ثم رأت القيادة الإنجليزية العليا أن مهاجمة جيش العرابيين من جهة كفر الدوار سيطول أمده؛ فعولت على مهاجمته من الجهة الشرقية لمصر ابتداء من الإسماعيلية؛ لأنها أقرب إلى القاهرة من سواها وأدنى إلى المفاجآت.
4
ولما علم بذلك المسيو ديلسبس عمد إلى السعي لدى عرابي ليقنعه بحياد قنال السويس، فتوجه إلى بورسعيد وقابله في هذا الشأن وتقرر بينهم احترام حرية الملاحة في القنال؛ وبذلك نجح مؤقتا في الحيلولة دون نزول الجنود الإنجليز على ضفة القنال. عند ذلك رأت إنجلترا أن هذا العمل مما يشجع الثوار على التمادي في المقاومة ولا يمكن جيشها من الالتفاف بمواقعهم، فعمد الجنرال ولسلي إلى إنزال جيشه في يوم 20 أغسطس سنة 1882 ببورسعيد، واحتل مكاتب شركة القنال، وأقفل هذا القنال عدة أيام دون الملاحة فيه فاشتد ساعد الجيش الإنجليزي، وحدثت معارك مع جيش العرابيين في الصالحية والقصاصين. وفي هذه لقي الجيش الإنجليزي مقاومة شديدة من الطوبجية المصرية.
ثم كانت خاتمة المعارك في التل الكبير، ولم يكتب فيها النصر للعرابيين؛ فقد فاجأتهم الفرق الإنجليزية نحو الساعة الرابعة بعد نصف ليل 14 سبتمبر سنة 82 «يوم الخميس 2 ذي القعدة سنة 1299ه»، وكانت هزيمة كبيرة للعرابيين. وكذلك انتهت الثورة العرابية واحتل الإنجليز مصر.
ولا أتولى هنا بيان العوامل الداخلية والخارجية التي عملت عملها في هذه الكارثة بل المجزرة التي قضت على جيش العرابيين في دقائق معدودة، لم يصمد فيها لهجوم الجيش الإنجليزي المفاجئ سوى الأورط السودانية، وقد فنيت على آخرها في الدفاع ومعها قائدها المرحوم عبيد بك؛ فهذا قد تكفلت به الكتب التاريخية في تلك الحوادث، ولا سيما كتاب «تاريخ الاحتلال الإنجليزي في مصر» لمؤلفه «هنس زرنر الألماني»؛ فقد أيد ما رواه فيه بالوثائق الرسمية.
ومن مدهشات السياسة الإنجليزية أن إنجلترا لم تكتف بما تم لها وبإقفال قناة السويس - كما تقدم - بل وجهت همها إلى مناهضة شركة القنال في سنة 1883 التالية، فقامت فيها حملة شديدة منظمة عمادها الصحافة وشركات الملاحة البريطانية على شركة القنال، حتى أنكروا عليها اختصاصها بالحق في إنشاء القنال بين البحرين، وطعنوا في تلك الحيدة التي اعتزمتها فرنسا في الشئون المصرية، وهددوا المساهمين في القنال في ملكيتهم للأسهم بأن اقترحوا إنشاء قنال آخر بجانب قنال السويس يكون خالصا للإنجليز.
ولما رأى مسيو ديلسبس ذلك قصد لندن وجاهد في تسكين ثورة الإنجليز، ولما كانت الحكومة الإنجليزية قد اشترت من الخديو إسماعيل في سنة 1876 ما كان لمصر من أسهم القنال - وقدرها 177642 - تدخلت في الموضوع وبحثت مع مديري شركة القنال في إيجاد تسوية بين حقوق المساهمين ومصالح التجار الإنجليز، حتى لقد اتفق المسيو ديلسبس مع المستر غلادستون رئيس الوزارة الإنجليزية وقتئذ على إنشاء قنال آخر «كذا» بواسطة الشركة وتخفيض الرسوم. ومع ما كان في هذا العمل من عظيم المصلحة لأصحاب السفن الإنجليزية وصموه بالخيانة؛ فاضطر رئيس الوزراء إلى سحب المشروع الذي قدمه في هذا الموضوع إلى البرلمان الإنجليزي في يوليو سنة 1883.
وفي شهر ديسمبر من تلك السنة نجح رئيس شركة القنال بعد مفاوضات طويلة شاقة في أن يعقد مع أصحاب السفن البريطانية تسوية، كان في ضمن موادها أن تتعهد الشركة بإجراء الأعمال اللازمة لضمان سرعة مرور السفن؛ بناء على بحث تبحثه لجنة من المهندسين وأصحاب السفن يكون نصف أعضائها على الأقل من الإنجليز، وأن تتنازل الشركة عن رسوم قيادة السفن «القبطانية» في القنال، وأن تنقص رسوم المرور بمقدار نصف فرنك عن كل طن من أول يناير سنة 1885، ثم تنقصها نسبيا كلما تجاوزت إيردات الشركة 18 في المائة ... إلى غير ذلك من الشروط، حتى أصبحت في تلك السنة 9 فرنكات ونصف فرنك عن صافي الطن الواحد.
وعلى الرغم من هذه الامتيازات العظيمة لم يسكن غضب الإنجليز مع ما ترتب على ذلك من نزول سعر أسهم الشركة في فرنسا؛ فقد ظن القوم فيها أن قنال السويس ومصر سيكونان لقمة سائغة لبريطانيا العظمى، وبذلك انتهت تلك المناورة السياسية الإنجليزية.
والآن أعود لأوافي القراء بما وعدتهم آنفا من أني أذكر لهم السبب التاريخي - من طريق الاستنتاج - الذي حدا بإنجلترا أن تعين يوم 14 سبتمبر لإنهاء مهمتها في إخماد الثورة العرابية ودخول مصر؛ فأقول:
Page inconnue