فضحك باستهتار كعادته وقال: ورغم ذلك سمعت أنها مخطوبة وستتزوج في هذا العام!
ومرت أعوام كثيرة لم أر فيها ثريا، ولم أسمع عنها حتى ذهبت لزيارة الأستاذ سالم جبر عقب النكسة، فوجدت ثريا ضمن آخرين مجتمعين به في مكتبه، كنت في تلك الأيام ألتمس مجامع الزملاء والأصدقاء كما يلتمس المحترق مادة - غطاء أو ترابا أو ماء - ليطفئ به النار المشتعلة في ملابسه. وجدت عند الأستاذ سالم جبر نفرا من الزملاء مثل جاد أبو العلا، ورضا حمادة، وعزمي شاكر، وكامل رمزي، وسيدة وقورا فوق الخمسين عرفت فيها ثريا رأفت، ألقيت تحية عامة وجلست فلم تلمس يدي يدها ولكني شعرت بأنها تذكرتني كما تذكرتها، وكان الحديث يدور حول النكسة، تحديد أبعادها، تحليل أسبابها، واستقراء الغيب عنها، ومضى الزملاء في الانصراف ثم قامت ثريا فصافحت الأستاذ سالم وهي تقول: موعدنا يوم الاثنين.
فأكد لها الموعد، وهو يوصلها حتى الباب، ثم رجع إلى مكتبه وهو يقول: جاءت تدعوني إلى مناقشة وطنية بنقابة المعلمين.
فسألته متجاهلا: من هي؟ - الدكتورة ثريا رأفت، مفتشة كبيرة بالتربية.
ثم استطرد بعد قليل: زوجها من رجال العلم النادرين المكرسين حياتهم للبحث، أما هي فمن وجوه نهضتنا النسائية؛ امرأة تستحق أن يفخر بها جنسها، وأن يفخر بها الوطن.
ثم قال: يندر أن تجد امرأة في قوة شخصيتها وعلمها وخلقها.
تذكرت عيد منصور، تذكرت ضعفي وانهزامي، تذكرت نفرا من أصدقاء الصبا مثل خليل زكي، وسيد شعير، تذكرت أحمد قدري قريبي الذي لم أره منذ دهور، تذكرت عشرات وعشرات ممن تلاطمت معهم في مجرى الحياة، برزت وجوههم وسط هالة من غبار متعفن كما تبرز الحشرات في أعقاب انهيار بيت آيل للسقوط.
جاد أبو العلا
هو موجود وهو غير موجود.
ويرجع تاريخ معرفتي الشخصية به إلى عام 1960. تلفن لي في مكتبي طالبا مقابلتي؛ فرحبت به متأثرا بما يتمتع به اسمه من شهرة في دنيا الأدب، كان قد أصدر خمس روايات وربما أكثر، وكانت الإعلانات عن رواياته تلفت النظر لكبر المساحة التي تشغلها في الصفحات الأولى من الصحف، ويتبع نشر الرواية سلسلة من المقالات النقدية في الصحف والمجلات الأدبية، مغرقة في التقدير والثناء، وقد ترجمت رواياته جميعا إلى الإنجليزية والفرنسية، كما ترجم ما كتب عنها في الخارج إلى صحفنا، وهي تشيد بأعماله إشادة لا تتحقق إلا لكاتب ذي خطر وشأن. وتبعا لذلك قرأت له أكثر من رواية، ولكنني لم أستطع أن أتم واحدة، ولم أجد ضرورة لقراءة ما قرأت منها بعناية أو اهتمام، وأدهشني أنني لم أجد عنده موهبة تذكر، ولا على المستوى المحلي، وجميع أعماله تحولت إلى مسلسلات إذاعية وأفلام سينمائية، فلم تحقق أي نجاح، ولكنها كانت تشق طريقها بكبرياء كأنها درر.
Page inconnue