رجعت وفي أعماقي شعور بالتحرر والنجاة والندم، ثم اجتاحني حزن عميق. وظل إحساس حاد بالرثاء يطاردني نحو زميلي القديم عبده البسيوني وزوجه أماني محمد، وتوقعت أن يتصل بي ولكنه لم يفعل، وأردت أن أتصل بها لأطمئن عليها، ولكني لم أجد فرصة ولا وسيلة، والتقيت بعد ذلك بأزمنة متفاوتة وفي أماكن مختلفة بعبده البسيوني، فأشعرني سلوكه بأنه يتقدم في طريقه المرسوم بإرادته الكادحة. وفي 1968 أو 1969 وكنت سائرا بشارع رمسيس أمام مبنى التليفون وجدت أماني مقبلة نحوي على بعد خطوات! وبحركة عفوية مددت يدي فصافحتني بلهوجة وارتباك أشعراني بتسرعي وخطئي، وهمست معتذرا: إن شاء الله تكونين بخير!
فأجابت وهي تمضي: الحمد لله.
تبدت مفرطة في البدانة والرزانة، غير أن ارتباكها أقنعني بأنها تعاني مسئولية السيدة المتزمتة إذا ورطتها ظروف خارجة عن الإرادة في مصافحة رجل «غريب».
أنور الحلواني
اسمه قادر على استدعاء عالم متكامل بأسره. ميدان بيت القاضي المتربع بين الجمالية وخان جعفر والنحاسين، وأشجار البلح المثقلة بأعشاش العصافير، وقسم الجمالية العتيق، وحوض الماء القائم في الوسط تسقى منه البغال والحمير، وكشك حنفية المياه العمومية، وهو ملعب طفولتي وصباي، وكنت أتطلع باهتمام إلى أنور الحلواني في ذهابه من بيته الملاصق لبيتنا أو في إيابه إليه. لم يكن شابا عاديا، كان من رواد المتعلمين الأوائل في الحي، كان طالبا بمدرسة الحقوق، وربما كنت معجبا بطربوشه المفرط في الطول، وشاربه الغزير المبروم، وبذلته الأنيقة، وكان يسير في رزانة لا تناسب سنه فكان يحلو لي أن أقلده ما تيسر لي ذلك، وكنت أتذكر جيدا الشربات الذي شربته احتفالا بنجاحه في البكالوريا، قدمته لي أمه بيدها، وهي امرأة من أصل ريفي كان يحلو لي أيضا أن أقلد لهجتها، والظاهر أن أحداثا كانت تجري في خفاء من حولي، وأنا ألعب تحت أشجار البلح.
استيقظت ذات صباح على صوات يترامى من بيت جيراننا. وحدث اضطراب شامل في بيتنا فجعلت أتمسح من المضطربين والمضطربات مستطلعا، وعرفت في ذلك الصباح أن جارنا الشاب أنور الحلواني قد قتل برصاصة في مظاهرة، بيد جندي إنجليزي، عرفت لأول مرة فعل «القتل» في تجربة حية لا في حكاية من الحكايات الشعبية، وسمعت لأول مرة عن «الرصاصة» في أول اتصال سمعي بإحدى منجزات الحضارة، وثمة لفظة جديدة أيضا «مظاهرة» استدعت الكثير من الشرح والتفسير، وربما لأول مرة سمعت عن ممثل جنس بشري جديد في حياتي الصغيرة هو «الإنجليزي». وتطايرت الأحاديث في البيت وفي الميدان مكررة لتلك الكلمات ومضيفة إليها غيرها مثل الثورة والشعب وسعد زغلول. انهمرت علي الكلمات حتى أغرقتني وانطلقت مني الأسئلة بلا حساب وبإلحاح شديد، قتل .. ما معنى قتل؟ وأين ذهب أنور؟ وماذا ينتظره في العالم الذي ذهب إليه؟ ومن الإنجليزي؟ ولم قتله؟ وما معنى الثورة؟ وما معنى سعد زغلول؟ وما وما وما؟ وما لبثت الأحداث أن تدافعت إلى الميدان نفسه في جنون خيالي.
قبعت وراء شيش النافذة أنظر بعينين محملقتين إلى جموع البشر المتدفقة من ذوي البدل والجبب والقفاطين والجلاليب، حتى النساء في الحناطير والكارو، يحملون الأعلام ويهتفون، وسمعت أزيز الرصاص ، أجل لأول مرة أسمعه، ينطلق من اللوريات ومن فوق صهوات الخيل، ورأيت الإنجليز رؤية العين بقبعاتهم العالية وشواربهم النافرة ووجوههم الغريبة، ورأيت الجثث بالعشرات مطروحة في جوانب الميدان، ورأيت الدم البشري يلطخ الملابس وأديم الأرض، وسمعت الحناجر وهي تهتف من الأعماق «يحيا الوطن»، و«نموت ويحيا سعد».
بدر الزيادي
كان زميلا بالمدرسة الثانوية، وكان بدينا خفيف الروح، يحب الطعام واللعب والبنات ويحب الوطن، وكان أبوه ضابط المدرسة، عاصرناه عامين، ثم اتهم في ظروف لا أذكرها بالعيب في الذات الملكية فقدم إلى المحاكمة التي أدانته وحكمت عليه بالحبس ستة أشهر مع وقف التنفيذ، ولكنه فصل من وظيفته، وكان بدر يفاخر بشجاعة أبيه ووطنيته فجاريناه في ذلك؛ إذ كان العيب في الذات الملكية يعد درجة لا بأس بها من درجات الجهاد يضمن لصاحبه موضعا في صفحة المجاهدين، وكان بدر تلميذا عاديا في الفصل، بل خاملا، أما مجده الحقيقي فكان يتألق في فناء المدرسة. في فناء المدرسة كان قطبا ينجذب إليه بعض تلاميذ فصله، وتلاميذ من الفصول الأخرى، وعندما يجد نفسه محورا تتحرك مواهبه ويجيش صدره بالعطاء، فيلقي بعض الأزجال الوطنية، ويحكي النوادر اللطيفة، أو يتصدى لتحديات غريبة، سألنا مرة عن أوفق الأماكن لممارسة الحب، فأجاب كل بما خطر له، ولكنه جعل يهز رأسه ساخرا حتى نضب معين خواطرنا، ثم أجاب هو قائلا: القرافة!
ودهشنا، وضحكنا مما ظنناه مزاحا فعاد يقول: في المواسم يبيت الناس في أحواش المقابر، نساء ورجالا، والنساء يكن عادة أضعاف أضعاف الرجال، وفي ظلام الليل تسنح فرص لا تخطر على بال.
Page inconnue