وكان عندنا فتى من النساك قد نزع إلينا من بلده، وكان مجاورا بمكة. فرأى الجارية يوما في أيام العرض لها، فوقعت في نفسه. وكان يجيء طول أيام العرض ينظر إليها وينصرف. فلما حجبت أحزنه ذلك وأمرضه مرضا شديدا، وجعل يذوب جسمه وينحل. واعتزل الناس، فكان يقاسي البلاء طول سنته إلى أيام الموسم، فإذا خرجت الجارية إلى العرض خرج [فنظر] إليها فسكن ما به، [حتى تحجب].
فبقي على ذلك سنين يذوب وينحل ويذبل، ولم أزل به ألح عليه، إلى أن حدثني بحديثه وما يقاسيه، وسأل أنه لا أذيع عليه ذلك، ولا يسمع به أحد.
فرحمته لما يقاسي وما صار إليه، فدخلت على مولى الجارية، ولم أزل أحدثه، إلى أن خرجت إليه بحديث الفتى [وما يقاسي]، وما صار إليه، وأنه [صار] على حالة الموت.
فقال: قم بنا إليه حتى أشاهده، وأنظر حاله.
فقمنا جميعا، فدخلنا عليه، فلما دخل مولى الجارية ورآه وشاهد ما هو عليه، لم يتمالك أن رجع إلى داره، فأخرج ثيابا حسنة سرية، وقال: أصلحوا فلانة، ولبسوها هذه الثياب، واصنعوا بها ما تصنعون بها أيام الموسم.
ففعلوا بها ذلك، فأخذ بيدها، وأخرجها إلى السوق، ونادى في الناس فاجتمعوا، فقال: معاشر الناس، اشهدوا أني قد وهبت جاريتي فلانة لهذا وما عليها ابتغاء ما عند الله.
ثم قال للفتى: تسلم هذه الجارية فهي هدية مني إليك بما عليها!.
فجعل الناس يعذلونه ويقولون: ويحك، ما صنعت، قد بذل لك فيها الرغائب فلم تبعها، ووهبتها لهذا؟!.
فقال: إليكم عني، فإني أحييت كل من على وجه الأرض، قال الله عز وجل: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}.
Page 76