وهي نتيجة اعترفت «ماري تيريزيا» نفسها بأنها لا تشرف المملكة النمساوية، وقالت عنها في رسائلها السياسية: «إنها سياسة جرت عليها النمسا ضد الشرف، وضد مجد المملكة، وضد الذمة والعقيدة.»
وقد تم اتفاق الروسيا والبروسيا والنمسا على تقسيم بولونيا، وانتهى الأمر بتقسيم هذه المملكة بفضل دسائس الدخلاء، وانقسام أهلها على بعضهم، وذهبت هذه الأمة البولونية الشريفة المشهورة بالوطنية الفائقة والشهامة العظيمة ضحية مطامع الدول الثلاث، وفريسة الدسائس الأجنبية والشقاق الأهلي.
وقد امتنعت الدولة العلية عن إرسال المدد المالي للنمسا لما رأت تلاعبها معها وتلونها في سياستها، فجعل «كونيتز» عدم إرسال المدد المالي سببا لحل التحالف بين دولته وتركيا!
ولما علمت الدولة العلية بأن الروسيا قابلة لعقد الصلح بدون استيلائها على مقاطعتي «البغدان والأفلاق» رضيت بالصلح، وعقدت مع حكومة الروسيا هدنة بتاريخ 10 يونيو سنة 1772، واتفق رجال الدولتين على اجتماع مندوبين من قبليهما بمدينة «فوكتشاني» للمناقشة في شروط الصلح، فاجتمع المندوبون، ولبثوا مجتمعين عشرين يوما اتفقوا فيها على سائر الشروط إلا على شرط استقلال الترتار. فقد طلب مندوبو تركيا بقاء الترتار تحت سلطة الدولة العلية؛ لأن جلالة السلطان بصفته خليفة المسلمين لا يمكنه التنازل عن السلطة عليهم. فرفض الروسيون هذا الطلب وبذلك انحل المؤتمر، وبعد انحلاله بزمن عرضت الروسيا على الدولة العلية عقد مؤتمر آخر فقبلت الدولة وعقد المؤتمر بمدينة «بوخارست» بعد أن عقدت هدنة ثانية جعل آخر أجلها 21 مارس سنة 1773، وقد اتفق مندوبو الروسيا وتركيا في هذا المؤتمر على مسألة الترتار، فرضيت الروسيا ببقائهم تحت سلطة جلالة السلطان، ولكنها طلبت من تركيا التنازل لها عن «كرتش» و«يني قلعة»، فلم تقبل تركيا ذلك، وانحل هذا المؤتمر أيضا - كما انحل المؤتمر الأول بغير نتيجة - في أوائل يناير 1773.
وقد عادت المخابرات مرة أخرى بين الدولتين بتاريخ 15 فبراير سنة 1773 ولكن الاتفاق كان مستحيلا؛ لأن الروسيا كانت تطالب بعزم ثابت بكرتش ويني قلعه، وساسة الدولة العلية كانوا يرفضون طلب الروسيا أشد الرفض؛ لأنهم كانوا يرون - والحق معهم - أن أخذ هذين الموقعين يجعل الآستانة في خطر مستمر من جهة الروسيا؛ ولذلك أقفل باب المخابرات، وعادت الحرب بين الدولتين، فأمرت القيصرة «رومانتسوف» جنرال الجيش الروسي بأن يسير وراء الدانوب، ويحمل على العثمانيين، فسار بأمرها الجيش الروسي يوم 13 يونيو سنة 1773، وحمل على «سيليستريا» - وهي مدينة ببلاد البلغار - ولكن الجيش العثماني انتصر عليه انتصارا عظيما، وقطع عليه خط الرجعة حتى فقد الجيش الروسي معظم رجاله، فقام عندئذ الجنرال فيسمان الروسي بعمل جملة مناورات اضطرت الأتراك للرجوع إلى الوراء، وقد مات في هذه المناورات الجنرال فيسمان نفسه، ولكنه أعاد للجيش الروسي بعض قوته.
وقد رأت الروسيا عندئذ أن مصلحتها تقضي عليها بعقد الصلح مع الدولة العلية، خصوصا وأن جيوشها انهزمت هزيمة شديدة بالقرب من «وارنا»، وأن أهل القرم أظهروا ميلهم للانضمام مع جلالة السلطان ضد الروسيا، فضلا عن أن ثورة أهلية قامت في الروسيا تحت قيادة رجل اسمه «بوجاتشيف» كانت تهدد القيصرة وملكها؛ فلذلك طلبت الروسيا من النمسا التوسط بينها وبين الدولة العلية في أمر الصلح مقابل جزء تعطاه من أملاك تركيا نفسها.
وفي ذلك الحين توفي المرحوم السلطان «مصطفى الثالث»، وتولى بعده السلطان «عبد الحميد الأول» فأمر باستمرار الحرب، ولكنها عادت بخسائر جمة على الدولة؛ لأن الجيش كان غير مستعد للقتال بعد الحروب الطويلة التي قام بها، فاضطر الصدر الأعظم إلى عرض الصلح على الجنرال «رومانتسوف»، وتم الاتفاق بينهما في 10 يوليو سنة 1774، وأمضيا بعد ذلك في 21 يوليو سنة 1774 على عهدة الصلح بمدينة «كوتشك قاينارجه»، وهي أشهر عهدة أمضت عليها الدولة العلية والحجر الأول للمسألة الشرقية، وعنوان النزاع بين المسيحية والإسلام، وأصل الحروب الطويلة التي وجهت ضد الدولة في القرن التاسع عشر والأزمات الشداد التي وقعت فيها.
وشروط هذه المعاهدة: أن الدولة العلية تتنازل للروسيا عن الكاباردا، وتضع مقاطعات الدانوب تحت حمايتها، وتعلن استقلال بلاد القرم تحت ضمانتها، وتتنازل لها عن «أزوف» «وكرتش» و«يني قلعة» وتعطيها حق الملاحة في البحر الأسود، وشبه حماية معنوية على رعايا الدولة العلية المسيحيين عموما والأرثوذكسيين منهم خصوصا.
وهذا الشرط الأخير كان ولا يزال آفة الدولة العلية في علاقاتها مع دول أوروبا، فكلها تتداخل في شئون الدولة باسم المسيحية، وإذا قامت الحرب بينها وبين إحدى الدول كانت العلة المسيحية وحقوقها، وأن سياسة الروسيا مع الدولة العلية في القرن الثامن عشر كانت كسياستها مع مملكة بولونيا التعسة، تخلق لنفسها حزبا في قلب المملكة يخلق لها الاضطرابات والمشاكل عند الحاجة؛ لتتداخل في شئون المملكة الداخلية باسم هذا الحزب وبحجة نصرته، ولكن هذه السياسة التي أفلحت في بولونيا تماما بفضل النمسا والبروسيا لم تفلح في تركيا تماما كما كانت تؤمله الروسيا؛ لما عند العثمانيين من الشهامة الحقيقية، ولما لجيشهم من القوة الهائلة، ولما بين الدول الأوربية من الشقاق والاختلاف بشأن أمور تركيا ومسائل الشرق.
أما النمسا: فقد انتهزت فرصة اشتغال الروسيا وتركيا بأمر الصلح، ووضعت يدها على جزء مهم من البغدان، وعرضت على الروسيا مقابل ذلك مشروعا يتضمن تحالفها معها ضد الدولة العلية!
Page inconnue