فلقد قضت هذه الدولة أزمانا طويلة ظهرت فيها للدولة العلية بمظهر الصديقة الوفية والحليفة الأمينة، وكانت تكسب من هذه الصداقة الكاذبة بقدر ما كانت تخسر تركيا؛ فإن لإنكلترا مصلحة عظمى دائمية في أن الروسيا تحارب تركيا لتضعف قواها، فلا تستطيع مطاردة الإنكليز في الهند والشرق الأقصى، ولتضعف تركيا فتستولي إنكلترا على شيء من أملاكها بحجة الدفاع عنها، وفوق ذلك فإن إنكلترا كسبت كثيرا من صداقة تركيا لها - بقطع النظر عن المكاسب المادية والتجارية والصناعية - بما كانت تنيلها هذه الصداقة من النفوذ عند المسلمين، ومن السلطة التامة على مسلمي الهند. فلقد كاد أهل الهند يطردون الإنكليز من بلادهم في ثورة سيباي الشهيرة لولا صداقة تركيا لهم، هذه الصداقة التي حملت المرحوم السلطان «عبد المجيد» على إصدار منشور لمسلمي الهند أمرهم فيه بالركون إلى السكينة والهدوء وعدم القيام بإحداث الاضطرابات ضد حكومة صديقته «ملكة بريطانيا».
فإذا كان الإنكليز في الهند عاشوا طويلا آمنين شر المسلمين، فما الفضل في ذلك إلا للدولة العلية، وها هم اليوم يدعون أن تركيا «عدوتهم الحالية» وصديقتهم القديمة أوعزت إلى الهنود المسلمين بالثورة، فثاروا ولا يزالون ثائرين، وسواء كانت ثورتهم بإيعاز من تركيا - وهو ما لا أظنه لأن الثورة قائمة بها قبائل معلومة، ولو كانت الدولة العلية أوعزت بالثورة لثار مسلمو الهند جميعا - أو بإيعاز من ضمائرهم ونفوسهم، فدعواهم هذه دليل ساطع على أنهم استفادوا كثيرا من تظاهرهم بالصداقة للدولة العلية، وإن إشهارهم العداوة لتركيا لا يضر إلا بهم.
ولقد أدركت الحكومة العثمانية من يوم أن تولى أمور الدولة العلية جلالة السلطان الأعظم «عبد الحميد الثاني» أن إنكلترا خداعة في ودها، وأنها تضر بمن تتظاهر لهم بالصداقة أكثر مما تضر بأعدائها الظاهرين؛ فقد أخذت من الدولة العلية قبرص بدعوى مساعدتها ضد الروسيا في مؤتمر برلين، ثم دخلت المؤتمر وخرجت منه بدون أن تستفيد تركيا من هذه المودة الإنكليزية الكاذبة أقل فائدة، بل إن الدولة العلية فقدت في هذا المؤتمر ما لم تفقده قط في مؤتمر آخر.
وقد شعرت الروسيا كذلك بعد حرب سنة 1877 أنها لا تستفيد من حروبها مع تركيا ما يعوض عليها خسائرها العظيمة في هذه الحروب، ففضلت سياسة مسالمة الدولة على سياسة العداء، فكان هذا التاريخ مبدأ للشقاق والعداوة بين الدولة العلية وبين إنكلترا، وقد ظهرت هذه العداوة بمظهرها التام الواضح بعد احتلال الإنكليز لمصر؛ حيث رأى جلالة السلطان في هذا الاحتلال وفي خطة الإنكليز فيه وفي خداعهم لجلالته ما علم منه أن الإنكليز لا صديق لهم، وأنهم أكبر أعداء تركيا، وأن صداقتهم القديمة المزعومة لم تكن إلا حجابا ستروا وراءه عداوتهم المرة وأطماعهم الشديدة ضد دولة آل عثمان.
ومن ذلك الحين عملت إنكلترا على دس الدسائس ضد السلطنة السنية في كل أنحاء الأملاك المحروسة، فهاجت الأرمن والكريديين والدروز، ولكن دسائسها لم تأت بغير نتيجة واحدة، وهي إضعاف هذه العناصر التي اتخذتها إنكلترا آلات لها وإظهار قوة الدولة العلية أمام الملأ كله.
وقد علمت اليوم كل العناصر على اختلافها، وجميع الأمم صغيرة كانت أو كبيرة، أن عدو اليونان الحقيقي ليس بتركيا التي صبرت على رذائلها طويلا، بل إنكلترا التي شجعتها على الحرب، وساعدتها في السر والجهر، وملأت مقدونيا من الأسلحة والدنانير الإنكليزية مؤملة قيامها في وجه تركيا أثناء الحرب، فخابت آمالها، وحبطت مساعيها، ورجعت مخذولة خذلانا سياسيا دونه خذلان اليونان الحربي.
وقد حسب الإنكليز أنهم يبلغون متمناهم من مصر ووادي النيل، ويضعون بذلك أيديهم على الحجر الأساسي للخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية، ولكن ما لا ريب فيه هو أن نصيبهم في مصر الفشل عاجلا أو آجلا، ولا يغرن القراء سيرهم الحالي في بلاد وادي النيل، فإنما هو نتيجة ضعف رجال مصر الذين سلمت إليهم مقاليد الأمور، واستيلاء الإنكليز على الإدارات المصرية لا يؤثر مطلقا على جوهر المسألة نفسها، وحيث فشل نابليون الأول يفشل الإنكليز ولا محالة.
وقد علمت إنكلترا أن احتلالها لمصر كان ولا يزال ويكون ما دام قائما سببا للعداوة بينها وبين الدولة العلية، وأن المملكة العثمانية لا تقبل مطلقا الاتفاق مع إنكلترا على بقائها في مصر؛ إذ إن مسألة مصر بالنسبة لتركيا والخلافة تعد مسألة حيوية؛ ولذلك رأت إنكلترا أن بقاء السلطنة العثمانية يكون عقبة أبدية في طريقها، ومنشأ للمشاكل والعقبات في سبيل امتلاكها مصر، وأن خير وسيلة تضمن لها البقاء في مصر ووضع يدها على وادي النيل هو هدم السلطنة العثمانية، ونقل الخلافة الإسلامية إلى أيدي رجل يكون تحت وصاية الإنكليز، وبمثابة آلة في أيديهم؛ ولذلك أخرج ساسة بريطانيا مشروع الخلافة العربية مؤملين به استمالة العرب لهم، وقيامهم بالعصيان في وجه الدولة العلية، ولكن العرب وغير العرب من المسلمين أرشد من أن يخدعهم الإنكليز بعدما مر من الأمور، وما جرى من الحوادث؛ ولذلك أيضا كنت ترى الإنكليز ينشرون في جرائدهم أيام الحوادث الأرمنية مشروع تقسيم الدولة العلية حماها الله جاعلين لأنفسهم من الأملاك المحروسة مصر وبلاد العرب، أي السلطة العامة على المسلمين.
والذي يبغض الإنكليز على الخصوص في جلالة السلطان الحالي هو ميله الشديد إلى جمع كلمة المسلمين حول راية الخلافة الإسلامية، وهو أمر يحول بينهم وبين أسمى أمانيهم، أي إيجاد الشقاق بين المسلمين وبعضهم وخروج بعض المسلمين على السلطنة العثمانية، ومن ذلك يفهم القارئ سبب اهتمام الإنكليز بالأفراد القليلين الذين قاموا من المسلمين ضد جلالة السلطان الأعظم، وسبب مساعدتهم لهم بكل ما في وسعهم.
وإنكلترا تعلم علم اليقين أنها لو استطاعت أن تجعل خليفة المسلمين تحت وصايتها، أي آلة لها، يكون لها سلطة هائلة ونفوذ لا حد له في سائر أنحاء المعمورة، فإنها تستطيع عندئذ - لا قدر الله - أن تنفذ رغائبها عند المسلمين التابعين لها وغير التابعين بواسطة هذا الخليفة؛ ولذلك فهي بعملها على هدم السلطنة العثمانية تعمل على تحقيق غرض بعيد هو أكبر أغراضها، وأمنية سياسية دونها كل الأماني.
Page inconnue