مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن علماءنا الأخيار في العصور الماضية، والأزمنة العابرة، قد قضوا أيامهم وأفنوا أعمارهم في طاعة الله تعالى، وتعلم العلوم الشرعية وتعليمها، والتصنيف في شتى أنواع العلوم والفنون من تفسير وحديث، وأصول وفقه، وأدب، وغير ذلك.
وكانت مصنفاتهم تلك هي الثروة الباقية لهم، التي خلفوها لمن وراءهم، فكانت نعم التركة، ونعم الموروث، ونعم ما اشتملت عليه.
ولقد امتلأت خزائن المخطوطات في مختلف المكتبات في أنحاء العالم بمئات الألوف من تلك المخطوطات التي احتوت على الثروة العلمية الحقيقية لهذه الأمة.
ولم يغفل طلبة العلم في هذا العصر عن تركة أسلافهم الماضين، فامتدت أيدي الباحثين منهم تنقب عن تلك المخطوطات، وتتبعها في
1 / 5
كل مكان من هذا العالم المترامي الأطراف، فأخرجوا إلى النور منها ما أخرجوه، إلا أن ما رأى النور منها لا يمثل إلا نسبة ضئيلة إلى جانب تلك المخطوطات المكدًسة والقابعة في خزائن المخطوطات.
ولقد شاء الله تعالى أن أدلي بدلوي مع أولئك الباحثين، فوقع نظري على واحد من تلك المخطوطات في الفقه، لعالم جليل بعنوان (المسائل المهمة فيما يحتاج إليه العاقد عند الخطوب المدلهمة) لمصنفه محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي الحنبلي، فعقدت العزم على تحقيقه وإخراجه، ليستفيد منه القارئ الكريم.
وإن العمل التحقيقي الذي أقوم به في هذا الكتاب، هو العمل الأول الذي أخوض به هذا الميدان، وإني لأسأل الله تعالى أن يكون عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكون نافعًا لكل من اطلع عليه، كما وأسأله تعالى أن يجعل خير أعمالي خواتمها، وخير أيامي يوم ألقاه، وأن يجعل آخر كلامي من الدنيا شهادة أن لا إله الله.
وهو حسبي ونعم الوكيل. المحقق
1 / 6
أولًا: مصادر ترجمته:
وردت ترجمة المصنف في المصادر الآتية ١:
الدر الكمين بذيل العقد الثمين، لابن فهد (ورقة ٥/ب) مخطوط.
التبر المسبوك في ذيل السلوك: للسخاوي:٣٩٣.
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: للسخاوي أيضًا:٣٠٩:٦.
الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد: لابن عبد الهادي ١٤٥-١٤٦.
- الدر المنضد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، للعليمي (ورقة ١٨٥/أ) مخطوط.
- المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، للعليمي أيضًا (١٤٣/٢/ب) مخطوط.
- كشف الظنون على أسامي الكتب والفنون: لحاجي خليفة ٩٩٢:٢،١٤٩٢.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي ٢٨٦:٧.
السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة: لابن حميد النجدي: ٢٤٥،٣٤٤-٣٤٥.
_________
(١) أوردت مصادر ترجمته هنا مرتبة حسب أسبقية وفاة مؤلفيها.
1 / 11
-إيضاح المكنون: لإسماعيل باشا أيضًا٢: ٣٩، ٤٧٦.
- هدية العارفين: لإسماعيل باشا ١٩٩:٢.
- الأعلام: للزركلي: ٣٣٢:٥.
- معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة:٢٦٥:٨.
- مصطلحات الفقه الحنبلي: للثقفي٢٠١.
- مفاتيح الفقه الحنبلي للثقفي أيضًا ١٦٩:٢.
ثانيا: اسمه ونسبه وكنيته:
هو الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن سعيد النابلسي الدمشقي، الحلبي، المقدسي، المكي الحنبلي١.
فالنابلسي: بفتح النون وضم الباء واللام، وكسر السين هذه النسبة إلى (نابلس) ٢ وهي مدينة معروفة في فلسطين اليوم تتوسط إقليم المرتفعات الجبلية بفلسطين، وتبعد عن القدس بحوالي تسعة وستين كيلًا
_________
(١) انظر: المصادر السابقة.
(٢) نابلس: يقال: إن سبب تسميتها بهذا الاسم هو أنه كانت هناك حية كبيرة في أحد أوديتها قد امتنعت فيه، وكانوا يسمونها بلغتهم (لُس) فاحتالوا عليها حتى قتلوها وانتزعوا نابها، وجاؤوا بها فعلقوها على باب هذه المدينة، فقيل: هذا (ناب لس) أي ناب الحية، ثم كثر استعماله حتى كتبوها متصلة (نابلس) هكذا، وغلب هذا الاسم عليها.
انظر معجم البلدان٢٤٨:٥.
1 / 12
إلى الشمال منها ١ وينسب إليها المصنف لأنه ولد في قرية (كفر الّلبد) إحدى القرى التابعة لنابلس ٢.
والدمشقي: نسبة إلى مدينة دمشق المعروفة، حيث بدأ المصنف رحلاته العلمية بها، فتتلمذ على عدد من علمائها في المدرسة الصالحية فيها ٣.
والحلبي: بفتح الحاء واللام ونسبة إلى حلب المدينة المشهورة الواقعة في شمال سورية اليوم، ونسب إليها المصنف لكونه أقام بها قريبًا من إحدى وعشرين سنة، حيث ناب بها في القضاء والخطابة وقرأ على عدد من علمائها٤.
المقدسي: بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال والسين، نسبة إلى بيت المقدس، ونسب إليها المصنف لتتلمذه على عدد من علمائها، وبقائه فيها حوالي ست سنوات ٥ وإليها ينسب عدد كبير من العلماء قديمًا وحديثًا ٦.
المكي: نسبة إلى مكة المكرمة، حيث كانت هي آخر محط رحال المصنف، وقد القضاء بها ومات فيها.
_________
١ معجم بلدان فلسطين ٦٩٧، الموسوعة الفلسطينية ٤١٥:٤.
٢ الأنساب للسمعاني ٤٤١:٥.
٣ انظر الكلام عن هذه المدرسة في: القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية ٦٤وما بعدها، والدارس في أخبار المدارس ٣١٦:١.
٤ الضوء اللامع ٣٠٩:٦، التبر المسبوك ٣٩٣.
٥ السحب الوابلة ٣٤٥.
٦ الأنساب ٣٦٣:٥.
1 / 13
الحنبلي: نسبة إلى مذهب الإمام الشهير أحمد بن محمد حنبل ﵀.
وأما لقبه: فالذي اشتهر به والذي نص عليه جميع من ترجم له والذي ذكره في مقدمة كتابه هذا هو (شمس الدين) ١ وذكر حاجي خليفة وإسماعيل باشا والزركلي أن لقبه (عز الدين) ولم يذكر هذا أحدهم غيرهم ٢
وأما كنيته: فلم أجد من ذكرها في أي من المصادر التي ترجمت له، إلا أن المصنف – ﵀ – قد نص عليها في مقدمة كتابه عندما ذكر اسمه ونسبه فقال:.... أبو عبد الله محمد ... .
ثالثا: مولده ونشأته:
ولد القاضي شمس الدين الحنبلي سنة إحدى وسبعين وسبعمائة للهجرة، كما كتب ذلك بخط يده ٣ وكان مولده في (كفر اللّبد) وهي قرية من القرى التابعة لمدينة نابلس، والواقعة على بعد حوالي سبعة وعشرين كيلًا إلى الشرق من شاطئ البحر الأبيض المتوسط وينسب إليها عدد من العلماء باسم اللبدي٤.
ونشأ المصنف بهذه القرية وشغف منذ صغره بحب العلم ومجالسة
_________
١ انظر مصادر ترجمته.
٢ كشف الظنون ٩٩٢:٢:١٤٩٢، إيضاح المكنون ٤٧٦:٢، الأعلام ٣٣٢:٥.
٣ التبر المسبوك ٣٦٣، الضوء اللامع: ٣٠٩، السحب الوابلة ٣٤٤.
٤ معجم بلدان فلسطين ٦٢٩، الأنساب٤٤١:٥.
1 / 14
العلماء، فحفظ القرآن كاملًا في صباه ثم بدأ بعد ذلك برحلاته لطلب العلم خارج بلده.
رابعًا: رحلاته العلمية:
تعتبر الرحلات العلمية من قطر إلى آخر واحدة من أهم الوسائل المهمة لتلقي العلوم والمعارف ونقلها من بلد إلى آخر، وهي طريق من الطرق التي بواسطتها ينمي الإنسان معلوماته، ويغذي بها أفكاره، ويحفظ لنا التاريخ أعلامًا كبارًا على مر العصور، اشتهروا برحلاتهم وتنقلاتهم إلى سائر الأمصار وحين عادوا تبوءوا مركز الصدارة والريادة العلمية.
ولقد كانت بلاد الشام مركزًا هامًا من مراكز العلم، وموطنًا للعلماء يتوافد عليها طلاب العلم من كل حدب وصوب، ويقصدونها من سائر البلدان.
والإمام العلامة شمس الدين الحنبلي شأنه شأن غيره من طلبة العلم، فإنه بعد أن حفظ القرآن في مسقط رأسه (كفر اللّبد) بدأ يجوب البلاد وأخذ يطوف في بلاد الشام ينتقل من مدينة إلى أخرى متتبعًا لكبار علماء عصره، يحضر مجالسهم، ويسعد بسماع دروسهم ويزاحم غيره من الطلاب ويسابقهم في الحضور إلى سائر الحلقات العلمية التي كانت تقام في المساجد أو في المدارس التي كانت منتشرة في ذلك الوقت لا سيما في دمشق.
وقد بدأت رحلته العلمية المباركة بالانتقال إلى مدينة دمشق سنة (٧٨٩هـ) حيث المدرسة الصالحية التي كانت تغص بالعلماء والتي
1 / 15
تعتبر من أكثر المراكز ازدهارًا بهم في تلك الفترة، فتفقه على عدد من علمائها، وقام بها قريبًا من سنتين، ثم شد رحاله إلى مدينة حلب سنة (٧٩١هـ) فسمع على عدد من علمائها، وحفظ بها (عمدة الأحكام) لموفق الدين ابن قدامة و(مختصر الخرقي) وتفقه بها على القاضي شهاب الدين ابن فياض ١ وقرأ على برهان الدين إبراهيم بن محمد بن صُديق من صحيح البخاري من أول باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد إلى آخر باب صلاة الكسوف جماعة ٢، وناب بحلب في القضاء والخطابة بجامعها الكبير، وكانت إقامته بحلب حوالي إحدى وعشرين سنة ٣
ثم رحل إلى بيت المقدس سنة (٨١٢هـ) وأقام بها قريبا من ست سنوات، ثم عاد إلى دمشق مرة أخرى ثم رحل إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة واستجازه الأعيان فيها ٤ حتى استقر به المطاف في آخر الأمر فأقام بمكة سنة (٨٥٢هـ) وبقي بها إلى أن توفي.
خامسًا: شيوخه:
تتلمذ المصنف خلال رحلته العلمية تلك في مختلف البلدان على عدد من علمائها وتفقه بهم وقرأ عليهم شتى العلوم والفنون.
_________
١ الضوء اللامع ٤٣٠٩:٦، السحب الوابلة ٣٤٤-٣٤٥.
٢ انظر: صحيح البخاري ٢١:١-١٨٦.
٣ التبر المسبوك ٣٦٣.
٤ شذرات الذهب ٢٨٦:٧.
1 / 16
ومن أبرز شيوخه:
١. إبراهيم بن محمد بن صّديق الدمشقي، برهان الدين، ويعرف بابن صّديق، وبابن الرسام، ولد بدمشق، ونشأ بها فحفظ القرآن وسمع من شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن جماعة وغيرهما، وأجاز له خلق من الشاميين والمصريين، وحدث بحلب فقرئ عليه صحيح البخاري فيها أربع مرات، وبمكة المكرمة أكثر من عشرين مرة، وكان خيرًا دينًا مواظبًا على الجماعات، متعبدًا لطيفًا يستحضر الكثير من المتون، وكان يأخذ أجرا على حديثه لفقره وحاجته مات سنة (٨٠٦هـ)
٢- إبراهيم بن محمد بن مفلح تقي الدين، ويقال برهان الدين الصالحي الحنبلي، شيخ الحنابلة ورئيسهم في زمنه، أخذ عن جماعة منهم والده، وجده جمال الدين المرداوي، وأفتى ودرس بالصالحية، وصنف واشتهر ذكره وذاع صيته، وولى قضاء الحنابلة بدمشق فحمدت سيرته، وأخذ عنه جماعات منهم ابن حجر العسقلاني، وكان يحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب، من مصنفاته: شرح المقنع، وطبقات أصحاب أحمد، وغيرهما، مات سنة (٨٠٣هـ)
_________
١ الضوء اللامع ١٤٧:١، شذرات الذهب ٥٤:٧.
٢ الدارس ٤٧:٧، القلائد الجوهرية ١٦١، الضوء اللامع ١٦٧:١، شذرات الذهب ٢٢:٧، السحب الوابلة ٣٦.
1 / 17
٣.أحمد بن موسى بن فياض بن عبد العزيز بن فياض، شهاب الدين المقدسي قاضي حلب وابن قاضيها تنازل له أبوه عن القضاء باختياره سنة (٧٧٤هـ) فاستمر قاضيا إلى أن مات، وكان عالمًا عادلًا خيرًا متواضعًا دينًا كثير السكون محمود الطريقة، مشكورًا في أحكامه، مات في شعبان سنة (٧٩٦هـ) ١.
٤.عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، زين الدين أبو الفرج الدمشقي، أحد كبار فقهاء الحنابلة في عصره، وأحد الأعلام حفاظ الحديث، ولد في بغداد سنة (٧٣٦هـ) ونشأ بدمشق وسمع علماءها وأكثر الاشتغال بالعلوم حتى مهر وبرع وصنف، وكان يحفظ كثيرًا من كلام السلف زاهدًا خيرًا منجمعًا عن الناس لا يخالط ولا يتردد إلى أحد من الولاة وولي تدريس الحنابلة وكان فقيرًا متعففًا غني النفس.
من مصنفاته: فتح الباري في شرح صحيح البخاري، وصل فيه إلى كتاب الجنائز، وطبقات أصحاب الإمام أحمد جعله ذيلًا على طبقات ابن أبي يعلي، والقواعد الفقهية، وكتاب الخواتيم، وغير ذلك من المصنفات النافعة، مات بدمشق سنة (٧٩٥هـ) ٢.
_________
١ الدرر الكامنة ٣٤٤:١، السحب الوابلة ١٠٨.
٢ الدرر الكامنة ٤٢٨:٢ الدارس ٨٦:٢، شذرات الذهب ٣٣٩:٦، طبقات الحفاظ للسيوطي ٥٤٠، الجوهرة المنضد ٤٦، السحب الوابلة ١٧٩، المدخل ٤١٤.
1 / 18
٥.عبد الله بن محمد بن مفلح المقدسي الصالحي الحنبلي الإمام العلامة، مات أبوه وهو صغير فحفظ القرآن وكثيرًا من المتون في الفقه وغيره، وكان أستاذًا في الأصول بارعًا في التفسير والحديث علامة في الفقه، قال عنه السخاوي: وأما استحضار فروع الفقه فكان فيه عجبًا مع استحضار كثير من العلوم بحيث انتهت إليه رئاسة الحنابلة في زمانه. مات بدمشق سنة (٨٣٤هـ) ١.
٦.علي بن محمد عباس، أبو الحسن، علاء الدين ابن اللًحام الحنبلي الدمشقي، الفقيه الزاهد، الواعظ الأصولي قرأ على ابن رجب وغيره وكان حسن الكتابة وكتب أكثر كتب ابن رجب بخطه، وكان محبًا لابن تيمية وناب في القضاء ثم تركه في آخر عمره واشتغل بالتصنيف.
من مصنفاته: تجريد العناية في تحرير أحكام النهاية، والقواعد الأصولية، واختيارات الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وغيرها، مات سنة (٨٠٣هـ) . ٢
٧ - محمد بن عبد الله بن ظهيرة، أبو حامد جمال الدين القرشي
_________
١ الجوهر المنضد ٧٢، الضوء اللامع ٦٧:٥، شذرات الذهب ٢٠٨:٧، السحب الوابلة ٢٦٨.
٢ الجوهر المنضد ٨١، الدارس ١٢٤:٣، الضوء اللامع٣٢٠:٥، شذرات الذهب ٣١:٧، السحب الوابلة ٣٠٨، المدخل ٤٥٧.
1 / 19
المخزومي الشافعي الإمام العلامة الحافظ، رحل إلى عدد من البلدان طلبًا للعلم وبرع في الفقه والحديث وأقام بمكة نحوًا من أربعين سنة فانتفع الناس به، وكان كثير الاستحضار للفقه، مع التمييز في الحديث متنًا وإسنادًا ولغة وفقها، ومعرفة حسنة بالعربية وغيرها من فنون العلم، وكان ورعًا متواضعًا طارحًا للتكلف، كثير المروءة والبر والنصح والمحبة لأصحابه، وافر العقل حسن الأخلاق توفي قاضيًا بمكة سنة (٨١٧هـ) ١.
سادسًا: تلاميذه:
على الرغم من أن المصنف ﵀ كان أحد المعمرين حيث أن سنه كانت عند وفاته أربعًا وثمانين سنة، وأنه قضى معظم حياته في طلب العلم والسعي إليه، والحث عليه، والاشتغال في تصنيف الكتب النافعة، وأنه قضى معظم حياته في بلاد الشام التي كانت من أهم مراكز العالم الإسلامي آنذاك، ومن منابع الثقافة والنهضة العلمية، ومركز إشعاع لسائر العلوم والفنون، على رغم من ذلك كله لم تسعفنا المصادر التي ترجمت له ودوّنت حياته، بكثير من أسماء تلاميذه مع أنه في ذلك الوقت كان من الأعلام المشهورين شهرة واسعة، وذاع صيته في سائر البلاد، وكل ما عثرت عليه بعد البحث والتنقيب عن تلاميذه في بطون المصادر المطبوعة والمخطوطة هم:
_________
١ الضوء اللامع ٩٢:٨، طبقات الحفاظ للسيوطي ٥٤٨، شذرات الذهب ١٢٥:٧،
1 / 20
١. حمد بن إبراهيم بن نصر الله بن أحمد، أبو البركات عز الدين الكنائي العسقلاني الصالحي، ولد في القاهرة سنة ثمانمائة للهجرة ونشأ بها وتوفي والده وهو رضيع، فحفظ القرآن في صباه ومختصر الخرقي، وألفية ابن مالك وغير ذلك، وولي القضاء بمصر وكان ورعًا زاهدًا، باشر القضاء بعفة ونزاهة وصيانة مع لين جانب وتواضع، وعلت كلمته وأكثر من الجمع والتأليف والإنتقاد والتصنيف حتى إنه قل فن إلا وصنف فيه، إما نظمًا وإما نثرًا.
من مصنفاته: مختصر المحرر في الفقه وتصحيحه ونظمه، وطبقات الحنابلة، وشرح ألفية ابن مالك.
مات بالقاهرة سنة (٨٧٦هـ) ١.
٢. محمد بن عبد الرحمن بن محمد شمس الدين السخاوي، الحافظ المؤرخ طاف البلاد طلبًا للعلم، فسمع من كبار العلماء في حلب ودمشق والخليل ونابلس وغيرها من البلدان، ومن أشهر شيوخه الحافظ ابن حجر، وأجاز له كبار علماء عصره منهم المصنف ٢ وصنف التصانيف العديدة منها: الضوء اللامع لأهل
_________
١ الضوء اللامع ٢٠٥:٢، شذرات الذهب ٣٢١:٨، الجوهر المنضد٦، القلائد الجوهرية ٣٧٤، السحب الوابلة٤٢، الأعلام ٨٨:١.
٢ الضوء اللامع ٣٠٩:٦، التبر المسبوك ٣٦٣، السحب الوابلة ٣٤٥، أجاز كتابة كما ذكره السخاوي نفسه.
1 / 21
القرن التاسع، المقاصد الحسنة، الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، وغيرها.
مات بالمدينة المنورة سنة (٩٠٢هـ)
٣. محمد بن محمد بن عبد المنعم بن داود بدر الدين البغدادي المصري الحنبلي، الإمام القاضي العلامة ولد بالقاهرة سنة (٨٠١هـ) فنشأ بها وحفظ القرآن، وأفتى ودّرس واشتغل بسائر العلوم، وكان كريمًا، محبًا للفقراء، عرف بالديانة والأمانة، والأوصاف الحميدة، وكان بارعًا في المذهب، وولي القضاء فسار فيه سيرة حسنة جدًا بعفة ونزاهة وصيانة وأمانة، وتثبت وإمعان، مات بالقاهرة سنة (٨٥٧هـ) ٢.
٤. يوسف بن أحمد بن نصر الله، جمال الدين أبو المحاسن البغدادي المصري الحنبلي، ولد سنة (٨١٩هـ) بالقاهرة، ونشأ بها في كنف أبيه فحفظ القرآن وكثيرًا من المتون، ثم رحل إلى الشام وغيرها، وتفقه على عدد من علمائها، وبرع وذاع شهرته، وشهد له بالفضل معاصروه، وكان يكتب على الفتاوى كتابة جيدة للغاية، وولي القضاء وكانت وفاته بالقاهرة سنة (٨٨٩هـ) ٣.
_________
١ الضوء اللامع ٢:٨، البدر الطالع ١٨٤:٢، شذرات الذهب ١٥:٨، هدية العارفين ٢١٩:٦،
٢ الضوء اللامع ١٣١:٩، شذرات الذهب ٢٩٢:٧، السحب الوابلة ٤٣٨.
٣ الضوء اللامع ١٠: ٢٩٩، شذرات الذهب ٣٤٩:٨، السحب الوابلة ٤٨٥.
1 / 22
سابعًا: تقلده منصب القضاء:
يعد القضاء إحدى الوسائل الهامة المتصلة اتصالا وثيقًا بحياة الناس، ومن أهم الولايات المرتبطة بتيسير أمور المجتمع، وفض النزاعات، والفصل في الخصومات الدائرة بين الناس في حياتهم، وإظهار حقوق الله تعالى، وحقوق العباد، فهو مسؤولية كبيرة، وأمانة عظيمة ذات خطورة متناهية.
وقد تولى النبي ﷺ القضاء وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، ونصبوا القضاة في سائر الأمصار ليقيموا موازيين العدل بين الناس، إذ أن تحقيق العدل في المجتمع من أهم الأمور التي ينبغي تحقيقها، فهو عمل جليل بحد ذاته.
ولذلك فإنه لابد لمن يتولى منصب القضاء أن يكون مؤهلًا للقيام بتلك المسؤولية وتحمل أعبائها وتبعاتها، والصبر على ما يواجهه من الخصوم، وقبل ذلك كله علمه بالأحكام الشرعية وكيفية استنباطها فيما يجد عنده من القضايا، متحليا بصفة العدل والإنصاف، ذكيا فطنًا ذا قدرة على كشف الحقائق وتمييز الأمور، أمينا وضيء الفكر ثاقب النظر بعيدًا عن مواضع التهمة والشك والريب.
ولقد كان المصنف ﵀ واحدًا ممن تولوا منصب القضاء حيث عمل نائبا في القضاء عند إقامته بمدينة حلب، ثم لما قدم مكة واستقر بها ولي قضاء الحنابلة فيها بعد موت القاضي عبد اللطيف بن محمد الفاسي المتوفي سنة (٨٥٣هـ) ١ وقد سعى له في ذلك تلميذه
_________
١ السحب الوابلة٣٤٥،٢٤٥.
1 / 23
القاضي بدر الدين البغدادي١ وقد تولى القضاء في يوم الخميس الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثمانمائة للهجرة، واستمر فيه إلى أن مات وكانت مدة ولايته للقضاء عشرة أشهر كاملة، وقد سار القاضي شمس الدين في القضاء سيرة حسنة وبرع فيه، حيث أثنى عليه معاصروه وشهدوا له بالنزاهة والعفة وتوخي العدل والدقة في أحكامه وقضائه.
فقال عنه ابن فهد: وسار في القضاء سيرة حسنة بعفة ونزاهة وتواضع وحسن خلق ٢.
وقال عنه الحافظ شمس الدين السخاوي: كان متواضعا حسن الخلق عفيفًا نزيهًا محمود السيرة في قضائه٣.
ثامنًا: مصنفاته:
كان المصنف ﵀ من المشتغلين بالتأليف والتصنيف إلى جانب ما كان يقوم به من التدريس والخطابة والدعوة والقضاء، إلا أنه لم يذكر لنا من مصنفاته الشيء الكثير، ولم يصل إلينا إلا النزر اليسير منها، والذي يبدو أن مصنفاته قد أحرقت وعبث بها، فإنه قال في مقدمة أحد مصنفاته ٤: (إني لما عدمت كتبي فيما جرى به
_________
١ انظر ترجمته ص ٢٢.
٢ الدر الكمين (ورقة ٥/ب) .
٣ التبر المسبوك ٣٦٣، الضوء اللامع ٣٠٩:٦.
٤ انظر مقدمة تكملته لكتاب (منازل السائرين) في فهارس مكتبة كوبريلي٢٨٢:١.
1 / 24
تمرلنك١ وحصل ما حصل من التفرقة والشتات..)، فيظهر من هذا أنها قد فقدت في حياته.
وبعد الاستقراء والتتبع والبحث وقفت على مصنفاته الآتية:
١. الآداب ٢.
٢. الرسالة في الفقه.
وهذا الكتاب يقع في (٨٦) ورقة، تشتمل على أحكام مختلفة في أصول الدين وفروعه، وهي محفوظة بمكتبة (كوبريلى) باستانبول بتركيا ٣.
ولم ينسب هذه الرسالة له أحد ممن ترجم له، سوى ما اطلعت عليه في فهارس المكتبة المذكورة.
٣. سفينة الأبرار الجامعة للآثار والأخبار في المواعظ وهي في ثلاثة مجلدات٤.
_________
(١) للاستزادة من أخبار الطاغية (تمرلنك) الذي عاث في الأرض فسادًا. انظر: شذرات الذهب ٦٢:٧.
(٢) الضوء اللامع ٣٠٩:٦، المنهج الأحمد (٢/١٤٣/ب) الدر المنضد (١٨٥/ب)، شذرات الذهب ٢٨٦:٧)، الأعلام ٣٣٢:٥.
(٣) فهارس مخطوطات مكتبة كوبريلى ٢٨١:١.
(٤) الدر الكمين (٥/ب)، التبر المسبوك٣٦٣، الضوء اللامع ٣٠٩:٦، الجوهر المنضد ١٤٦، الدر المنضد (١٨٥/ب) المنهج الأحمد (٢/١٤٣/ب) كشف الظنون ٢/٩٩٢، شذرات الذهب ٢٨٦:٧، السحب الوابلة ٣٤٥، هدية العارفين ١٩٩:٢، الأعلام ٣٣٢:٥، معجم المؤلفين ٢٦٥:٨، مصطلحات الفقه الحنبلي ٢٠١، مفاتيح الفقه الحنبلي ١٦٩:٢.
1 / 25
وتوجد نسخة من هذا الكتاب في دار الكتب المصرية بالقاهرة ١.
٤. شرح ملحة الإعراب في النحو٢، وملحة الإعراب منظومة في النحو نظمها أبو محمد القاسم بن علي الحريري المتوفي سنة (٥١٦هـ) ٣.
وتوجد نسخة من شرح المصنف في دار الكتب المصرية ٤.
٥. قوت النفس في معرفة الأركان الخمس.
وتوجد نسخة من هذا الكتاب في مكتبة كوبريلى بتركيا، ويقع في خمس وعشرين ورقة ٥.
٦. كشف الغمة بتيسير الخلع لهذه الأمة ٦.
وتوجد نسخة منه في مكتبة كوبريلى بتركيا، ويقع في ست عشرة
_________
(١) ملحق الجزء الأول من فهرس دار الكتب المصرية ٤٣:١، تاريخ التراث العربي لبروكلمان ٢٢٥:٢.
(٢) الدر الكمين: لابن فهد (٥/ب) .
(٣) كشف الظنون ١٨١٧:٢، الأعلام ١٧٧:٥.
(٤) فهرس دار الكتب المصرية ٧٣:٣.
(٥) فهرس مخطوطات مكتبة كوبريلى ٢٨٢:١.
(٦) الدر الكمين (٥/ب)، التبر المسبوك ٣٦٣، الضوء اللامع ٣٠٩:٦، الدر المنضد (١٨٥/ب)، المنهج الأحمد (٢/١٤٣/ب)، كشف الظنون١٤٩٢:٢، شذرات الذهب ٢٨٦:٧، السحب الوابلة ٣٤٥، هدية العارفين ١٩٩:٢، معجم المؤلفين ٢٦٥:٨، مصطلحات الفقه الحنبلي ٢٠١، مفاتيح الفقه الحنبلي ١٦٩:٢.
1 / 26
ورقة، وهو يشتمل على أقوال العلماء المتعلقة بمسائل الخلع ١.
٧- المسائل المهمة فيما يحتاج إليه العاقد عند الخطوب المدلهمة.
وهو كتابنا هذا وسيأتي الكلام عنه بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
٨- أكمل كتاب (منازل السائرين) وهذا الكتاب لمؤلفه: عبد الله ابن محمد بن علي الأنصاري الحنبلي المتوفي سنة (٤٨١هـ) ٢.
وقد قال المصنف ﵀ في مقدمة إكماله لهذا الكتاب:.. إني رأيت أوراقا قليلة جمعت فوائد جليلة من كلام الشيخ العلامة صاحب (منازل السائرين) لكني وجدتها مخرومة ورقة من أولها فشرعت في تكميلها.. ويقع هذا الكتاب في خمس عشرة ورقة ٣.
٩- المنتخب الشافي من كتاب الوافي٤.
اختصر فيه كتاب الكافي في الفقه، لموفق الدين ابن قدامة الحنبلي.
_________
(١) فهرس مخطوطات مكتبة كوبريلى ٢٨٢:١.
(٢) كشف الظنون ١٨٢٨:٢، الأعلام ١٢٢:٤.
(٣) فهرس مخطوطات مكتبة كوبريلى ٢٨٢:١.
(٤) الدر الكمين (٥/ب)، التبر المسبوك ٣٦٣، الضوء اللامع ٣٠٩:٦، الدر المنضد (١٨٥/ب)، المنهج الأحمد (٢/١٤٣/ب) شذرات الذهب ٢٨٦:٧، السحب الوابلة ٣٤٥، إيضاح المكنون٣٩:٢، الأعلام ٣٣٣:٥، معجم المؤلفين ٢٦٥:٨، مصطلحات الفقه الحنبلي ٢٠١، مفاتيح الفقه الحنبلي ١٦٩:٢.
1 / 27
تاسعًا: وفاته:
بعد حياة حافلة بالعلم والتعلم والتدريس والفتوى والخطابة والوعظ والقضاء والتصنيف، توفي قاضي مكة، العلامة شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي الحنبلي، وكانت وفاته بمكة المكرمة ليلة الخميس الرابع عشر من شهر صفر سنة خمس وخمسين وثمانمائة للهجرة، عن أربع وثمانين سنة، وصلَّي عليه عند باب الكعبة بعد صلاة الصبح، ودفن بمقبرة المٌعلاة بمكة وخلف دنيًا ولا وارث له، رحمنا الله وإياه١.
عاشرًا: ثناء العلماء عليه:
السيرة الحسنة والطريقة المثلى القويمة التي يتصف بها الإنسان بها في حياته، هي التي تبقى له بعد وفاته، فإذا جمع مع ذلك كله صفة العلم التي يطمح كل إنسان لأن يتصف بها، يكون بذلك قد استوفى الصفات التي يستحق ثناء الناس عليه بها، لاسيما إذا جاءت الشهادة له بالثناء من العلماء المشهورين والموثوقين.
والقاضي شمس الدين الحنبلي جمع كل تلك الصفات من التفقه في الدين والعلم الغزير، والعدل في القضاء، والسيرة الحسنة، فاستحق بذلك ثناء معاصريه ومن جاء بعدهم له بالثناء الحسن.
فقال عنه ابن فهد: وسار في القضاء سيرة حسنة بعفة ونزاهة، وتواضع وحسن خلق، وكان إمامًا عالما دينا خيرًا ساكنًا منجمعًا عن
_________
(١) المصادر السابقة.
1 / 28