فأدركت أنه مهما يكن من علم الإنسان أو أخلاقه فلا غنى له عن الوعي الثقافي المتضمن طبعا الوعي السياسي، وأنه مهما يكن من تفوقه وبراعته وفائدته؛ فلن يعتصر من ذاته إمكاناتها الإنسانية حتى ينظر إلى نفسه لا باعتباره جوهرا فردا مستقلا، ولكن باعتباره خلية لا تتحقق لها الحياة إلا بوجودها التعاوني في جسد البشرية الحي، لذلك بدا الدكتور سرور بجسمه القوي ووجهه الوسيم ومهارته العلمية الخارقة، بدا متدهورا مترنحا، لا لشيء إلا لأن يدا أخذت من فائض الذين يملكون كل شيء لتضميد جراح الملايين الجائعة، وشد ما جزعت عندما آنست في نبرته شماتة عقب هزيمة 5 يونيو 1967، عندما لم يحسن مداراة فرحته بما ظنه النجاة. وناقشت ذلك الموقف مع الصديق كامل رمزي فقال: لا تدهش ولا تجزع، الأفضل أن تعرف الحقيقة مهما تكن غريبة وقاسية، ثمة جانبان يتصارعان بلا هوادة يقف في أحدهما الروس والاشتراكيون العرب وطوائف الشعب التي وجدت في الاشتراكية جنتها الموعودة، ويقف في الآخر الأمريكان وإسرائيل والذين رأوا في الاشتراكية ردعا لطموحهم وجشعهم.
فسألته: والوطن والوطنية؟
فأجاب: تغير مفهوم الوطن ومضمونه، لم يعد أرضا ذات حدود معينة ولكنه بيئة روحية تحدها الآراء والمعتقدات!
سعاد وهبي
تلك الزميلة الجامعية التي عاشت في كليتنا عاما واحدا، ولكنها بهرت خيالنا عهدا طويلا، كانت الزميلات عام 1930 قلة لا يتجاوزن العشر عدا، وكان يغلب عليهن طابع الحريم، يحتشمن في الثياب، ويتجنبن الزينة، ويجلسن في الصف الأول من قاعة المحاضرات وحدهن كأنهن بحجرة الحريم بالترام. لا نتبادل تحية ولا كلمة وإذا دعت ضرورة إلى طرح سؤال أو استعارة كراسة، تم ذلك في حذر وحياء، ولا يمر بسلام فسرعان ما يجذب الأنظار، ويستثير القيل والقال، ويشن حملة من التعليقات. في ذلك الجو المتزمت المكبوت تألقت سعاد وهبي كأنها نجم هبط علينا من الفضاء. كانت أجمل الفتيات وأطولهن وأحظاهن بنضج الجسد الأنثوي، ولم تقنع بذلك فلونت بخفة الوجنتين والشفتين، وضيقت الفستان حتى نطق، وتبخترت في مشيتها إذا مشت، وكانت تتعمد أن تدخل القاعة متأخرة بعد أن نستقر في مجالسنا ويتهيأ الأستاذ لإلقاء محاضرته، ثم تهرول كالمعتذرة فيرتج ثدياها النافران فتشتعل الفتنة في الصفوف، وتند عنها همهمات كطنين النحل. وعرف اسمها وجرى على كل لسان، ونحتت له الأوصاف الأسماء فهي «أبلة سعاد» و«كلية سعاد» و«بانت سعاد». وكانت بخلاف زميلاتها غاية في الجرأة، تواجهنا بثقة لا حد لها، ولا تخفي إعجابها بنفسها، وتناقش الأساتذة بصوت يسمعه الجميع، وبالجملة تحدت الزمان والمكان، وقال محمود درويش: إنها غانية لا طالبة.
وقال لي مرة جعفر خليل: ترى كيف كانت وهي تلميذة مراهقة بالمدرسة الثانوية؟ فاتنا نصف عمرنا.
فقلت: لم تلتحق بالكلية إلا لاصطياد عريس! - أو عشيق!
وجرت عنها الأخبار لا أدري إن كان مصدرها الواقع أم الخيال. - إنها من حي اليهود بالظاهر، ولدت وترعرعت في جو من الحرية الجنسية المطلقة! - وأسرتها منحلة، الأب والأم والأخوات.
وهي امرأة لا عذراء مجربة للسهر والسكر والعربدة!
وتشجع جعفر خليل بذلك فحاول أن ينشئ معها علاقة، ولكنه صد ولم يفلح، وصد غيره ولم يفلح، ومع ذلك فلم تضن بصداقتها على طالب إذا التزم بحدود الأدب، وطبقت شهرتها الآفاق الجامعية، فجاء طلبة من كلية الحقوق للمشاهدة والمعاينة، وكانت في الأدب الإنجليزي تتلو أحيانا ما تيسر من مسرحية عطيل فتلقيه إلقاء مسرحيا ناعما يسحر الألباب، فحتى الأستاذ الإنجليزي أعجب بها، وعاملها معاملة ودية خاصة، وأخذ الطلبة الوقورون - الريفيون خاصة - يناقشون الظاهرة السعادية ويتساءلون عن عواقبها الوخيمة، وسرت عدوى اهتمامهم إلى الدكتور إبراهيم عقل الذي يفرض بقامته المديدة رعاية أبوية على الطلبة والمثل العليا معا. وانتهز فرصة اضطراب قاعة المحاضرات لارتجاج الثديين النافرين، وجعل يسلط سحر عينيه الزرقاوين على الجميع حتى ثابوا إلى الرشد والسكينة، ثم قال: يجب أن يوجد فرق هائل بين قاعة المحاضرات بجامعتنا وبين صالة بديعة!
Page inconnue