ومن حول هذه المدن أو القرى كانت البوادي بما فيها من شظف العيش وقسوة الحياة والتنقل في التماس المراعي، والخصومات المتصلة التي تثيرها العصبية بين القبائل، والتي تنتج عنها الغارات والحروب. ومع ذلك فلم يستطع أهل هذه المدن أو القرى أن يبرءوا من العصبية، ولا أن يعيشوا عيشة المتحضرين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما كانت العصبية قوام حياتهم، يعيشون عيشة القبائل في البادية، وقد تثار بينهم الخصومات، وقد تشب بينهم الحروب.
وكان هذا كله يستتبع كثيرا من جفاء الأخلاق وغلظ القلوب، بحيث لم تكن حياة أهل القرى تمتاز من حياة أهل البادية إلا بشيء من ثراء كانت تستأثر به قلة من الأغنياء، الذين يتسلطون على من يعيش معهم من الناس تسلطا لا يخلو من عسف وظلم وأثرة واستعلاء. وكانت اليهودية قد استقرت في شمال الحجاز لأسباب لا نحققها ولا يبينها التاريخ؛ فإلى جانب الأوس والخزرج في يثرب كانت تعيش قبائل يهودية، وفي خيبر كذلك. وهذه القبائل اليهودية كانت تحيا نفس الحياة التي كان العرب يحيونها من حولها، قليل من حضارة وكثير من بداوة.
وكانت كثرة اليهود في الحجاز أمية كالعرب، لا يقرأ ولا يكتب منهم إلا أحبارهم. وكان هؤلاء الأحبار أقرب إلى الجهل منهم إلى العلم، وقليل منهم من كان يحسن العلم بدينه فكيف بسائر اليهود!
وسنرى فيما يأتي من هذا الحديث كيف صور القرآن الكريم جهل اليهود من أهل الحجاز دينهم وكتابهم. ولسنا نعلم على سبيل التحقيق متى وصلت بعض القبائل العربية إلى أطراف الشام وأطراف العراق.
ولكن المحقق أن العرب في ذلك العصر الذي نتحدث عنه كانوا قد جاوزوا الجزيرة العربية شمالا إلى الشام واستقروا في أطرافه، وأنهم كذلك كانوا قد جاوزوا جزيرة العرب شرقا إلى العراق وإلى الجزيرة. وغلبت النصرانية على أولئك وهؤلاء، ولكنها كانت نصرانية خاصة يجهل أصحابها حقائقها ولا يكادون يعرفون منها إلا مظاهر وصورا.
وكما أن الإمبراطورية البيزنطية قد حمت هؤلاء العرب في الشام واتخذت منهم حرسا للحدود بينها وبين الجزيرة العربية وجعلت منهم ملوكا وسادة، وأجزلت لهم العطاء ويسرت لهم سبل العيش؛ فكذلك صنعت الإمبراطورية الفارسية بالعرب الذين استقروا في العراق، اتخذتهم حرسا للحدود بينها وبين الجزيرة العربية وجعلت منهم ملوكا وسادة، وملكت بعضهم الأرض وأغدقت عليهم العطاء.
2
وإذن فقد عرف العرب النصرانية في الشام والعراق، وربما عرفوها في مكة أيضا وفي الطائف بفضل التجارة من جهة، وبفضل من كان يصل إليهم من الرقيق من جهة ثانية، وبفضل بعض التجار الذين غامروا بأنفسهم وبتجارتهم فوصلوا إلى مكة واستقروا فيها، وكذلك عرف العرب المسيحية في الجنوب في مدينة نجران التي اضطهد المسيحيون من أهلها وعذبوا في دينهم كما يحدثنا المؤرخون، وعرف العرب اليهودية في جنوب الجزيرة وشمالها.
فليس صحيحا إذن أن الأمة العربية في ذلك العصر كانت تعيش في عزلة لا تعرف من أمر الأمم المجاورة لها شيئا؛ فاليهودية والمسيحية لم تتنزلا على أهل الجنوب ولا على أهل الشمال من السماء، وإنما جاءتا أولئك وهؤلاء من الاتصال بالأمم المتحضرة المجاورة.
وليس من شك في أن بعض العرب الذين جاوروا الفرس وخضعوا لسلطانهم خضوعا ما قد عرفوا المجوسية الفارسية واتخذوها لهم دينا. وقد يقال إن أهل البادية في نجد وتهامة والحجاز كانوا بمعزل من هذا كله، قد انقطعوا لأنفسهم وفرغوا لحياتهم تلك الغليظة القاسية، ولكن هذا أيضا لا يستقيم؛ فمن عرب البادية والقرى ظهر شعراء كانوا يلمون بعرب الشام وعرب العراق ويأخذون جوائز ملوكهم وسادتهم، ويعودون بعد ذلك إلى قومهم في البادية فيحدثونهم بما رأوا وما سمعوا.
Page inconnue