ثم أقبل الناس على علي رحمه الله فبايعوه، بايعه أكثرهم عن رضى، وبايعه بعضهم عن كره، وأبى معاوية في الشام أن يؤمن لهذه البيعة، وذهب فريق من أصحاب النبي إلى البصرة مغاضبين، على رأسهم أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وكلاهما من كبار الصحابة ومن رجال الشورى الذين اختارهم عثمان للخلافة، ومن العشرة الذين توفي النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو عنهم راض وبشرهم بالجنة. واعتزل فريق من المهاجرين والأنصار أمر الناس فلم يشاركوا في الفتنة، وكان منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر من أكابر قريش، وكان سعد من العشرة الذين بشروا بالجنة، وهو القائد المظفر الذي أبلى أحسن البلاء في فتح بلاد الفرس. وقد جيء به ليبايع عليا فأبى البيعة وقال لعلي: ما عليك مني من بأس. فأمر علي بتخليته وكفله هو. وجيء كذلك بعبد الله بن عمر فأبى أن يبايع فأمر علي بتخليته وقال له بين الجاد والمازح: ما علمتك إلا سيئ الخلق.
ولم تتم البيعة لعلي حتى نظر فإذا هو بين عدوين: أحدهما بالبصرة يرأسهم طلحة والزبير وعائشة، والآخر بالشام يرأسهم معاوية بن أبي سفيان. فلم ير بدا من أن يقاتل هذين الفريقين ليردهما إلى الطاعة ولتجتمع كلمة المسلمين بعد أن تفرقت؛ فيعودوا أمة واحدة كما كانوا أيام النبي وأيام الشيخين أبي بكر وعمر. ولا بد من الاعتراف هنا بأن عليا - رحمه الله - لم يبدأ بحرب قط إلا بعد أن دعا إلى الصلح ورغب فيه وألح في الدعوة وحاج مخاصميه حتى أظهر عليهم حجته وأثبت في وضوح لا لبس فيه أنه لم يشارك في قتل عثمان ولم يظاهر عليه، وإنما نصح له ما استطاع النصح، ورد الثائرين عن المدينة وكاد يحسم الفتنة لولا غدر بني أمية من بطانة الخليفة، وأنه كذلك حاول أن يعين عثمان وأن يحميه من الثائرين به والذين ظاهروهم عليه. ولكن خصوم علي كانوا حراصا على الحرب يظهرون المطالبة بدم عثمان ويطلبون أن يسلم إليهم علي من قتل عثمان أو شارك في قتله، وكان علي يأبى إلا أن ينفذ حكم الله على وجهه، فيخضع الناس قبل كل شيء لإمام واحد ثم يحتكمون إليه في قتل الخليفة المقتول، فيقيم حد الله كما ينبغي أن تقام الحدود، في ظل النظام والأمن لا في ظلمة الفتنة والانقسام.
وكذلك لم يجد علي بدا من الحرب بعد أن بذل الجهد كل الجهد في الإصلاح بينه وبين طلحة والزبير وعائشة ومن تابعهم من أهل البصرة، فكان يوم الجمل الذي عظمت فيه المحنة على المسلمين، وقد اقتنع الزبير بن العوام - رحمه الله - بخطئه فرجع عن الحرب، ولكنه قتل غيلة في طريقه إلى الحجاز.
ومضى طلحة في القتال حتى قتل غيلة هو الآخر أثناء الموقعة، رماه رجل من بني أمية هو مروان بن الحكم الذي أفسد على عثمان أمره كله فقتله.
ويقول الرواة: إن طلحة نقل من مصرعه ودمه ينزف، وهو يقول: اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى. فقد اعترف هو أيضا بخطئه قبل أن يموت، وثبتت عائشة في هودجها على جملها ذاك الذي قتل حوله من المسلمين عدد غير قليل، وكان من خيارهم محمد بن طلحة بن عبيد الله، قتل وهو آخذ بزمام الجمل، وقال قاتله:
وأشعث قوام بآيات ربه
قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
شققت له بالرمح جيب قميصه
Page inconnue