وكأنه لزم داره واجتنب غار حراء منتظرا ما يكون من أمره بعد ما رأى وما سمع، فأوحى إليه:
يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر .
ومنذ ذلك الوقت ظهر له ما يراد به، فلم يكن ما جاءه في الغار إلا إيذانا له بأن مهمة ثقيلة خطيرة قد ألقيت على عاتقه، وأن عليه أن يؤديها صبورا جلدا محتملا في سبيل أدائها ما قد يعرض له من العنت والمشقة والأذى، وهو على كل حال مكلف أمرين ليس أحدهما بأقل خطرا من الآخر؛ فأما أولهما: فهو أن يجاهد نفسه ويأخذها راضية أو كارهة بما سيدعو الناس إليه من تكبير الله بالقلوب والألسنة، ومن التطهير من كل دنس ظاهر أو خفي، ومن هجر الرجز واجتناب المن واستكثار ما يأتي من طاعة الله والاجتهاد في ذاته، ومن الصبر لربه على ما يبلوه به من ألوان البلاء، وعلى ما يكلفه حمله من ثقال الأعباء.
وأما ثانيهما: فهو أن ينذر الناس بأن حياتهم التي يحيونها ليست كما يظنون لهوا ولعبا واستمتاعا بما يتاح لهم من اللذات واحتمالا لما يعرض لهم من الآلام والمحن والخطوب، إنما هي شيء وراءه أشياء وله ما بعده. فليس لهم بد إذن من أن يحتاطوا لما وراء حياتهم من الأمر، ومن أن يأخذوا له أهبتهم ويتزودوا بما ينبغي من الزاد.
12
وقد تجرد النبي
صلى الله عليه وسلم
لأداء ما كلف به من مهمة، وما حمل من أمانة، فأخذ نفسه بأشد ما يأخذ الرجل به من الجهد والمشقة في ذات الله، وأنفذ أمر الله في نفسه فيما اختصه به من التكاليف كما أنفذ أمر الله في كل ما كلف أن يأمر الناس به، وقد بدأ بأهله وذوي قرباه فأنذرهم وبشرهم واستجاب له منهم من استجاب وأبى عليه من أبى. ثم أمر بتعميم دعوته فأنذر قومه وبشرهم ودعاهم إلى الإيمان والبر والمعروف؛ فلم يستجب له منهم إلا أقلهم، وامتنع عليه أكثرهم، ثم لم يكتفوا بالامتناع بل لم يلبثوا أن ضاقوا به وبدعوته وجعلوا يردونه ردا رفيقا أحيانا ويردونه ردا عنيفا في أكثر الأحيان. ثم تألبوا عليه وجعلوا يؤذونه في نفسه وفيمن تبعه من الناس بأيديهم وألسنتهم. ثم أصبحت الحياة بينه وبين قومه جهادا متصلا عنيفا أشد العنف وأقواه. ولكنه صبر لهذا الجهاد كما أمر أن يصبر واحتمل فيه من ألوان المشقة ما ينوء بالرجال أولي العزم كما أمر أن يحتمل، وجعل يصبر أصحابه ويهون عليهم ما كانوا يلقون، وما أكثر ما كانوا يلقون من ضروب الفتنة والعذاب!
وفي أثناء ذلك كان الوحي يتنزل عليه من السماء، فيعلن كل ما يوحي إليه به يتلوه على من آمن معه وعلى من لم يؤمن؛ فهو مكلف أن يبلغ رسالات ربه، وهو يبلغها أمينا عليها مجتهدا في تبليغها يبشر وينذر، ويرغب ويرهب، ويجادل المخاصمين ويقرع حجتهم بحجة الله لا وانيا ولا مستأنيا ولا مقصرا.
وقد هابت قريش أن تؤذيه إيذاء ثقيلا أو أن تخرجه من وطنه أو أن تقتله مخافة أن يغضب له قومه من بني عبد مناف فيفسد عليها أمرها كله. فجعل حلماء قريش يصانعونه ويرفقون به؛ يعرضون عليه أن يملكوه عليهم إن كان يفعل ما يفعل ابتغاء الملك، ويعرضون عليه أن يعطوه صفو أموالهم إن كان يفعل ما يفعل ابتغاء الغنى، ويعرضون عليه التماس الطب له إن كان له رئي من الجن يأتيه بهذا الكلام الذي يتلوه عليهم وبهذا الأمر الذي يدعوهم إليه. فلم يكن يجيبهم إلا بأن يتلو عليهم بعض ما كان ينزل عليه من القرآن.
Page inconnue