إذن فلا بد في كل شيء إنساني من حقيقة باطنة في نفس الإنسان تعطيه بصحتها أو مرضها قوة اللذة أو الألم، وبهذا يقضي العدل الإلهي كل ذي حق بالنصفة والسوية، لا فرق بين الغني في غناه وبين الفقير في فقره، فلكل منهما لذة وألم، ولعلنا لو سألنا أغنى الناس عما هي لذة الغني لرأيناه في حقيقة التعاسة النفسية كأفقر الناس إذا أجابنا عما هو ألم الفقر.
وقد فطر أكثر الخلق- لطبيعة الخوف المتمكنة منهم- على أن يتسعوا في فه الآفات وحدها، حتى صار الوهم الخيالي أكبر الآفات الحقيقية، فالفقير الذي لا يفهم حقيقة الفقر يتألم بإدراك ووهم وفلسفة، إذ يقيس حاضره على ماضيه وعلى ماضي غيره من الفقراء، ويقيس مستقبله على حاضر الأغنياء ومن في حكمهم فقط، وبهذا ألمه عملًا عقليًا في شيء موهوم، فما دام يتمنى أكثر مما يستحق فهو يتألم بأكثر مما يستحق، ولو تأمل الناس لرأوا أن نصف الفقر فقر كاذب، فآه لو كان مع ضعف الفقر قوة الإرادة! إذن لوجد الحكماء في الأرض شيئًا حقيقيًا يسمونه الغنى.
أيها الناس، إن الفصل بين الغنى والفقر من الأمور التي تتعلق بالضمير وحده، ورب غني يزيد أهله بالحرص والدناءة فقرًا فانظروا فيها، فأفكار إلهية لا تطلب إلا الفضيلة التي يمكن أن تكون بلا ثمن، ولا يمكن أن يكون شيء ثمنا لها. انظروا إلى بعض الأغنياء الذين تموت في قلوبهم كل موعظة إنسانية أو إلهية فلا تثمر شيئًا حتى إذا ماتوا نبتت كلها من تراب قبورهم فأثمرت لنفوس المساكين والفقراء عزاء وسلوة وموعظة من زوال الدنيا، انظروا بعين الحقيقة التي تعطي هذه الطبيعة النظر فتعطيها محاسن الطبيعة الفكر.
انظروا في باطن الإنسان بالفضيلة التي هي من نور الله، وبالحقيقة التي هب من نور الطبيعة، فإنكم لا ترون حقيقة الغنى تبتعد عن حقيقة الفقر إلا بمقدار شبر واحد، وهو ملء هذه المعدة!
مسكينة! مسكينة!
قال "الشيخ علي": واسمع الآن يا بني ما أقص عليك، فإني محدثك بخبر ليتني ما علمته، بل ليتني إذ علمته ما وعيته، وليتني إذ وعيته ما أثبته ولا نفذت فيه كما نفذ في.
ولكن الحياة كما تقضي علينا أن نسهد أموات الأحياء ونحملهم إلى أبواب الآخرة من تلك الحفر، تقضي علينا أن نشهد أحياء الأموات من أهل الرذائل ونحمل من أخبار ضمائرهم الميتة إلى أبواب السماء في أنفسنا!.
فواهًا لك أيتها الحياة الدنيا! تقتلين بالشر وتجرحين بأخباره ولا تؤتين عسل الحكمة إلا بعد لسع كثير..
وقد علمنا أن كل شيء يسير فإنما هو يذهب في طريق يتهدى أو يتعسف. وكأن الأسف على أهل الشر لم يجد له طريقا في هذه الحياة إلا من ضمائر لا أهل الخير، وبهذا يضرب الشر أهله وغير أهله.
كانت لنا يا بني في هذه القرية النضرة فتاة بائسة ضاق بها العريض من هذا البر فخرجت إلى بعض المدن تستطعم الحياة، فحدثتني أنه استضافت حتى كأنما كانت تنفذ إلى رزقها من شق في صخرة فسدت عليها، فلا وراء ولا أمام وأعجزها حتى المعاش الملفق.
وخرجت يومًا على الناس وكأنها لقذارتها قطعة ممن الحياة البالية مدرجة في بعض الأطمار، أو روح من الهواء تمشي ساكنة في أردية من الغبار، وما تحصي العين تلك البقع المنتشرة في ثيابها، كأنها أرقام للفقر يعد بها ليالي عذابها، وهي علم الله بقع، أشأم منها أنها في رقع، وقد اغبر شعرها الفاحم وتلبد، فكأنها بعض ما وقع على رأسها من حظها الأسود، ولاح من تحته كالدينار الزائف في صفرته ورده، وكالقمر الممحوق في استطالته تحت الظلام ومده..وهي فتاة عليلة قد أخذ السقام من حجمها كما أطفأت الأقدار من نجمها، وخفي من لمرض في صدرها، أكثر مما خفي بين الناس من قدرها. وما تعرف من أسماء الأموات والأحياء غير أسماء أهلها، ولا تملك من الأرض أكثر من غبار نعلها، وقد خرجت تتحامل فكلما خافتت في مشيها قليلًا خافت العثار، فاستندت إلى جدار، فإذا رأيت صورة البؤس ولكن في غير إطار.
وإنها تمشي وكأن ليس فيها دم ينتهي إلى قدميها فهي تجرهما جرا وتقتلعهما بين الخطوة والخطوة، وما تدري من الألم أهما على الأرض أم في الأرض تسوخان؟ وقد تزايلت أعضاؤها فما تحس أن فيه حياة متماسكة، وهي ما فتئت تحسب أن جسمها قد خلق نعشا لقلبها فلا هذا القلب يحيا كما تحيا القلوب ولا ذلك الجسم ينمو كما تنمو الأجسام!.
1 / 15