموقعة في 19 يناير سنة 1899م.
Page inconnue