بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الحمد لله أتم حمده وصلواته وسلامه على محمد ورسوله وعبده.
سألت رضي الله عنك عن حديث، ذكرت أثر رواية النسائي في سننه الكبرى قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري المكي، قال: حدثنا سفيان عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الفطرة خمس: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وحلق الشارب)).
هل هو حديث صحيح؟
وهل ذكر حلق الشارب صحيح أم لا؟
فأقول وبالله التوفيق:
هذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات، قد رواه النسائي -كما ذكرت- في سننه الكبرى. وفي سننه الصغرى أيضا هي متصلة الرواية، فلا حاجة إلى إبعاد النجعة في عزوه إلى الكبرى.
Page 23
ولكنه قد اختلف، في ذكر حلق الشارب فيه على سفيان بن عيينة، فرواه الأئمة: أحمد بن حنبل، وعلي بن (المديني)، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو بن محمد الناقد، وزهير بن حرب، ومسدد بن مسرهد، وغيرهم، عن سفيان بقوله: (( (قص) الشارب)).
فأما رواية أحمد بن حنبل عنه، فرواها في مسنده.
وأما رواية علي بن (المديني)، فأخرجها البخاري في صحيحه.
وأما رواية أبي بكر بن أبي شيبة عنه، فأخرجها مسلم وابن ماجه.
وأما رواية عمرو الناقد، وزهير بن حرب عنه، فأخرجها مسلم.
Page 24
وأما رواية مسدد، فأخرجها أبو داود.
وهكذا رواه زكريا بن يحيى بن أسد المروزي، عن سفيان.
وقول الجماعة هو الصواب لحفظهم وإتقانهم، ورواية النسائي المسؤول عنها شاذة اللفظ لمخالفتها لرواية الثقات.
ثم نظرنا من تابع سفيان بن عيينة على روايته عن الزهري؟
فوجدنا: إبراهيم بن سعد الزهري، ويونس بن يزيد الأيلي، ومعمر بن راشد، وزمعة بن صالح، قد رووه عن الزهري كرواية الجمهور عن ابن عيينة، فقالوا كلهم فيه: ((وقص الشارب)).
فأما رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري، فأخرجها البخاري في صحيحه.
Page 25
وأما رواية يونس بن يزيد، فأخرجها مسلم والنسائي.
وأما رواية معمر، فأخرجها الترمذي والنسائي ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأما رواية زمعة، فرواها أبو داود الطيالسي في مسنده.
فكانت رواية هؤلاء الأربعة عن الزهري شاهدة لروايات الجمهور عن ابن عيينة.
ثم نظرنا هل نجد أحدا تابع سعيد بن المسيب على روايته عن أبي هريرة؟
فوجدنا سعيد المقبري وأباه كيسان قد روياه عن أبي هريرة.
Page 26
فأما رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة، فرواها النسائي من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: ((وتقصير الشارب)).
وأما رواية (أبيه) أبي سعيد المقبري، فروى مالك في الموطأ عن المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قوله، فقال فيه: ((وقص الشارب)).
Page 27
وكذلك رواية (أبي سلمة) عن أبي هريرة، رواه أبو بكر البزار في كتاب السنن من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطهارات أربع: قص الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار والسواك)).
ثم نظرنا من رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي هريرة؟
فوجدنا عبد الله بن عمر وعائشة، وعمار بن ياسر، وأبا الدرداء، وأنس بن مالك. فرواه كل منهم بلفظ: ((قص الشارب)).
فأما حديث ابن عمر فأخرجه البخاري من رواية حنظلة بن أبي سفيان
عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من الفطرة، حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب)).
ورواه النسائي أيضا، فقال فيه: ((وأخذ الشارب)).
وأما حديث عائشة، فأخرجه مسلم.
Page 28
وفي السنن من رواية مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية ..)) الحديث.
Page 29
وضعفه النسائي بمصعب بن شيبة، فقال: إنه منكر الحديث، وأن الأشبه بالصواب وقفه على طلق بن حبيب.
وأما حديث عمار بن ياسر، فرواه أبو داود، وابن ماجه، من
Page 31
رواية علي بن زيد عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر عن عمار بن ياسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب)) الحديث لفظ ابن ماجه.
Page 32
وقد تكلم البخاري في اتصال إسناده.
وأما حديث أبي الدرداء، فرواه أبو بكر البزار في مسنده، من
رواية معاوية بن يحيى عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الطهارات أربع: قص الشارب وحلق العانة ..)) وذكر الحديث.
Page 33
ورواه أيضا في سننه كما ذكره صاحب الإمام.
وأما حديث أنس بن مالك، فرواه أبو داود والترمذي من
Page 34
رواية صدقة الدقيقي عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال: ((وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق العانة، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، أربعين يوما مرة)).
ورواه ابن منده، وقال: هذا إسناد صحيح عن رسم البخاري.
واعترض عليه ابن دقيق العيد في الإمام، بأنه ليس على رسم البخاري، فإن صدقة الدقيقي ضعفه يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي.
والحديث رواه مسلم والترمذي وابن ماجه من رواية جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال: ((وقت لنا في قص الشارب .. .. )) الحديث على البناء للمجهول، لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم .
Page 35
وهذا من قول الصحابي له حكم المرفوع على القول الصحيح عند أهل الحديث والأصول، والله تعالى أعلم.
فتبين بهذه الأحاديث أن رواية النسائي المسؤول عنها شاذة اللفظ،
Page 36
وأنها فردة مطلقة، لم يروه غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، وليس هو في الحفظ والإتقان كمن خالفه من الأئمة: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وغيرهما ممن سميناهم.
فإن قال من يذهب إلى حلقه واستئصاله: أنا لا أفرق بين اللفظين وأحمل رواية القص على الحلق، فإنه قد يحلق بالمقصين كما يجز صوف الغنم كذلك؛ بدليل الأمر بالجز والإحفاء، من حديث ابن عمر المتفق على إخراجه من رواية نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أحفوا الشوارب واعفوا اللحى)).
وفي رواية للبخاري: ((أنهكوا الشوارب))، وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة: ((جزوا الشوارب)).
فأما إطلاق القص على الحلق خلاف الظاهر الغالب، ويرجح أن المراد بالقص قطع البعض وإبقاء البعض رواية النسائي المتقدمة في حديث أبي هريرة حيث قال فيها: ((وتقصير الشارب)). والتقصير خلاف الحلق.
Page 37
وأيضا فلم يتفق في حديث (ابن عمر) وأبي هريرة على الإحفاء فقط، بل قد رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة بلفظ: ((قصوا الشوارب)).
أما قوله: احفوا وجزوا وأنهكوا، فإنا نحمله على ما كان من الشارب على طرف الشفة. فيستحب إحفاؤه، حتى لا يترك شيء من طرف الشفة. وما كان [ .. .. ] (¬1) ما بقي منه عن طرف الشفة، وعلى هذا فيكون قد ثبت بجميع الروايات من الأمر بالقص، والتقصير والإحفاء الجز والنهك. وفي هذا جمع بين الأدلة.
ومما يدل أيضا على أن الإحفاء في جميع الشارب ليس مستحبا، ما
Page 38
رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والترمذي في الشمائل، والنسائي في سننه، من رواية مغيرة بن عبد الله، عن المغيرة بن شعبة، قال: ((كان شاربي وفى فقصه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على سواك))، أو قال: ((أقصة لك على سواك))، لفظ رواية أحمد.
وإسناده صحيح، رجالهم محتج بهم في الصحيح.
فلو كان المراد حلقه واستئصاله، لما وضع السواك تحت الشارب حتى يقص ما خرج عنه، وقد ورد أيضا نحوه من حديث عائشة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل، فقال: ((إيتوني بمقص وسواك))، فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوز)) رواه أبو بكر البزار في مسنده، وقال: (لا نعلم رواه عن هشام إلا عبد الرحمن بن مسهر، وليس بالحافظ).
Page 39
قلت: هو أخو علي بن مسهر، وهو ضعيف، وكان على قضاء جبل.
وهذا المتن ضعيف لا يصلح للاستشهاد به، وإنما ذكرته لأنبه على ضعفه. والحجة قائمة بحديث المغيرة بن شعبة.
Page 40
وأيضا فالأحاديث التي وردت في الأخذ من الشارب تدل على أخذ البعض، لدلالة ((من)) على التبعيض، وذلك فيما رواه الترمذي من رواية سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه، أو يأخذ من شاربه))، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وروى الترمذي، والنسائي، من رواية حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لم يأخذ من شاربه فليس منا))، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
Page 41
وقد وصف أحد أئمة الهدى -عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه-،
السنة في الأخذ من الشارب فيما رواه الأوزاعي عنه قال: ((السنة في قص الشارب حتى يبدو الإطار)). رواه أبو الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي في الجزء الثالث من شيوخ الأوزاعي.
Page 42
والإطار بكسر الهمزة، وبالطاء والراء المهملتين، هو حرف الشفة الأعلى الذي يحول بين منابت الشعر والشفة. ذكره أبو موسى المديني في ذيله على الغريبين للهروي، وابن الأثير في النهاية.
قال الجوهري: وكل شيء أحاط بشيء فهو (إطار) له.
ومنه (إطار) الشفة. قال: (وإطار المنخل خشبه)، وإطار الحافر ما أحاط بالأشعر. انتهى.
وقول التابعي السنة كذا، هل هو مرفوع كقول الصحابي ذلك، إلا أنه مرسل؟ أو هو متصل موقوف؟
فيه وجهان لأصحابنا، حكاهما النووي في مقدمة شرح المهذب، وصحح أنه موقوف.
Page 43