وعذبوا «بلالا» أشد العذاب ونكلوا به أعظم التنكيل وجعلوه هزؤا للصبية والسفهاء، فلم يرفع عنه العذاب حتى اشتراه أبو بكر وكان رقيقا فأعتقه.
وعذبوا كثيرا غير هؤلاء - تجد أسماءهم في كتب السيرة - ألوانا من العذاب وفتنوهم ضروبا من الفتنة، مكثوا على ذلك أعواما لا يرقبون في هؤلاء المستضعفين عهدا ولا ذمة ولا تعطفهم عليهم رحمة.
وكان موقف قريش من المسلمين مختلفا، فأما ضعفاؤهم وفقراؤهم فكانوا يصبون عليهم العذاب صبا لا يخافون في تعذيبهم لوما ولا إنكارا، وأما أولو الشرف منهم الذين يأوون من قومهم إلى ركن شديد فكانوا يؤذونهم بألسنتهم ويؤذونهم بالقطيعة ويغرون قومهم أن يشتدوا عليهم، ويفتنوهم عن دينهم ما استطاعوا إلى فتنتهم سبيلا. ولكنهم على ذلك لم يبلغوا منهم شيئا ولم يصدوهم عن دينهم وإنما وجدوا منهم صبرا وجلدا واحتمالا، ووجدوا من بعضهم مقاومة وتحديا وردا عنيفا، كالذي كانوا يجدونه من عمر بن الخطاب ومن حمزة بن عبد المطلب.
وكذلك مضى الأمر بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه القليلين وبين قريش ذات العدد والقوة والثراء، لا يهن النبي ولا يضعف ولا يستخفى بدعوته، وأصحابه منهم القوي الذي يجالد عن دينه ومنهم الضعيف الذي يلقى العذاب صابرا عليه. ومنهم الغريب الذي يستحب الأذى يراه قربة إلى الله، فيتصدى لمجالس قريش ويعلن إليهم إسلامه ويحتمل منهم إيذاءهم له، كالذي كان من «أبي ذر» حين أسلم وهو غريب في مكة، فلم يرضه إلا أن يغيظ قريشا ويتلقى منهم اللكز والوكز واللطم والصفع حتى يغشى عليه، يفعل ذلك مرة ومرة حتى يأمره النبي أن يعود إلى قومه ويظل بينهم حتى يأتيه أمره.
وقد علمت قريش أنها لن تبلغ من النبي شيئا بهذه الفتنة؛ فأزمعت أن تؤذي بني هاشم كلهم، على أنهم لم يكونوا قد أسلموا جميعا ولكنهم أولو عصبية النبي ورهطه الأدنون. فأجمعوا ألا يبايعوهم وألا يصهروا إليهم وألا يزوجوهم وألا تكون بينهم وبين بني هاشم معاملة ما. واضطر بنو هاشم إلى شعبهم يعيشون فيه عيشة المحاصرين لا يكلمهم أحد ولا يعاملهم أحد، ولا تصل أرزاقهم إليهم إلا بعد المشقة الشاقة والعسر العسير.
وكتبت قريش بهذه المقاطعة صحيفة جعلتها عهدا بين أحيائها حتى يخلع بنو هاشم محمدا ويسلموه إليها، ولكن بني هاشم صبروا على الحصار، واحتملوا الجهد والمشقة والعناء إيثارا لأحسابهم. ومكثوا على ذلك عاما وعاما وعاما حتى شق ذلك على الذين يحاصرونهم أنفسهم وسعى بعضهم إلى بعض في إلغاء هذا العهد الآثم، وجعل أفراد منهم ترق قلوبهم لإخوانهم هؤلاء الذين يحاصرون ظلما فيجتهدون في أن يوصلوا إليهم أرزاقهم يستخفون بذلك من قومهم.
وإنهم لفي ذلك وإذا أبو طالب يغدو على قريش ذات يوم فيحدثهم - فيما يقول أصحاب السيرة - بأن ابن أخيه قد زعم له أن صحيفتهم تلك التي كتبوها بينهم وأودعوها جوف الكعبة قد أدركها البلى وعدت عليها الأرضة فلم تبق فيها مما كتبوا إلا اسم الله الذي ذكروه في أولها. قال أبو طالب: فانظروا يا معشر قريش إلى صحيفتكم تلك، فإن وجدتموها كما ذكر ابن أخي كان هذا إيذانا لكم بأنكم تعتدون على فريق من قومكم بغير الحق، وتظلمونهم ظلما منكرا، وبأن قد آن لكم أن ترفعوا هذا الظلم وتكفوا عن ذلك العدوان وتثوبوا إلى المعدلة بينكم وبين إخوانكم، وإن وجدتم صحيفتكم تلك كهيئتها يوم كتبتموها ووضعتموها في جوف الكعبة أسلمنا إليكم محمدا تصنعون به ما تشاءون.
فتسارع الذين رقت قلوبهم لبني هاشم يقولون: يا معشر قريش، لقد أنصفكم أبو طالب وأعطاكم الرضى فالتمسوا صحيفتكم تلك وانظروا؛ فإن كانت كما قال محمد فأجيبوا أبا طالب إلى رفع الظلم عن إخوانكم وإلا فقد آذنكم بأنه سيسلم إليكم ابن أخيه.
Page inconnue