وقد عقدت بين إنجلترا والحبشة في 15 مايو سنة 1902 معاهدة حددت بها التخوم بين الحبشة والسودان ، وتعهد منليك بأن لا يقوم بأي عمل يترتب عليه حجز ماء بحيرة تانا أو النيل الأزرق أو نهر السوباط أو منع وصول الماء إلى النيل، ووافق على إعطاء امتياز بإنشاء سكة حديدية بريطانية تصل بلاد السودان بإقليم أوغندا مجتازة بلاد الحبشة إذا ما دعت الضرورة ذلك.
الأزهر والحبشة
ندب الأزهر بعثة من علمائه إلى الحبشة، وهما صاحبا الفضيلة الشيخان محمود النشوي ويوسف علي يوسف، وقد وصفا مهمتهما كما يلي:
لما كان الجامع الأزهر الشريف مبعث الهداية الإسلامية ومشرق نورها في جميع أنحاء الدنيا، اتجه إليه المسلمون من جميع الأقطار يطلبون منه في إلحاح أن يبعث إليهم من صفوة خريجيه من يرشدهم ويفقههم في أمور دينهم، وينشر بينهم الثقافة الإسلامية واللغة العربية، وكان من بين البلدان التي تقدمت إليه بهذا المطلب: جنوب أفريقيا وأمريكا واليابان وبلاد الحبشة، وقد سارعت مشيخة الأزهر الجليلة إلى دعوة خريجي قسم التخصص واختبرتهم اختبارا عاما بعد أن ألفت لجنة عليا لهذا الغرض، وكان من حسن حظنا أن ندبتنا مشيخة الأزهر للذهاب إلى بلاد الحبشة لنشر الثقافة الإسلامية فيها.
وقد سافرنا من بورسعيد في يوم 31 يناير سنة 1935، وقد وصلنا إلى أديس أبابا عاصمة إثيوبيا يوم 6 فبراير، وكانت رحلتنا إليها جميلة وسارة، وقد فرح المسلمون بقدومنا وأقبلوا علينا مرحبين مهنئين شاكرين لمصر وللجامع الأزهر فضله عليهم وتلبيته طلبهم، وقد وجدنا في العرب ومسلمي الحبشة أهلا بأهل وإخوانا بإخوان، ولا يفوتنا شكر رجال القنصلية المصرية وفي مقدمتهم حضرة القنصل الكريم؛ فهم ما فتئوا يساعدوننا بمعلوماتهم واختباراتهم.
وبعد أسبوع من وصولنا، أعني بعد أن خفت الزيارات وقلت وفود المرحبين بدأنا عملنا في مدرسة نادي الاتفاق الإسلامي، واتخذنا من المسجد ميدانا لإلقاء العظات التي رأينا أنها تنفع مسلمي هذه البلاد.
أما المدرسة فإن العمل فيها شاق إلى أقصى حد؛ نظرا لاختلاف أسنان الطلبة فيها وتباين بيئاتهم وتعدد لغاتهم؛ ففيها أحباش وعرب يمنيون وحضرميون وهنود وأتراك وصومال، والطلبة الأحباش أنفسهم من مقاطعات مختلفة مما يجعل الدرس الواحد يعادل خمسة دروس في مصر على الأقل، ولكنا في الوقت نفسه نجد سرورا في العمل بها للتقدم الحسن الذي نشاهده في طلبتها، وقد أصبح سهلا عليهم وخصوصا طلبة الفرق المتقدمة أن يفهموا العربية الصحيحة.
ونحن نقوم الآن بتدريس أهم المواد وأشقها؛ كالتوحيد وفقه الشافعي والتاريخ والأخلاق الدينية وتحفيظ القرآن الكريم بطريقة تجعلهم يدركون المعنى الإجمالي لكتاب الله، وقد وجدنا في استعداد أبناء المدرسة الفطري وذكائهم الطبيعي خير معوان لنا على أن نتقدم بالأولاد في هذه المدة الوجيزة التي قضيناها بينهم في المقررات الموضوعة رغم أنها في حاجة إلى تهذيب؛ فهي بوجه عام فوق مستوى الأولاد، ونرجو في المستقبل أن نوفق لإقناع القائمين بإدارة المدرسة بذلك حتى نعمل على تعديلها بما يناسب مدارك الطلبة وتحقيق الأمل المنشود في هؤلاء التلاميذ الذين لا شك في أنهم ستتغير بهم حالة مسلمي الحبشة متى صاروا رجالا.
وأما الوعظ فإننا نرى أن الحبشي مفطور على حب الدين وإجلال رجاله، والعقل الحبشي من أخصب العقول لتلقي العظات والانتفاع بها، فهم قوم قلوبهم طاهرة نقية، فحينما يلقي أحدنا العظة يترامى الناس - وخصوصا الأحباش - على يديه وكتفيه بل رجليه لثما وتقبيلا، ومما يدل على أن احترام الأحباش لرجال الدين عام أن المسيحيين منهم حينما يقابلوننا يحيوننا بالانحناء الشديد وبرفع قبعاتهم إجلالا، وتلك هي التحية الحبشية ونحن نرجو أن نصل بالمسلمين منهم إلى الاكتفاء بالتحايا التي يجيزها الإسلام فحسب.
وقد تخيرنا من موضوعات الوعظ التعليم والحث عليه، ومما لاحظناه أنه يندر أن تجد مسلما لا يعلق التمائم والأحجبة المتعددة الكثيرة على صدره، وهذا يدل على أنهم يعتقدون في الدجالين والمشعوذين ويقدمون إليهم نفسهم ونفيسهم على فقرهم وحاجتهم، وكذلك وعظناهم في البغاء وضرورة الابتعاد عنه وخاصة لما يترتب عليه من الأمراض الخبيثة المنتشرة فعلا بينهم والتي لا يهتمون بعلاجها، كما نهيناهم عن كثير مما يفعلونه في أعراسهم ومآتمهم والإسلام لا يجيزه، وإنه ليسرنا أن نجد نصائحنا وعظاتنا تنفذ إلى قلوبهم ويعملون بها.
Page inconnue