وكان الفقهاء والمحدثون الذين هم المأمون بقتلهم يقولون: لا إله إلا الله، فيعصمون بها دماءهم وأموالهم، ثم لم يكونوا يقولون هذه الكلمة بألسنتهم وإنما كانوا من صالحي المؤمنين وأصحاب الورع والزهد فيهم. ومن الخلفاء العباسيين من غلا في امتحان بعض الناس وأسرف في قتلهم. يأخذ بعضهم بالشبهة والوشاية وسوء القالة، كالذي صنع المهدي حين تتبع الزنادقة، فقتل منهم أفرادا لم يتثبت من كفرهم وإنما أخذهم بسوء القالة وسعي بعض الناس فيهم بالسوء. وغلا في ذلك حتى أمر بعض وزرائه أن يقتل ابنه بيده. وقال له: قم فتقرب إلى الله بدمه.
وكل هذا إسراف لم يأته النبي ولا نعرف أن خلفاءه الراشدين قاتلوا أو قتلوا المسلمين، إلا حين جاهروا بالخروج من الدين وأظهروا له العداوة ولم يعصموا دماءهم وأموالهم بالإسلام.
ولست في حاجة إلى أن أذكر زيادا، ذلك الذي أعلن في خطبته المشهورة أنه سيأخذ البريء بالمسيء والصحيح في دينه بالسقيم. ولا أذكر الحجاج الذي أسرف في القتل بغير الحق؛ فقد كان زياد والحجاج طاغيتين أطلق خلفاء بني أمية أيديهما وأيدي غيرهما من ولاة العراق في دماء الناس وأموالهم فأفسدوا وأمعنوا في الفساد.
وجملة القول أن الغلو في الرأي، حمل الناس على ما لا يؤمنون به، وأخذ الناس بالشبهة وقتلهم أو تعذيبهم بالظنة، كل هذه أشياء ينكرها الإسلام ويأباها أشد الإباء ويبرأ الله ورسوله منها. ولا يعمد إليها من حكام المسلمين إلا الذين يطيعون الهوى ويمتنعون على العقل ويخالفون عن القوانين الصريحة للدين.
وعن اختلاف الأحزاب واختصامها بالسيف أحيانا، وباللسان غالبا في القرن الأول وصدر من القرن الثاني، وعن اختلاف الفرق بعد ذلك ولجاجها في الخصومة، نشأت الدعوة السرية لبعض المذاهب السياسية، وكان هذا مصدر اضطرابات كثيرة زعزعت أحيانا مركز الخلافة في دمشق أولا، وفي بغداد بعد ذلك.
كانت قوة السلطة المركزية في العصر العباسي خاصة تمنع الناس من الجهر بآرائهم السياسية والنضال عنها، فلم يكن لهم بد من أن يسروا آراءهم، ويستخفوا بدعوتهم، ويدبروا ثوراتهم من وراء الحجب الصفاق. أضف إلى هذا أن الثقافة في العصر العباسي تجاوزت طبقة العلماء المتخصصين وطبقة الأغنياء الذين كانوا يستطيعون أن يأخذوا منها بحظوظ مختلفة، وتغلغلت في بعض طبقات الشعب؛ فلم يلبث الناس أن عرفوا حقوقهم، وشعروا بما كان يفرض عليهم من ظلم السلطان، واستئثار الأغنياء دونهم بطيبات الحياة، واستذلالهم للفقراء، واستغلال الأقوياء للضعفاء؛ فنشأت عن ذلك الدعوة إلى لون من الثورة، لم يخلص للسياسة ولم يخلص للدين أيضا، وإنما كان مطالبة بالحقوق الاجتماعية، وجهادا في سبيل تحقيق العدل وشيء من المساواة. فكانت ثورة الزنج في البصرة، تلك التي ثار فيها الرقيق بالسادة، والتي عرضت مركز الخلافة لخطر عظيم، واضطر أولو الأمر في بغداد إلى أن ينفقوا في مقاومتها جهدا مضنيا ومالا مبهظا، ولم يستطيعوا إخمادها إلا بعد حرب عنيفة شديدة العنف، طويلة مسرفة في الطول.
ولم تكد هذه الثورة تخمد حتى نشأت ثورة اجتماعية أخرى، كانت أشد منها خطرا وأعظم منها انتشارا، وهي ثورة القرامطة التي دعت إلى شيء من العدل والمساواة، يوشك أن يكون هدما للنظام الاجتماعي الذي كان قائما. وقد ملأت الدنيا شرا في العراق والشام وبلاد العرب، وكادت ترد كل شيء إلى الفوضى، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عمل الشيعة العلويون سرا وجهدوا واجتهدوا، وأتقنوا الكتمان والاستخفاء بدعوتهم، حتى أتيح لهم أن ينشئوا لحزبهم دولة في شمال أفريقيا، لم تلبث أن انتشرت وقوي أمرها، حتى سيطرت على مصر والشام وبلاد العرب.
ونظر المسلمون ذات يوم فإذا هم خاضعون لثلاثة من الخلفاء، أضعفهم الخليفة العباسي في بغداد، ذلك الذي لم يكن له من الحكم إلا ظاهره. وكان الخليفة الثاني في مصر، بعد أن أنشأ الفاطميون مدينة القاهرة واستقروا فيها، وكان الخليفة الثالث في قرطبة بالأندلس، حيث أوت سلالة الأمويين التي فرت حين نشأت الدولة العباسية في المشرق، فأنشأت دولتها في الأندلس ضعيفة أول الأمر قوية بعد ذلك.
وكانت هذه الدول الثلاث تتنافس أشد التنافس، ويبغض بعضها بعضا أعظم البغض، قد انقسم بنو هاشم إلى خلافة عباسية في بغداد وخلافة علوية في القاهرة، وقام بنو أمية في قرطبة يبغضون العباسيين والعلويين جميعا، وظهر بين علماء الأندلس رجل كابن حزم لم يتردد في الجهر بأن تعدد الخلفاء جائز لا بأس به. وقد رأيت من قبل أن الله أمر المسلمين أن يعتصموا بحبله جميعا ولا يتفرقوا.
فانظر إلى ما صار إليه اعتصامهم بحبل الله من الفرقة والانقسام، واستباحة الحرب بينهم، مع أن النبي والصالحين من أصحابه لم يكونوا يبغضون شيئا كما كانوا يبغضون الفرقة والانقسام، حتى روي عن النبي
Page inconnue