فقال بصراحته المعهودة: كنت وفديا، وعطفي على الوفد عاش طويلا في نفسي حتى بعد نضوب إيماني به.
وحملق في وجهي بعينيه البراقتين وقال: قل في الوفد ما شئت، ولكن لا تنس أنه كان حزبا شعبيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وأنه كان يغير سياسته أحيانا إذعانا لمشيئة التلاميذ بالمدارس الثانوية!
ثم حدثني عن أحداث عام 1935، وكيف ناقش مصطفى النحاس ضمن وفد من الطلبة، وكيف احتدت المناقشة بين الطرفين، وكيف عدل الوفد عن تأييد وزارة توفيق نسيم، فأعلن الثورة على لسان مكرم عبيد، وكيف سالت الدماء عقب ذلك بأقل من ساعة!
ولم يعمر كامل رمزي - كما تنبأ عزمي شاكر - في وظيفته طويلا، باشرها عاما واحدا حتى ضج جميع أهل الأرض من صلابته ونزاهته، وإذا بجرائد الصباح تنشر خبر نقله إلى مؤسسة صحفية.
ومن عجب أن عمت الشماتة به أكثرية الناس، ولم أدهش لذلك كثيرا، وذكرت في الحال مأساة الأستاذ طنطاوي إسماعيل رئيس السكرتارية القديم، كما ذكرت الدكتور سرور عبد الباقي، وقلت لنفسي إن أمثال أولئك الرجال يغلقون الأبواب في وجوه الوصوليين والانتهازيين وما أكثرهم، كما إنهم بقوة أخلاقهم يفضحون الضعفاء أمام أنفسهم فيمتلئون حقدا عليهم، لذلك لم أسمع رثاء له إلا بين خاصة أصدقائه، وأما هو فقد غضب وفاضت نفسه مرارة وخيل إليه أن نواميس الطبيعة تقلقلت وشذت عن مداراتها، ولكن ذلك لم يمنعه من مزاولة عمله الجديد بنفس الهمة والنزاهة والقوة السابقة، بل إنه وجد فراغا لم يكن يجده فاستأنف نشاطه العلمي، وشرع في وضع قاموسه السياسي، وكان وما زال شعلة من النشاط المتواصل، ونورا يطارد ظلمات اليأس.
كاميليا زهران
يوم أقبلت علينا في السكرتارية بفستانها الأنيق، وشعرها الأسود المقصوص المطوق لرأسها تذكرت عبدة سليمان، ولكن ما أبعد المسافة بين عام 1944 وعام 1965! اختفت الوجوه القديمة مثل طنطاوي إسماعيل، وعباس فوزي، وعدلي المؤذن، وعبد الرحمن شعبان، وعم صقر. اجتاحت السكرتارية موجة من الشباب نصفها من الجنس اللطيف، وها هي كاميليا زهران تنضم إلينا كأحدث قطفة من تلك الأزهار، وكنا ألفنا وجودهن بيننا، كما ألفنا الشائعات التي تلاحقهن في الفترة الحرجة التي تسبق الزواج، وأكثرهن تزوجن من شبان خارج وزارتنا عدا واحدة تزوجت من زميل في الإدارة القانونية، ولم تهجر واحدة منهن العمل بسبب الزواج.
وكاميليا زهران حقوقية في الثالثة والعشرين، وقد استقبلت عملها بامتعاض لإلحاقها بعمل كتابي بعد دراسة قانونية توشك أن تذهب هباء، وسرني أن أطالع في عينيها نظرة مستقيمة وجريئة جاوزت بشكل ملموس نظرة الحريم المستكينة الخاملة، ومع ذلك شعرت بطريقة ما بعمق تجربتها في الحياة، وأنها لا تكاد تختلف في أمر جوهري من هذه الناحية عن زميلها الجالس إلى جانبها. وسرعان ما رفع الحجاب الكلفة بينها وبين الزملاء، ولكنه لم يجاوز حدود الأدب التقليدية، شأن من تنظر إلى المستقبل بحكمة وتعمل حسابا للعقد الشرقية التي يحملها الزملاء من أسلافهم في البيوت.
وعقب الإجازات الصيفية حدثني زميل قديم نسبيا في الإدارة فقال: لعلك لا تدري أن كاميليا زهران راقصة بارعة؟
فسألته بدهشة: راقصة؟! - رأيتها في هانوفيل تراقص شابا وكانت مندمجة في الرقص بنشوة كأنها نغمة.
Page inconnue