مقدمة
أيتها المرأة لا تكوني لعبة
الأصل البدائي للحجاب
الرق والمرأة
بؤس المرأة في مصر
شذوذ قهري
جريمتنا نحو المرأة
المرأة الغربية والمرأة المصرية
الذكاء والعبقرية والمرأة
نساؤنا المتعطلات
من رفاعة الطهطاوي إلى قاسم أمين
نصفنا الآخر
فلسفتنا عن المرأة
المرأة التي تعمل في المجتمع
رئيسات للمحاكم
سفيرات ووزيرات
الرقص والشخصية
قوات التحرير الجديدة
وزارة للعائلة
هؤلاء الأمهات
الزوج زميل زوجته وليس رئيسها
مقدمة
أيتها المرأة لا تكوني لعبة
الأصل البدائي للحجاب
الرق والمرأة
بؤس المرأة في مصر
شذوذ قهري
جريمتنا نحو المرأة
المرأة الغربية والمرأة المصرية
الذكاء والعبقرية والمرأة
نساؤنا المتعطلات
من رفاعة الطهطاوي إلى قاسم أمين
نصفنا الآخر
فلسفتنا عن المرأة
المرأة التي تعمل في المجتمع
رئيسات للمحاكم
سفيرات ووزيرات
الرقص والشخصية
قوات التحرير الجديدة
وزارة للعائلة
هؤلاء الأمهات
الزوج زميل زوجته وليس رئيسها
المرأة ليست لعبة الرجل
المرأة ليست لعبة الرجل
تأليف
سلامة موسى
مقدمة
يؤخذ من إحصاء نشرته «الأخبار» في القاهرة أن عدد الطالبات في جامعاتنا الثلاث في يناير من 1956 بلغ 5736 طالبة يتعلمن، وسوف يتخرج منهن عدد كبير بعد عام أو أكثر وقد درسن الحقوق أو الآداب أو العلوم.
وهذا العدد، مضافا إليه نحو عشرين ألف طالبة في المدارس الثانوية، سوف يغزو المجتمع المصري بذكاء مدرب، وكرامة مؤيدة، وبعائلات تبنى على أساس من الأمهات المتعلمات. وعندئذ يرقى هذا المجتمع المصري فلا يكون، كما هو الآن، مجتمعا انفصاليا لا يختلط فيه الرجال بالنساء.
لقد كان هذا المجتمع المصري يحيا على الرجال وحدهم. وكانت المرأة، المضروب عليها الحجاب، تعيش بين أربعة جدران في المنزل، تختبئ وراء الأبواب والشبابيك. بل كانت الشبابيك مشربيات مخرمة تتيح لها النظر إلى الشارع حين تلصق وجهها بخروم المشربية حتى ترى شيئا من حركة الناس والأشياء، وحتى تحس أنها لا تزال حية أو أن لها من الحياة العامة جزءا مهما صغر.
ولكن هذا التعليم الذي أخذت به فتياتنا في مراحله الثلاث، الابتدائية والثانوية والعليا، قد نقل المرأة المصرية إلى مستوى رفيع يقسر الرجل على احترامها ويقسرنا جميعا على تغيير القوانين الجائرة التي أذلتها.
ولست أشك في أن عاداتنا الموروثة في قتل امرأة بدعوى العرض إنما هي في صميمها احتقار للمرأة؛ للمركز المهين الذي أنزلناها إليه بتقاليدنا السوداء، وأن هذا القتل سيزول حين يحس أعضاء العائلة، أو حتى أعضاء الأسرة، أن هذه الفتاة العذراء أو هذه السيدة المتزوجة قد أصبح لها حرمة ومكانة بسبب تعلمها.
ولن يجرؤ أخ أو ابن عم أو أب على قتل فتاة عذراء لأن أحدهم ضبط خطابا قد أرسل إليها يحتوي كلمات عن الحب؛ ذلك لأن الفتاة المتعلمة قد اكتسبت بتعلمها شخصية قوية واستقلالا روحيا بحيث تجرؤ على أن تسوس حياتها كما تشاء وتتحمل مسئولياتها كما تقدر. وليس كما يقدر غيرها.
وهذه الشخصية، وهذا الاستقلال، سيكفان كل متنطع، يزعم الدفاع عن العرض، عن أن ينتقدها ويحمل السكين أو المسدس لقتلها؛ إذ هي أعرف منه بحقيقة سلوكها وسياسة حياتها.
وكثير من فتياتنا، خريجات الجامعات، يتزوجن، بل الأغلب أنهن كلهن ينشدن الزواج ويجدن الأكفاء لهن من الشبان المتعلمين مثلهن. وهذا حسن؛ لأن خير ما يستمتع به إنسان هو أن يحيا في عائلة، وأن يكلف واجبات، لها متاعبها ولذاتها، ولكنها رفيعة في القيمة الإنسانية. وليس في الدنيا أبعث على إحساس السعادة وأجمل من الحب بين شاب وفتاة يؤسسان بيتا ويعيشان هذه العيشة الزوجية التي تسمو على الأنانية وتهدف إلى التعاون بين اثنين قد ربطهما الحب وتربية الأطفال.
ولكني أنصح لجميع الزوجات، خريجات الجامعات، بل حتى أولئك اللائي لم يحصلن إلا على الشهادة التوجيهية، ألا يقتصرن بعد الزواج، على خدمة البيت؛ إذ ماذا في البيت يستحق أن ترصد له الزوجة نفسها ووقتها وفراغها؟
يجب على المرأة المتعلمة أن تعمل خارج البيت وتؤدي خدمة اجتماعية لوطنها؛ وذلك بأن تستغل جميع الفرص والوسائل الجديدة التي تجعل أداء الواجبات المنزلية سهلا يستغرق الدقائق بدلا من الساعات. كما تجعل تربية الأطفال فنية في أيدي المربيات في المحضن أولا إلى سن الرابعة، ثم في الروضة ثانيا إلى سن السادسة أو السابعة.
إنه حسن وجميل أن تكون المرأة زوجا وأما، ولكن واجبات الزواج والأمومة لا يمكن أن تستغرق كل الوقت، النهار والليل، عند المرأة المتعلمة؛ ولذلك يجب عليها أن تستغل معارفها ومهارتها في عمل اجتماعي آخر إلى جانب الزواج والأمومة.
وهذا العمل الاجتماعي الآخر هو الذي يصل بينها وبين المجتمع، ويكسبها العقل الاجتماعي، ويربي شخصيتها ويدرب ذكاءها ويؤكد استقلالها؛ وأعني هذا الاستقلال بأنواعه الاقتصادي، والروحي، والاجتماعي.
على المرأة أن تحيا حياتها لنفسها أولا ثم لمجتمعها وزوجها وأبنائها. كما على الرجل أن يحيا حياته، مثل المرأة، لنفسه أولا ثم لمجتمعه وزوجته وأبنائه.
والرجل لا يتخصص للزواج. وكذلك المرأة يجب ألا تتخصص للزواج؛ ذلك لأن حياتنا، نحن الرجال والنساء، أغلى من هذا وأرحب من أن يحتويها هذا التخصص.
وليس من حق أحد في الدنيا أن يقول للمرأة: عيشي في البيت طيلة عمرك، ثمانين أو تسعين سنة، لا تختلطي بالمجتمع ولا تؤدي عمل المحامي أو الطبيب أو الصانع أو الكيماوي أو الفيلسوف. وإنما اقصري كل قوتك وكل وقتك على الطبخ والكنس وولادة الأطفال.
لا، إن المرأة العصرية أرحب آفاقا وأكثر اهتماما من أن يستغرق المنزل كل حياتها.
أيتها المرأة لا تكوني لعبة
إني أدعوك، أيتها المرأة المصرية، إلى أن تثبتي وجودك الإنساني والاجتماعي في الدنيا بالعمل والإقدام، وأن تختاري حياتك واختباراتك.
أدعوك إلى أن تدربي ذكاءك، وتربي شخصيتك، وتستقلي في تعيين سلوكك، وتزدادي فهما وخيرا ونضجا بالسنين.
لا تكوني لعبة نلعب بك نحن الرجال، للذتنا نشتري لك الملابس الزاهية، والجواهر المشخشخة، ونطالبك بتنعيم بشرتك، وتزيين شعرك، وكأن ليس لك في هذه الدنيا من سبب للحياة سوى أنك لعبتنا نلعب بك ونلهو.
ليس شك أن أنوثتك جميلة، وليس شك أنك تعتزين بجمالك وتعنين به. ولكن لا تكوني لعبة.
أنت إنسان لك جميع الحقوق الإنسانية التي للرجل، فلا تقبلي أن ينكر عليك أحد هذه الحقوق وأن يعين لك طراز حياتك.
أنت إنسان لك حق الحياة واقتحام التجارب البشرية وحق الإصابة والخطأ؛ لأنك، بغير ذلك، لا تحصلين على تربية إنسانية؛ أي لا تكبرين ولا تنضجين بل تبقين طفلة ولعبة ولو بلغت الستين أو السبعين من العمر.
سيقال لك إن البيت هو دائرة نشاطك. وهو كذلك إذا شئت أنت، ولكن ليس لأن هناك حكما سماويا قهريا يجبرك على الطاعة وعلى البقاء في البيت. ثم اذكري أنه ليس في الدنيا بيت يمكنه أن يستوعب كل نشاط المرأة.
البيت أصغر من أن يستوعب كل إنسانيتك، وكل عقلك، وكل قلبك؛ لأن الدنيا الواسعة هي بيتك الأول.
يجب أن تحيي في الدنيا قبل أن تحيي في البيت، أو مع حياتك في البيت.
أنت لست خادمة الرجل يلعب بك ويلهو، وتنجبي له الأطفال، وتطبخي له الطعام، وتغسلي له المرحاض.
أنت شريكته إذا شئت، ولست خادمته.
أنت أم الرجل، وأخته، وزوجته، وزميلته. ولكن يجب ألا تكوني خادمته أو لعبته.
أنت ثمرة ألف مليون سنة من التطور، ولك قدرة على الفهم لم يرتفع إليها حي في كل هذه السنين. فلا تبخسي قدرك، وتحيلي شخصيتك إلى لعبة. ولا ترضي بأن تكوني خادمة الرجل؛ إذ هو لا يمتاز عليك بأية ميزة.
أنت أغلى في تقدير الطبيعة من أن تكوني لعبة أو خادمة. وأنت تخونين روحك إذا لم تستقلي في هذا الكون، وتحيي الحياة المستقلة، وتنظري النظرة المستقلة إلى شئون العيش.
إن الرجال يتهمونك بأنك غير ذكية، غير شجاعة، غير سخية، غير بصيرة، لم تتفوقي في الاختراع أو الاكتشاف، ولم تبرزي في العلوم أو الفنون.
وكل هذه التهم صحيحة.
ولكنها صحيحة لأنك تمضين حياتك محبوسة بين أربعة جدران في البيت، ولو قدر لنا نحن الرجال أن نحبس كذلك لكنا في هذه الحال التي تتهمين أنت بها.
ذلك أن الذكاء والشجاعة والسخاء والتبصر والاختراع والاكتشاف، كل هذه الأشياء، هي بعض النشاط الاجتماعي الذي يدعونا إليه المجتمع ويبعث فينا، حين نختلط به ونتفاعل معه، تلك العواطف التي تحثنا على النشاط الذهني أو الجسمي.
لماذا يكبر ذكاؤك إذا كان البيت لا تحتاج واجباته إلا إلى مقدار صغير منه؟ هل الطبخ يحتاج إلى ذكاء كبير؟ هل غسل الملابس يحتاج إلى ذكاء عظيم؟
لماذا تكونين عبقرية؟ هل إدارة البيت تحتاج إلى ذهن عبقري؟
لماذا تحسين المسئوليات الاجتماعية في البر والسخاء والتبصر؟ هل البيت يحتاج إلى كل هذه الصفات؟
إننا، نحن الرجال، لاختلاطنا بالمجتمع، نرسم «تصميم» حياتنا قبل أن نبلغ العشرين؛ وذلك لأن المجتمع يوسع لنا في الطموح. فقد يهدف أحدنا في هذه السن أو قبلها إلى أن يكون وزيرا أو سفيرا أو طبيبا أو معلما أو فيلسوفا أو مهندسا أو عالما أو تاجرا؛ وعندئذ يجد في هذا الهدف وسيلة إلى النشاط الذهني أو العاطفي تحمله إلى غايته فيبلغها، ويجد فيها الرابطة التي تربطه بالمجتمع وتحرك ذكاءه.
ولكن أنت لا تهدفين إلى مثل هذا الهدف لأن المجتمع يفصلك، وكأنه ينبذك؛ وعندئذ لا تجدين العاطفة التي تحثك على النشاط، أي لا تجدين الوسائل لتدريب ذكائك وشجاعتك وسخائك وبصيرتك.
أنت معطلة الذهن لأنك لا تهدفين إلى الأهداف الاجتماعية العظيمة التي يهدف إليها الرجل. ونتيجة ذلك أنه يدرب ذهنه فيكون ذكيا بل عبقريا. أما أنت فلا تدربين ذهنك بل تعطلينه.
إنما يتربى الذكاء والفهم والعبقرية بالاشتباكات الاجتماعية، ومصادمة المشكلات في المجتمع ومحاولة حلها. ولا ذكاء ولا عبقرية ولا فهم لإنسان ينفصل من المجتمع.
أنت، أيتها المرأة المصرية، مفصولة من المجتمع؛ ولذلك لا يجد ذكاؤك التدريب الذي يحتاج إليه، فيتبلد.
أنت تحيين على هذه الدنيا 70 أو 80 سنة، فلماذا تحيينها في حدود وقيود؟
إننا نحن الرجال نستمتع بالتجربة؛ أي نستمتع بالتربية.
وليست التربية ما نتعلمه في مدرسة أو جامعة، إنما هي تجارب الحياة واختباراتها وما نصيب وما نخطئ.
وليس الخطأ سوى إصابة سلبية؛ فيجب ألا نخشاه.
يجب أيتها المرأة المصرية أن تزاملي الرجل في العمل، ولا تعملي وحدك. بل يجب أن تبدئي الزمالة من الطفولة، تتعلمين وأنت صبية مع الصبايا، وأنت فتاة مع الشبان، ثم تزاملي الرجل في المكتب والمتجر والمصنع.
نحن الرجال والنساء يجب ألا ينفصل أحد جنسينا عن الآخر؛ لأننا عندما ننفصل نقع في شذوذات جنسية بشعة ، بل نقع أيضا في شذوذات ذهنية وعاطفية، فلا نحسن التفكير، ولا نستطيع معالجة أي موضوع إنساني بذكاء فضلا عن عبقرية.
كوني إنسانا كما أنت امرأة، ولكن لا تقنعي بأن تكوني أنثى، زاهية الملابس، مصففة الشعر، مجلوة البشرة، تشخشخين بالذهب والألماس.
لا تكوني لعبة نلعب بك ونلهو، حتى إذا شبعنا منك، وبشمنا، تجشأنا وعزفنا.
إننا نحن الرجال نبسط ذكاءنا على بساط رحب من الأعمال والاهتمامات والدراسات، ندرس الجيولوجية ونستخرج البترول من جوف الأرض، ونخترع الطائرات، ونسيح في الهند وأمريكا، ونمارس التجارة، وندرس الفلسفة، ونسافر إلى برلين أو روما أو باريس، ونشتغل بالسياسة، ونهدف إلى أن نكون وزراء أو علماء؛ ولذلك ينشط ذكاؤنا، وقد يرتفع إلى ما نسميه العبقرية.
هذه العبقرية ليست شيئا موهوبا مقصورا على الرجال، إنما هي ثمرة الاهتمامات والأعمال التي تربطنا بالمجتمع وشئونه من علم أو فن. فإذا اشتبكت أنت في المجتمع فإنك ستذكين وقد ترتفعين إلى العبقرية.
إن الفصل بين الجنسين، وقصر نشاطك الذهني والجسمي على البيت، قد ملأ هذا المجتمع المصري بآثام وشرور كادت تحيل أفراده أو بعض أفراده إلى حيوانات.
هذا الفصل هو علة الشذوذ الجنسي الذي يجعل من الرجل حيوانا، قبيحا، زريا، مريضا، يحيا في هذه الدنيا حياة سرية يفترس الصبيان ويفسدهم ويحرفهم عن رجولتهم القادمة. ولا علاج لهذه العاهة إلا بالاختلاط بين الجنسين، حتى يتجه الاشتهاء الجنسي وجهته الطبيعية ولا ينحرف، بحيث يحب الرجل المرأة ولا يحب الغلام ...
ثم قارني بين المرأة المخدرة التي تلزم بيتها وتتبرج لزوجها وبين المرأة المنتجة العاملة. الأولى انفرادية تحمل في نفسها جميع المساوئ التي تنشأ من الأنانية الانفرادية فضلا عن تحديد ذهنها بالمحظورات والمحرجات. أما الثانية فاجتماعية، تحمل في نفسها جميع الفضائل الاجتماعية، وأولها حرية التفكير وحرية التجربة وحب الخير العام.
إن الفضيلة، مثل الذكاء، عادة اجتماعية؛ إذ ليس هناك معنى للصدق أو الخير العام، أو الإنسانية، أو الحب للبشر، أو الشهامة، أو الشجاعة، إلا فيما يصل بيننا وبين المجتمع.
قد يقال لك إنك أكرم من أن تلوثي بأدران المجتمع، ولكن إذا كان المجتمع ملوثا فهو يحتاج إليك كي تطهريه.
وقد يقال إن البيت يحميك من كوارث الدنيا، ولكن هذه الكوارث تربينا. وحقك في التربية والنمو والنضج هو في النهاية حقك في الاقتحام ولقاء الكوارث.
تعلمي صناعة، واحترفي حرفة قبل الزواج، حتى تختاري زوجك عن حب وتقدير وليس لأنه سيعولك لأنك عاطلة تعجزين عن أن تعولي نفسك. والصناعة فوق ذلك تصون كرامتك، وتصل بينك وبين المجتمع، وتكسبك الإحساسات الاجتماعية.
إن أخطر ما تعملينه في حياتك، أيتها الفتاة، هو اختيارك لزوجك؛ ذلك أنك بهذا العمل قد اخترت رجلا سوف يحيا معك ويعاشرك طيلة عمرك. وسوف يكون أبا لأبنائك، وعلى قدر ما فيه من ميزات بيولوجية، مثل الذكاء الفطري والصحة الجسمية وجمال القوام والوجه، سيكون كل ذلك أو معظمه في أبنائك بنتيجة الوراثة.
ثم على قدر ما فيه من أخلاق ومطامع وعادات سيكون كل ذلك أو معظمه في أبنائك بعامل القدوة.
فلا تهملي الدقة في الاختيار، واجعلي هدفك أن يكون هذا الزوج الذي تختارينه زوج العمر، زوج الحياة، بحيث لا تشكين في أنه سيسأمك ويتزوج غيرك بعد سنة أو سنتين.
ولن تعرفي ذلك إلا إذا كنت قد تعرفت عليه قبل الزواج بجملة شهور، أو بعام كامل، تدرسين أخلاقه وأهدافه وفلسفته في الحياة وآراءه الاجتماعية والإنسانية. ولذلك لا تتعجلي، ولا تغتري، بل تمهلي واستأني.
ثم تذكري أننا كلنا نقول بضرر الطلاق يجري جزافا واستهتارا. فإذا كنت أنت من هذا الرأي، وهذا ما لا شك فيه، فيجب ألا تتزوجي رجلا قد طلق زوجته إلا بعد أن تدرسي الأسباب والحجج التي بنى عليها هذا الطلاق. فإذا وجدت أنه كان عادلا فتزوجيه، وإلا عدلت عنه حتى يجد من هذه المقاطعة ما يردعه في المستقبل عن الاستهتار.
وكذلك نحن نقول بأن تعدد الزوجات يفسد العائلات، ويحطم أواصر القرابة، ويبعث الإحن بين الأبناء. فعليك ألا تتزوجي رجلا يجعل لك ضرة كما يجعلك أنت ضرة لزوجة أو لزوجتين أخريين. ولا يمكن أن تتحقق المساواة التي تنشدينها بالجنس الآخر إذا كنت ترضين بأن تكوني واحدة من جملة زوجات لرجل واحد.
إن المساواة بين الجنسين تقتضي الزواج من امرأة واحدة، والرجل الذي يتزوج بأكثر من واحدة إنما يلعب ويعبث بإنسانيتك ويحيلك إلى أنثى فقط.
وإذن عليك قبل الزواج أن تتعلمي حرفة أو صناعة، حتى لا يحملك عجزك عن أن تعولي نفسك على الارتماء والرضا بأي زوج يحمل عنك هذا العبء ويكسب لك؛ لأنك عندئذ لا تختارين زوجا صالحا للمعاشرة جديرا بالأبوة لأبنائك، وإنما تختارينه عائلا يقيتك، ويقيتك فقط. وعندئذ قد يكون دميما، فتنتقل الدمامة إلى بناتك وأبنائك. وقد يكون مغفلا، فتنتقل الغفلة إلى بناتك وأبنائك. وقد يكون رذلا، فتنتقل رذائله بالقدوة إلى أبنائك.
تعلمي حرفة تكسبك الاستقلال الاقتصادي الذي يتيح لك الاختيار الحسن للزوج.
والكلمة الأخيرة: لا تنفصلي من المجتمع.
فإذا استطعت أن تحترفي حرفة وأنت متزوجة فافعلي. وإذا لم تستطيعي ذلك فلا تكفي عن الاشتراك في النشاط الاجتماعي للمرأة بأن تكوني عضوة في جمعية خيرية أو هيئة اجتماعية تزيد إحساسك الاجتماعي، وتربي ضميرك، وتفتأ تذكرك بأنك إنسانة قبل أن تكوني أنثى.
الأصل البدائي للحجاب
في اللغة العربية كلمة يمكن - كما هو الشأن في كلمات أخرى - أن تهدينا إلى الأصول البدائية التي نشأ منها الحجاب. هذه الكلمة هي: دم.
فمن الدم اشتق العرب البدائيون، قبل آلاف السنين، الدميم والدميمة، وكذلك الدمامة، بمعنى القبح في الوجه.
ذلك أن الإنسان البدائي، قبل أن يعرف الزراعة، كان يقتات بالجذور أو الثمار البرية يجنيها من الغابات التي كانت تملأ الدنيا. وكان إلى ذلك الوقت لا يعرف السير جماعات أو قبائل. ولكنه كان مع ذلك يعرف العائلة؛ عائلة الأم فقط دون الأب.
كانت عائلة الإنسان البدائي تشبه عائلة الحيوان في وقتنا؛ أي تتألف من الأم وأبنائها في سن الرضاع أو ما يتجاوزه بقليل حين يستطيع هؤلاء الأبناء أن يستقلوا ويتركوا الأم، ولم يكن هناك مكان للأب في هذه العائلة الأولى؛ لأن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة لم تكن تزيد على إشباع الشهوة. وكان الاعتقاد السائد أن الأم وحدها هي التي تنجب الأطفال.
ولا يزال هذا الاعتقاد عاما عند بعض القبائل البدائية. كما أثبت ذلك مالينوفسكي في كتابه «الحياة الجنسية بين المتوحشين». فإن هؤلاء المتوحشين يقولون بأن المرأة تحمل لأن روحا أو طائفا يزورها وهي نائمة، فيلقي في رأسها بذرة الطفل الذي ينحدر إلى رحمها ويستقر وينمو حتى يولد.
واللغة العربية تدلنا على هذا الاعتقاد؛ فإن كلمة «حيا» تعني عضو التناسل في المرأة. وقد اشتقت منه كلمة «الحياة»؛ وذلك للاعتقاد بأن المرأة، عن سبيل الحيا، هي أصل الحياة. أما الرجل فلا شأن له في ذلك، واتصاله بالمرأة لا يزيد على أن يكون للذة والمتعة.
وبقاء الأطفال في حاجة إلى الرضاع والحمل نحو سنة أو أكثر، ثم حاجتهم بعد ذلك إلى من يحميهم من الوحوش، جعل بقاءهم مع الأم ضروريا نحو ثماني أو عشر سنوات. بل ربما أكثر. ثم حاجتهم بعد ذلك إلى من يحميهم من الوحوش، جعل تعلمهم كيف يتقون أعداءهم، وكيف يبحثون عن الثمار البرية، وكيف يتفاهمون بالكلمات القليلة التي يأخذونها عنها.
العائلة البشرية هي الأم مع أطفالها بلا أب. وكان قوت هذه العائلة هو الجذور والديدان والثمار فقط. ولم يكن لهذه العائلة من آلات سوى القليل جدا من الأحجار التي تستدق في طرف للحفر عن الجذور أو الديدان.
ولكن هذه العائلة تغيرت بعد ذلك من عائلة الأم إلى عائلة الأب حين عرف الإنسان البدائي الصيد.
وقد أدى الصيد إلى نتيجتين:
الأولى:
أن يتعاون الرجال على ترصد الحيوان الذي يراد صيده؛ بأن يكمنوا له في جملة مواضع مختفين. حتى إذا ظهر احتوشوه، ثم هجموا عليه بما في أيديهم من آلات حجرية فمزقوه. ولكن إذا كان الحيوان قويا مثل الفيل أو الكركدن أو الجاموس، فإنهم كانوا يهيئون له حفرة يتردى فيها عندما يحتوشونه.
ولم يكن يخرج للصيد سوى الرجال؛ لأن المرأة كانت على الدوام حاملا أو مرضعا أو أما يتبعها الصغار. فكان الخطر عليها كبيرا من الصيد؛ ولذلك اقتصر الصيد على الرجال فنشأ مجتمع الرجال .
الثانية:
أصبحت المرأة، لعجزها عن الصيد، ترضى بالاستجابة الجنسية للرجل إذا كان يمنحها شيئا من صيده؛ أي من نصيبه من اللحم مما حصل عليه هو وزملاؤه من الرجال بالصيد. ومن هنا نشأت سلطة الرجل على المرأة. هو يصيد ويأتي باللحم، وهي تستجيب إليه لما تجد من مكافأة لها بطعام اللحم الذي يعلو على الثمار والجذور التي كانت تحصل عليها بالمضض والعرق.
لم يكن الصيد ممكنا للفرد وحده، فنشأ التعاون بين الرجال؛ أي المجتمع البشري.
ولم تكن المرأة قادرة على الصيد لأنها حامل، أو لأنها تحمي صغارها، وإذن احتاجت المرأة إلى أن يعولها الرجل بما يصيد.
ونشأ البيت، ونشأت العائلة الأبوية. وأصبحت للزوج سلطة على زوجته؛ إذ هو الذي يقيتها.
ما هو الصيد؟
هو أن تقتل حيوانا فينزف دمه ويموت، ثم نمزقه ونأكله.
إن كلمة «قتل» هي نفسها كلمة «أكل» عند المصريين القدماء. وظني أن الكلمتين في اللغة العربية تعودان إلى أصل واحد. وتقاربهما في النطق والقلب واضح.
ذلك أننا متى قتلنا أكلنا. ولا أكل بلا قتل في عصر الصيد.
هذا هو عصر الصيد الذي يعود إلى ما قبل 114 ألف سنة في مصر، ولم ينته إلا بعد ظهور الزراعة. ولكن عصر الصيد هذا لا يزال حيا إلى وقتنا في أمم أو قبائل متوحشة. وكان هذا العصر خطوة ارتقائية كبيرة إذ هو أوجد مجتمعا بين الرجال وأوجد آلات للصيد، وأوجد كلمات جديدة فتقت الذهن وولدت ثقافة بدائية، وأوجد العائلة والبيت.
ولكنه كان نكبة على المرأة.
ذلك أنه جعل الصيد الوسيلة للقمة العيش. ولما كانت المرأة عاجزة بحملها أو رضيعها أو أطفالها عن الصيد فإن كاسب هذه اللقمة قد أصبح سيدا عليها. ولكن هذه السيادة لم تكن شيئا خطيرا، وإنما الخطير في عصر الصيد هذا هو كلمة دم.
لم يكن هناك صيد بلا دم؛ أي بلا قتل.
وحتى إذا فرضنا أن الصيد قد وقع في أحبولة أو حفرة، فإنه لن يؤكل إلا بعد أن يقتل وينزف دمه.
الدم عند الإنسان في عصر الصيد كان يعني القتل؛ أي الموت.
وإذن أصبح الإنسان في عصر الصيد يعتقد أن أشأم كلمة يسمعها، وأشأم منظر يراه، هما كلمة الدم ومنظره؛ ومن هنا نشأت الدمامة من الدم. والدميم هو قبيح الوجه.
ولكن هذا المعنى قد هذب عن أصله؛ لأن الأصل كان يرجع إلى السحر الذي كان عمدة الثقافة والمنطق عند الإنسان في عصوره القديمة. فكان الدم شؤما ونذيرا بالهلاك، إذا رآه أحد فإنه يجب أن ينتظر سفك دمه وموته أو جرحا على الأقل.
ومن هنا كلمات: الطيرة والشؤم واليمن والفأل. ومن هنا الطلاسم والتعاويذ والتمائم.
كانت عقائد السحر تستحوذ على الإنسان القديم وتملأ عالمه بالخوف.
وكان أعظم ما يخافه رؤية الدم في غير موضعه الذي يجب أن يراه. وهذا الموضع الوحيد هو قتل الحيوان المصيد. ويجب مع ذلك ألا ننسى أن الإنسان الذي كان يشترك في جماعة الصائدين كان هو نفسه عرضة للقتل بهجوم الحيوان عليه قبل أن تنجح الجماعة في قتله.
كانت كلمة الدم أسوأ كلمة يسمعها الإنسان القديم.
ولما كانت المرأة تزورها العادة الشهرية فتنزف دما يبقى بضعة أيام، ولما كانت أيضا تنزف دما أكثر وقت الولادة، فإنها أصبحت إنسانا نجسا يجب على جماعة الصائدين من الرجال أن يتجنبوها قبل الصيد ببضعة أيام. بل يجب ألا يروها بتاتا قبل الصيد ببضعة أيام، حتى يخرجوا وهم غير متلبسين بشؤم الدم. وإن يكن دم المرأة وليس دم الصيد.
ومن هنا كلمات دميم ودمامة، أو قبيح أو مشئوم، وقبح أو شؤم.
ومن هنا أيضا ظهرت التعاويذ والرقى التي يقولها البدائيون حتى يتطهروا من نجاسة المرأة وحتى يخرجوا للصيد بلا شؤم.
وكانت المرأة لهذا السبب تخفي نفسها عن الرجال حتى لا يتشاءموا، وحتى إذا لم يكن عليها دم؛ إذ ما يدري الرجال بأنها ملوثة بالدم الذي لا يرونه.
هذا هو الحجاب في أول ظهوره.
نشأ من دم الحيض والولادة عند المرأة.
ولما كانت الولادة تزيد نزف الدم أكثر من العادة الشهرية فإن المرأة مدة الولادة تزيد نجاسة فيها؛ ولذلك تزيد مدة تجنب الرجال لها.
كان الرجال يتجنبون النساء قبل الصيد حتى لا تنتقل عدوى الدم إليهم فينزفوا مثلها. وهم لن ينزفوا إلا بعد أن يقتلوا. وكان خطر المرأة أكبر عليهم مدة الولادة؛ لأن نزفها عندئذ أكبر.
هذا هو منطق السحر البدائي؛ السحر بالعدوى.
وشبيه بهذا أيضا نجاسة الأرملة وحجابها؛ لأنها، كما مات زوجها، يمكن أن تنقل هذا الشؤم إلى أي امرأة أخرى، بل إلى أي رجل يراها. ولذلك روى الزمخشري في «غريب الحديث» أن الأرملة نجسة، ما مست شيئا إلا أفسدته، وهو يعزو هذا القول إلى سيدة عربية.
ولذلك نشأت عادة اختفاء الأرملة.
أصبحت المرأة، في عصر الصيد، عنوان الدم؛ أي شؤما على الرجال.
ومن هنا نشأ الحجاب؛ أي الانفصال بين الجنسين. ونشأت فكرة النجاسة من الاتصال الجنسي. ونشأت فكرة التطهر بعد هذا الاتصال، وبعد الولادة، وبعد الحيض عند المرأة. وعم الحجاب جميع الجماعات التي كانت تعيش بالصيد.
وجاء وقت، عند الأمم القديمة، كان السحر فيه وقفا على المرأة؛ لأن الخوف منها كان أكبر بما تحمل من شؤم الدم المنزوف.
فلما ظهرت الزراعة واستغنى بها البشر عن الصيد أدت ممارسة الزراعة إلى اشتراك الرجل والمرأة في أعمال الحقل وجمع المحصول. فعادت المرأة زميلة الرجل، ولم تعد خصيمته تنقل إليه أذى الدم وشؤمه. ولكن لم يلغ الحجاب مباشرة بعد الزراعة؛ لأن للعادات الاجتماعية قوة البقاء مدة ما حتى بعد زوال أسبابها.
وكأن الزراعة قد عادت بالبشر إلى العصر الذي سبق الصيد، حين كانت المرأة وحدها أساس العائلة. ولذلك لا نكاد نجد في مصر، التي اخترعت الزراعة حوالي 12 ألفا قبل الميلاد، لا نجد أثرا لنجاسة المرأة أو للحجاب؛ لأن هذه المدة الطويلة قد أنست الرجال شؤم الدم. وإن كنا مع ذلك ما زلنا نجد كلمة واحدة في لغتهم تعبر عن المعنيين: القتل والأكل. وهذه الكلمة تعود بنا إلى عصر الصيد، ولا بد أن المرأة كانت وقتئذ نجسة.
وقد قوي الحجاب عند العرب وسائر الأمم البدوية؛ لأنها بقيت تعيش في عصر الصيد ولا تكاد تعرف الزراعة. ثم عرفت بعد ذلك الغزو. وشؤم الدم هنا يزيد على شؤمه أيام الصيد؛ لأن الغزو يجعل الغزاة عرضة للقتل أكثر من الصيد.
هذا هو الأصل للحجاب.
ولكننا بعد أن حجبنا المرأة احتجنا إلى أن نبرر هذا الحجاب تبريرا عصريا لا يعود إلى عادات السحر القديمة، فصرنا نقول إنها غير ذكية، أو إنها لا تحسن أعمال الرجال، أو إنها تسفه في تصرفاتها، أو تعجز عن الإيفاء بالعهد، أو نحو ذلك.
والذين يقولون هذه الأقوال يجعلون منها أساسا لتبرير الحجاب. وآخر ما قرأت في ذلك كلمة كتبها كاتب شرقي مصري من كتابنا قبل بضع سنوات، هو المرحوم مصطفى صادق الرافعي. فقد وصف أحد مؤلفاته بقوله إنه يقوم موضوعه على «سبب واحد حول فلسفة البغض وطيش الحب ولؤم المرأة».
وهو يقول في هذا الكتاب أيضا: «قيل لحية سامة: أكان يسرك لو خلقت امرأة؟ قالت: فأنا امرأة غير أن سمي في الناب وسمها في لسانها.»
لقد مات هذا المؤلف قبل نحو عشر سنوات. وأعتقد أن الشبان الذين يقرءون هذه الكلمات يشمئزون لسبب واحد، وهو أنهم قد ارتقوا وتطوروا وعرفوا أن المرأة إنسان. ولا يمكن الإنسان في عموميته، أن يكون لئيما؛ لأن وصم المرأة باللؤم هو وصم للإنسانية كلها باللؤم. بل هو وصم للأمومة، وهي أحسن ما في الإنسانية، باللؤم.
إن الشباب المهذب هو الإنسان الإنساني الذي يحترم المرأة؛ ولذلك يستطيع أن يحبها الحب الشريف المقدس، إذ كيف يمكن أن يحب الشاب فتاة وهو يؤمن «بلؤم المرأة»؟
لقد وجدت كاتبا أوربيا يصف حبيبته بقوله: «يا أخت قلبي». ووقفت عند هذا التعبير الجميل معجبا، أتأمل هذا المعنى الحنون وهاتين الكلمتين الرقيقتين.
إنه لفرق عظيم بين كاتب يفكر في المرأة فيذكر الحية والسم، أو يذكر اللؤم. وبين كاتب آخر يذكرها فيقول: يا أخت قلبي. من منهما الإنسان؟ من منهما الرجل البار؟
أيها الشاب المصري كن متمدنا، وكن عصريا، وكن إنسانيا. تذكر أخت قلبك ولا تصدق من يقولون لك إن المرأة حية لها سم، وأنها لئيمة.
الرق والمرأة
إذا تركنا عصر الصيد، ثم عصر الغزو، وجدنا عصرا آخر عمل لاحتقار المرأة والهبوط بها إلى ما دون الرجل في الإنسانية، هو عصر الرق الذي لم ينته إلا منذ مائة سنة فقط في أمريكا التي ألغته بعد الحرب الأهلية سنة 1860 ثم عمم إلغاؤه في جميع الأمم المتمدنة، والمتمدنة فقط؛ لأن الرق لا يزال قائما في الأقطار المتخلفة إلى عصرنا هذا.
والرق نشأ من الغزو.
ذلك أن القبيلة التي كانت تغزو قبيلة أخرى، وتتغلب عليها، كانت تقتل رجالها أو تستعبدهم، ثم تسبي النساء؛ أي تخطفهن وتبيعهن.
والمرأة التي يقتنيها الرجل بعد أن يؤدي ثمنها يستطيع أن يفعل بها ما يشاء. وهو بعيد كل البعد لهذا السبب عن قبول فكرة المساواة بين الجنسين؛ إذ كيف يتساوى مع امرأة قد اشتراها بخمسين جنيها مثلا ويستطيع أن يبيعها في الغد بهذا الثمن أو بأكثر أو بأقل؟ إنها امرأة مقتناة بالثمن، وهو يعبث بها كما يشاء، ويعاقبها كما يشاء إذا أبت عليه حيوانيته في الاتصال الجنسي لشهواته أو الخضوع المطلق لإرادته.
وقد عم الرق العالم القديم كله؛ ولذلك لا نجد كتابا من كتب الدين إطلاقا يقول بمنع الرق. وعصر الرق هو، مع اشمئزازنا من المبدأ الذي نشأ عليه، يمكن أن يعد طورا من أطوار الارتقاء البشري. ذلك أنه أتاح لطبقة صغيرة من الشعب أن تحترف التفكير، وتجد من الفراغ ما يمكنها من درس السياسة والفن والأدب والحكم وسائر ألوان التمدن.
ولولا الرق عند الإغريق والرومان والمصريين لما وجد أرسطوطاليس، أو شيشرون، أو أمهوتب.
والذي حمل الأمريكيين على إلغاء الرق هو، إلى جنب أشياء أخرى لا محل لذكرها، الارتقاء في اختراع الآلات التي أخذت مكان العبيد في الإنتاج.
وتفشي الإماء - أي الجواري - في الأمة العربية حط من شأن المرأة كثيرا. ذلك أن الزوج أصبح يقتني الجارية التي تمتاز على زوجته الحرة بالجمال والشباب؛ ولذلك كانت هذه الزوجة تخضع الخضوع المطلق له، إذ هي كانت توقن أن المحل الأول في قلبه ليس لها. وما دام الشأن كذلك فإن المحل الأول في البيت ليس لها أيضا. وكثيرا ما كانت تحمل الجارية وتلد فتعود زوجة لها حقوق الزوجات.
واحتقار الرجل لجاريته كان ينتقل بالمحاكاة السيكلوجية إلى زوجته الحرة. ثم يعم الشعب كله احتقار للمرأة.
احتقار المرأة أيام الرق لم يكن يختلف عن احتقار الزنوج أيام الرق أيضا.
وإذن نحن نفهم الآن أن هناك ثلاثة عوامل عملت لاحتقار المرأة، هي: (1)
شؤم الدم أيام الصيد. (2)
شؤم الدم أيام الغزو. (3)
سبي المرأة واسترقاقها.
وهذا العامل الثالث - سبي المرأة - قد أوجد الرق الذي كان شر ما أصاب المرأة. ذلك أن حجاب المرأة أيام الصيد لم يكن ليؤدي إلى أكثر من معنى هذه الكلمة؛ أي الاحتجاب. ولكن الرق أدى إلى أن تستحيل المرأة من الإنسانية إلى الأنوثة، تتبرج لزوجها كما لو كانت أنثى فقط؛ لأن الأمة أو الجارية المسبية ثم بعد ذلك المشتراة، كانت تذل لسيدها وتتهتك له وتلبي جميع شهواته البهيمية وفوق ما يريد. واضطرت الزوجة الحرة إلى أن تباريها في كل ذلك، فتبرجت هي أيضا وتهتكت حتى لا تتفوق عليها الجارية. ومن هنا كان السقوط.
هذا السقوط الذي أحال المرأة إلى لعبة للرجل.
ولم يتفش استرقاق المرأة في أوربا مثلما تفشى في أقطار الشرق؛ لأن الاقتصار على امرأة واحدة في الزواج جعل شراء الجارية محظورا أو كالمحظور. أو هو كان صغير الخطر على الزوجة الحرة؛ لأن الزوج كان يضطر إلى الطلاق منها قبل أن يتزوج الجارية. ولم تكن الحال كذلك في الأقطار الشرقية.
بؤس المرأة في مصر
حدث من مدة قريبة أن شابا بالإسكندرية انتحل شخصية ضابط بالقوات المسلحة وتقدم إلى إحدى العائلات يطلب الزواج من ابنتها. وأوشك على النجاح، وكادت هذه العائلة أن تسلم بزواجه من ابنتها، لولا أن افتضح غشه واتضح أنه لم يكن ضابطا. وشرعت النيابة في التحقيق لا بشأن غشه في الزواج ولكن بشأن انتحاله شخصية ضابط.
وهذا البؤس الذي تعانيه العائلات لا يقتصر على مثل هذا الشاب الأرعن الذي أوقع نفسه بانتحاله شخصية ضابط . فإن الغش يتخذ ألوانا أخرى لا تستطيع النيابة العامة أن تصل إليها. ثم يكون الزواج، ويفتضح الغش بعد الزواج. وعندئذ قد يكون الرضا بالواقع والسكوت على المضض والتستر على الغش.
والأصل في هذا البؤس الذي تعانيه فتياتنا وعائلاتنا هو هذا المجتمع الانفصالي الذي نعيش فيه. فإن مثل هذا الغش ما كان ليمكن أن يحاوله شاب فضلا عن أن يقع ويتم. ذلك لأن الفتاة، في المجتمعات المختلطة، تعرف خطيبها قبل الزواج وتروح وتغدو معه في أوساط مختلفة وتقابل أصدقاءه كما يقابل أصدقاءها، وتسير الأمور على نور فلا يمكن الغش. ثم إن مدة الخطبة تطول وتتعارف العائلتان وتتزاوران جملة مرات قبل أن يتم الزواج.
ولكن هذا الغش لا يقتصر على مثل هذا الشاب المغامر الذي ينتحل شخصية ضابط. فإن هناك الخاطبة المحترفة التي تحصل من الخطيبين على أجرها. وهي تكذب وتغش، وليس لها في شأن الزواج سوى ما تعده من جنيهات وقروش لقاء سعيها، وهو سعي أكثره كذب وخداع.
إن المجتمع الانفصالي الذي ما زلنا نعيش فيه إلى حد بعيد يحرمنا السعادة ويفسد زواجنا، بل يحرض على الغش في اختيار الأزواج إنه جناية حية على كل شاب وفتاة. •••
من مدة قريبة (1955) تحدث شيخ للأزهر عن تعدد الزوجات فمدحه ودعا إليه.
وبعد أسابيع نشرت الصحف خبرا عجيبا هو أن أحد الشبان الأثرياء تزوج 42 امرأة طلق منهن 40 وأمسك اثنتين. واشتبك في إحدى القضايا التي جعلت وكيل النيابة يقف على هذا الخبر. فلما سأله لماذا تزوج كل هذا العدد من النساء، أجاب في سهولة وبيان بأنه لم يجد ما يمنعه وأن هذا حقه.
وبكلمة أخرى نستطيع أن نقول إنه يسير على رأي شيخ الأزهر من أن تعدد الزوجات فضيلة. وإن كنت أعتقد أن شيخ الأزهر لم يصل إلى هذا المدى البعيد في القول بهذه الفضيلة.
ولو كان هذا الشاب الثري قد ارتكب هذا التعدد الزوجي في قطر أوربي أو أمريكي لما كان جزاءه أقل من الحبس ثمانين سنة.
ولكن ليست هذه هي العبرة التي أريد استخراجها.
وإنما العبرة أن هذه الإباحة في تعدد الزوجات يجعل من المرأة المصرية التي تمر بها هذه الظروف إحدى اثنتين: إما مجرمة تسخر من المجتمع المصري لأنها تعرف كنهه، وتستغل الأزواج بإثارة شهواتهم دون حبهم، وتحيا على غش وخداع مرعبين؛ لأنها بالطبع ستتجر بالزواج عندما تعرف أن زوجها لا يتجر به فقط بل يفسق به.
وإما هي بدلا من ذلك تنتهي إلى الذلة والمسكنة وأنها سلعة يتناقلها الرجال لشهوتهم، وأنها يجب أن تخضع ولا تفكر في الاستقلال الإنساني أو الفضيلة الإنسانية أو الثقافة أو الأبناء وإنما تفكر فقط في المجهود الذي تبذله كي تستبقي محاسن وجهها وجسمها وكي تعرف كيف تربط زوجها بهذه المحاسن حتى لا تكون واحدة من هؤلاء الأربعين المطلقات.
وأكاد أسمع القارئ يقول إن هذه حالة شاذة لا يقاس عليها.
وهي كذلك بلا شك. ولكن الشذوذ هنا شطط للمألوف وليس خروجا عليه. وقبل أن نصل إلى أربعين زوجة نجد هناك من يتزوجون العشر والعشرين.
ولا يمكن لمجتمع متمدن أن يسكت على هذه الحال. ولا يمكن لامرأة مصرية أن تعد نفسها مستقلة أو أنه يمكن أن تكون لها شخصية ما دام سيف التعدد مشهورا على رأسها.
هذا هو مركز المرأة في مصر. •••
أصدرت إحدى المحاكم الشرعية حكما في قضية زوجية يقضي بأن الزوجة التي تحترف حرفة ما خارج البيت لا تصلح لحضانة أبنائها، وأن هذه الحضانة تنتقل عندئذ من الزوجة إلى الزوج.
وبالطبع هذا الزوج ليس قعيد البيت، إذ هو يحترف حرفة في مكتب أو مصنع. ولكن القاضي لم يبال ذلك. وإنما انصب تفكيره على هذه الزوجة التي تترك البيت وتعمل معلمة أو محامية أو طبيبة أو ممرضة أو عاملة في مصنع أو كاتبة في مكتب.
هذه المرأة المحترفة المتعلمة يجب، حين تختلف مع زوجها ومطلقها، أن ينزع منها أطفالها ويسلموا للزوج.
الزوج يحترف حرفة خارج البيت. والزوجة تحترف حرفة خارج البيت، فكلاهما سواء. ومن المنطق أن نقول إن الأم أقدر على تربية الأطفال وأحن عليهم وأرعى لشئونهم من طعام ونظافة وراحة.
ولكن القاضي الشرعي لم يبال شيئا من هذا؛ فإنه قضى بنزع الأطفال من الأم وتسليمهم، أبناء وبنات، إلى الأب. والأم مدرسة تحترف تعليم الأطفال، وهذه حرفة تزيد مكانتها وقدرتها على تربية أطفالها.
ما هي العلة لهذه الحال المقلوبة في مجتمعنا؟
إن هذا القاضي ليس شاذا في حكمه؛ وإنما هو يحيا في مجتمع مصري اعتاد احتقار المرأة، وأنها لا تتساوى مع الرجل في أي حق اجتماعي أو اقتصادي. وما دام الرجل والمرأة يتساويان في الحرفة خارج البيت فإن الرجل يجب أن يفضل عليها في تربية الأطفال.
وتنساق هذه القاعدة في كل شأن آخر يتعلق بالجنسين.
فهي في المصنع، تؤدي عمل الرجل، ولا تنال أجر الرجل. وهي في العائلة، حين يرسل الأبناء والبنات إلى المدرسة، لا ينفق على تعليمها كما ينفق على الأبناء.
وهي حين ترتكب جريمة الزنا يقتلها أخوها أو أبوها أو زوجها. وإذا بقيت حية ولم يقتلها أحد هؤلاء فإن المحكمة تحكم عليها بالسجن سنتين. أما الزوج فحين ارتكابه لجريمة الزنا يستطيع أن ينجو من العقوبة ما دام ارتكابه لها بعيدا عن بيته. ثم هو قد لا يجد من الرجال غير الإعجاب برجولته.
شذوذ قهري
كتب إلي شاب في سن السابعة عشرة يقول إنه عندما يرى صورة فتى في سنه أو أصغر منه، أو عندما يقابل أحدا في هذه السن، يحس برعشة تزلزل جسمه حتى يكاد يغمى عليه.
وإنه يتخيل عن هذه الصورة أو هذا الشخص اللذين يلقاهما خيالات متعاقبة لها قوة جبرية؛ إذ لا يستطيع التخلص منها. وهي خيالات الإعجاب العظيم حين يكون هناك مكان لهذا الإعجاب. وهو يقول بالحرف الواحد:
ومهما يكن من شيء فإني أشعر بهذا الميل كذلك عندما أكون سائرا في طريق أو عندما أقابل أحد أصدقائي بصحبة شاب أو شبان معه، أو عندما أكون في مجلس من مجالس الحديث أو في اجتماع من الاجتماعات فيقع نظري على هؤلاء الشبان ... فما أشعر؟ أشعر بهذه القوة التي تصعد من نفسي في حرارة والتهاب . وماذا أجد؟ أجد ذلك الميل القوي العنيف وما تبعه من انفعالات حادة ... إلى هنا لم أدر من أمري شيئا. نفس الدافع المجهول ونفس الشيء الغامض اللذين أحس بهما عندما تقع عيناي على صورة. وإلى هنا لم يصور الخيال شيئا من تلك الصور الرائعة أحيانا، والمروعة أحيانا أخرى، والمترددة بين ذلك، في بعض الأحيان. ثم ماذا؟
إن قلبي يدق دقا عنيفا ويضطرب اضطرابا شديدا، كل ذلك مثل ومضات البرق المتلاحقة التي لا تكاد تظهر حتى تختفي ولا تكاد تختفي حتى تظهر ...
هذه عبارات قليلة من ثماني صفحات كتبها هذا الفتى الذي لم يكد يتجاوز المراهقة. وهي تدل أفصح الدلالة على أن هذا الشاب يسير في طريقه إلى الشذوذ الجنسي.
وهذا المسكين يسلك هذا السلوك من حيث لا يدري. وإليك الشرح:
التفت إلى عنوان الشاب فوجدت أنه يقطن حيا بعيدا عن الأحياء العصرية في القاهرة.
أي إنه لم يختلط بالفتيات؛ لأن الحجاب لا يزال مخيما في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وانفصال الجنسين تام. فلما بلغ سن المراهقة قبل أربع سنوات شرعت طاقته الجنسية في التعرف والاستطلاع، ولكنه لم يجد الهدف الطبيعي لهذا الاستطلاع.
وهو لو كان وجده لكانت خيالاته الجنسية جميعها محصورة في المرأة. أو لو كان قد تزوج في سن الخامسة عشرة مثلا كما كان يفعل أسلافنا لما حدث له هذا الشذوذ، ولما احتاج حتى إلى هذه الخيالات.
ولكن هذا الشاب لا يدري أنه شاذ، ذلك أنه كظم العاطفة الجنسية كظما عنيفا حتى كاد ينكرها. ثم تسامى بها فجعل إعجابه بأجسام الشباب إعجابا بميزاتهم الروحية والأخلاقية، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن ينكر أنه يعجب بالأجسام.
وخلاصة القول أن هذا الفتى نشأ في بيئة تحرم الاختلاط بين الجنسين، فاتجهت غريزته نحو البدل. والبدل هنا هو شاب «في سني أو أصغر مني» على حد قوله. ولكن هذه البيئة الرجعية التي يعيش فيها ترتفع إلى أخلاق اجتماعية محترمة فهي ترفض الاستهتار؛ ولذلك يطلي شذوذه بطلاء آخر غير الاستهتار ويزعم أنه إنما يحب الصفات العالية في الشبان. ولو أن هذا الشاب كان يعيش في بيئته هذه من قبل مائة سنة لكان قد تزوج وعاش المعيشة السوية.
ولكن سن الزواج تتأخر في وسطنا الاجتماعي، وهي تتأخر أيضا في الوسط الاجتماعي في أوربا وأمريكا. ولكن هناك الاختلاط، وهنا الانفصال. والشاب هناك يختلط بالفتاة فتستقيم خيالاته الجنسية لأنها هي هدفه، وهو يراها كل يوم بل كل ساعة. ولا يعرف كيف يتخيل شيئا آخر غيرها، فهو سوي. ولكن هذا الشاب المصري لا يجد غير الشبان الذكور في سنه، فهو ينقل إليهم استطلاعه الجنسي ويتخيل جمالهم؛ لأنه لا يرى غيرهم هدفا لغريزته، وهو لذلك شاذ.
ومن هنا نفهم أننا نتبع أسلوبا مخطئا في الحياة لأننا نصر على الحجاب في بعض بيئاتنا، فتكون النتيجة هذا الشذوذ الجنسي الذي ربما ينتهي في يوم ما إلى حمل صاحبه إلى السجن. ونصيحتي إلى هذا الشاب هي: احذر أن تسقط فأنت على شفا هاوية وفي طريق الشذوذ الجنسي. وانقل حبك وإعجابك إلى الجنس الآخر وتعرف إلى فتاة واحترمها، وكن صديقا شريفا لها. وإني واثق أن هذا يشق عليك الآن؛ لأن خيالاتك لا تمس المرأة من قريب أو بعيد. ولكن تمرن.
وهناك مئات بل ألوف مثل هذا الشاب قد جنحت غريزتهم الجنسية للانفصال القائم بين الجنسين جنوحا خطيرا. وقد استقر هذا الفتى على نوع من «التثبيت» الذي يؤلمه ويؤرقه، ولكن هناك آلافا غيره قد استقروا على العادة السرية.
وليست هذه الحال مقصورة على الشبان إذ هي أيضا تشمل الفتيات. والفتاة التي تتعلق بفتاة أخرى لا تصلح للزواج إلا بعد مرانة طويلة ومتاعب كبيرة مع زوجها. وكذلك هذا الفتى لا يصلح الآن للزواج إلا بعد مرانة طويلة وتربية جديدة.
إننا نعيش فيما يشبه التناقض. ظروف عصرية تطالبنا بالاختلاط، وتقاليد محنطة تطالبنا بالانفصال؛ ونحن لذلك في تعب بل في زيغ.
يجب أن نعيش المعيشة العملية في مجتمع علمي تشرف عليه حكومة علمية، فننفض التقاليد ونأخذ بالبدعة.
هذا إذا شئنا ألا نعيش مجانين أو زائغين.
وأحب أخيرا أن أنبه إلى أن حب الشاب في سن المراهقة أو بعد ذلك بقليل لشاب آخر في سنه يكاد يكون طبيعيا في جميع البيئات. ولكن سرعان ما ينتقل هذا الحب إلى الجنس الآخر في المجتمع المختلط. أما في المجتمع المنفصل فإنه يثبت. ومحال أن نعيد الشاب إلى الاستقامة الجنسية إلا إذا اختلط بالجنس الآخر، فإنه لن يعرف الجنس الآخر من الكتب أو الصحف؛ لأن المعرفة الحقة الوحيدة هي الاختلاط بالفتاة. هذا الاختلاط الذي يعتقد الرجعيون - نكبة بلادنا - أنه رذيلة، مع أنه لباب الشرف وصميم الأخلاق الاجتماعية العليا.
جريمتنا نحو المرأة
عندما نبلغ سن الستين أو السبعين نجد إحساسا آخر نحو الأشياء والناس، ونحس وجدانا آخر للمروءة والشرف والإنسانية أكثر مما كنا نحس قبلا. وبكلمة أخرى نجد أن لنا من القيم والأوزان ما يمكن أن نسميه حكمة.
وهذه الحكمة إنما هي ثمرة هذا العمر الطويل وما مر بنا من الأحداث، وما كسبنا من التأمل والتفكير فيها، وما وقع بنا من كوارث استخلصنا منها العبرة والدلالة؛ ذلك أننا نعيش في مجتمع نصطدم بناسه ومصالحه ومؤسساته، ونمارس فيه مصاعب العيش، ونتحمل مسئوليات الحرفة، فنتعلم ونتربى.
وليس التعلم والتربية أن نتتلمذ في المدرسة أو نقضي خمس أو ست سنوات في الجامعة؛ لأن قصارى ما نحصل عليه في المدرسة والجامعة لا يعدو أن يكون تعليما، وهو تعليم للمعرفة، أي إنه ليس تربية للسلوك والتصرف وتعيين الهدف في الحياة.
وتستطيع أن تسأل أي إنسان في الخمسين من عمره، من خريجي الجامعات، كيف كان فور خروجه من الجامعة وحصوله على شهادتها؟
كان إنسانا خاما. وكان يصطدم بالمجتمع مرة بعد أخرى لجهله، ولكنه كان يتربى من هذه الاصطدامات. وهو لا بد مخبرك بأن ما كسب من حكمة وسداد، وصحة للنفس، واتجاه حسن، إنما كسبه من المجتمع وليس من الجامعة.
المجتمع يربينا، ويكون شخصيتنا، ويعين أهدافنا، ومنه نأخذ الميزان الذي نزن به القيم، فنقول: هذا فضيلة، وهذا رذيلة.
ونحن في المجتمع نحترف حرفة ما نرتزق بها؛ أي نأكل منها لقمة العيش. وهذه الحرفة تضطرنا إلى أن نحسن مهارة معينة، وإلى أن ننتج شيئا يحتاج إليه المجتمع، إما سلعة وإما خدمة. وهذا الإنتاج وحده، وليس شيئا آخر غيره، هو الذي يكسبنا معاني الفضيلة والرذيلة، والفرق بين الرجل الصالح والرجل الفاسد، ومعاني المروءة والشرف والإنسانية.
نحن الرجال، بالحرفة وبالاختلاط بالمجتمع، نتعلم ونتربى، فنقصد إلى مكاتبنا أو مصانعنا أو مزارعنا في مواعيد نواظب عليها. ونسأل ونستفهم عن الحرف والصناعات من حيث ما تحتاج إليه من مجهود، أو ما يعين لها من مكافأة. ونسمع عن اختراع جديد فنقبل عليه، أو عن سلعة جديدة فنتجر بها؛ ولذلك نهتم بالحرية والشرف، لأن لهما قيمة في أنفسنا، من حيث إن غيابهما أو إفسادهما يؤذينا في عيشنا وإحساسنا وضميرنا.
واختلاطنا بالمجتمع يحملنا على الاهتمام بالسياسة والعلم والأدب لأننا نجد أن حياتنا متصلة بكل هذه الأشياء لاتصالنا بالمجتمع.
ما الذي نعني حين نقول إنه يجب أن تكون لنا أهداف إنسانية؟
نعني أننا يجب أن نهتم بالعدل والكرامة والعلم والسياسة. ويجب أن نقرأ الجرائد لهذا السبب. ومرجع هذه الاهتمامات جميعها أننا من المجتمع، وفي المجتمع، لنا عواطفه، ونختلط به، ونحترف فيه حرفة منتجة؛ أي لنا إحساس اجتماعي.
فضائلنا جميعها اجتماعية، والرجل الذي يحيا في الصحراء منفردا لا يمكن أن يكون فاضلا أو رذلا، عظيما أو دنيئا، عادلا أو ظالما؛ لأن هذه الصفات جميعها هي صفات اجتماعية، صلة الفرد بالمجتمع.
فإذا حرمنا إنسانا الاختلاط بالمجتمع، والإنتاج للمجتمع؛ فإننا بذلك نحرمه الإحساس الاجتماعي بكل ما يحمل هذا الإحساس من مسئولية وفضيلة وشرف وإنسانية.
وهذا هو حال المرأة كما نعاملها الآن. إننا نفرض عليها الانفصال من المجتمع بالبقاء في البيت، فكأنها هذا الرجل الذي قلنا إنه يعيش في الصحراء. وصحيح أنها لم تبلغ مبلغه في الانفراد؛ لأنها تحس شيئا من المسئولية والشرف والمروءة بقوة الخدمة والاختلاط في بيتها، بينها وبين زوجها وثلاثة أو أربعة أبناء وبنات.
لكن إحساسها هذا ناقص؛ إذ هو محدود بجدران البيت، ولذلك لا تحس ما نحسه نحن الرجال من المسئولية واليقظة والقيم الاجتماعية. وبكلمة أخرى هي، بالمقارنة بنا، إنسان ناقص في تربيته.
وعندما أقول بضرورة منح المرأة حق الانتخاب والترشيح للبرلمان، لا يدفعني إلى هذا الطلب إحساس الإنصاف نحوها قدر إحساسي بأن هذه المسئولية الجديدة ستجعلها تهتم بالمجتمع، فتزيدها يقظة، وتحملها على درس السياسة وقراءة الصحف والكتب؛ أي تزيد إنسانيتها.
ما هي هذه الدنيا التي نحيا فيها سبعين أو ثمانين سنة؟
هي المعارف التي تنبه ذكاءنا، وهي الكوارث التي تكسبنا حكمة العيش، وهي الاستمتاعات التي نستمتع بها ونحن أطفال ثم شبان ثم كهول ثم شيوخ. وليس من حق أحد أن يحرمنا معارفنا أو كوارثنا أو استمتاعاتنا، سواء في ذلك الرجال والنساء.
وإذا كنا نقول إنه على الرجل أن يكون حكيما، فإننا يجب أن نقول إنه يجب أن تكون المرأة حكيمة.
وهي لن تكون حكيمة إذا حرمناها معارف الدنيا واختباراتها، سواء منها ما يسر وما يؤلم. ونحن ننقص إنسانيتها بالقدر الذي ننقص به معارفها واختباراتها.
وهناك آلاف الجهلاء من الشبان والكهول الذين أفسدهم المجتمع بعاداته وتقاليده. وهم يخفون جهلهم بطلاء من الإحساسات الكاذبة والكلمات المبهرجة حين يقولون مثلا إنهم يحمون المرأة، وهي الرقيقة اللطيفة، من أقذار المجتمع ومشاق العيش.
ويتضح هذا الكذب في الإحساس حين نعرف أن مشاق البيت للمرأة أكثر من مشاق الحرفة للرجل، وأن تنظيف المطبخ والمرحاض وغسل ملابس الأطفال ليست على الدوام من الأعمال الخفيفة الرقيقة.
ثم هم يجهلون أن الإنسان ليس سلعة تبلى بالاستعمال، كأنها كرسي أو مائدة أو بساط أو سرير قد رثت بمرور السنين. وإنما هو ينضج ويبلغ الحكمة والسداد كلما زادت اختباراته ومعارفه. ولذلك أيضا يؤثر الرجل الحكيم الزواج من الأرملة التي خبرت الزواج سنتين أو عشر سنوات على الزواج من العذراء التي لم تخبر الزواج. وهو يسلك هذا السلوك لأنه يعرف أن المرأة إنسان يزداد حكمة وقيمة بالتعليم والتربية، وأن الجهل لا يمكن أن يكون فضيلة.
والواقع أن أعظم ما يؤخر المرأة في عصرنا هو التقاليد، هذه التقاليد التي جعلت الزمخشري يقول في كتابه «غريب الحديث» في صفحة 273 إن الأرملة مبغوضة «إذا مست شيئا أتلفته.»
وقد يوهم اسم الكتاب أن هذه العبارة منقولة عن حديث نبوي؛ ولذلك أسارع بالنفي، لأن الزمخشري قد نقلها عن إحدى السيدات.
وهذه العقيدة عن الأرملة قد عمت الأمم القديمة، وبلغت أوجها من الخسة البشرية في الهند حين كانت الأرملة تحرق عقب وفاة زوجها.
وكلنا كما يقول أناطول فرانس «يولد وله لحية».
أي إننا نولد ونحن نحمل من التقاليد القديمة أعباء تجعلنا شيوخا ونحن في المهد. ومن هذه التقاليد احتقارنا للأرملة التي تعد خير طراز للمرأة ترشح للزواج. ومنها أيضا احتقارنا للمرأة، كائنة ما كانت، عذراء أو متزوجة.
وأستطيع أن أؤلف كتابا كاملا عن الأصل أو الأصول السحرية التي جعلت الإنسان القديم، الذي نرث نحن الآن تقاليده، يفصل المرأة عن المجتمع، ويستنجس الأرملة، ويحجب الزوجة. وليس هنا بالطبع مكان هذا البحث.
وقصارى ما أقول أننا نعامل المرأة في أيامنا بحكم التعاليم السحرية القديمة. وكل ما بيننا وبين أسلافنا الذين ماتوا قبل عشرة آلاف سنة أنهم كانوا يقولون إنها نجسة، وأما نحن فنقول إنها رقيقة لطيفة يجب أن نربأ بها عن مفاسد المجتمع. والنتيجة واحدة في الحالين، وهي استبعادها عن النشاط الاجتماعي والثقافي والإنساني.
إن للمرأة، كما للرجل، حقا في أن تحيا حياتها كما تريد. وإن لها حقا في التطور. وقصر حياتها على البيت هو إلغاء لإرادتها، كما هو تعطيل لتطورها.
إن ما تفهمه المرأة المصرية في عصرنا من الشرف هو الشرف الجنسي، ولكننا نحن الرجال نفهم أيضا معاني الشرف الأخرى في السياسة والصناعة والتجارة والأدب والاجتماع.
ونحن الرجال نصوغ حياتنا كما نشاء، ونختار الأسلوب والهدف. أما هي فقد حرمت ذلك.
ونحن الرجال نحيا في المجتمع، وهو بيتنا الكبير، بكل مركباته التي تثير أذهاننا وتربينا وتحركنا إلى التضحية والعظمة، هو مدرستنا، هو جامعتنا.
أما هي فتحيا في البيت. ولا تقل إن في البيت سعادتها؛ لأني لا أحترم المرأة لأنها سعيدة، ولكن لأنها حكيمة رشيدة. وهذا على فرض أن السعادة تغمر البيوت؛ لأن الواقع غير ذلك، وهو ما تخبرك به كل زوجة وكل أم.
والآن أسمع سؤالك: ماذا تريد بالبيت؟ هل تريد أن تترك المرأة بيتها كي تتعلم وتتربى في المجتمع؟
وجوابي أن البيت «يجب» أن يكون أجمل المؤسسات وأنفعها في حياتنا، ويجب أن يكون بؤرة المجتمع. ويجب أن يحتوي أعضاءه من الزوج والزوجة والأبناء، في جو من الحب والشرف. ويجب على كل شاب وكل فتاة أن يبنوا البيوت مادة وروحا، منزلا وعائلة.
ولكن مشكلة البيت لا تعود مشكلة إذا نحن نظرنا للمرأة نظرة المساواة بالرجل، بحيث تتعلم مثله، وتكون شخصيتها مثله، وتحترف إذا شاءت مثله، وتدرس وتختبر حتى تتربى وتتطور مثله، وتشترك في وظائف الدولة مثله.
ومقامها الجديد هذا هو الذي يعين طراز البيت الذي تعيش فيه بحيث يتفق واهتماماتها الأخرى. فقد نعمم القوة الكهربائية في جميع أعمال البيت طبخا وغسلا وكنسا وتبريدا. فلا يكون هناك من المشاق ما يحتاج إلى أن تقصر الزوجة حياتها على المنزل؛ لأن بضع دقائق عندئذ تكفي للطبخ، وأقل منها يكفي الشئون الأخرى. أو قد تكون هناك حلول أخرى للطبخ والغسل.
إننا نجرم حين نعين للمرأة، هذا الإنسان الذي احتاج إلى ألف مليون سنة كي يصل إلى حاله الحاضرة، ألوان النشاط الذي يجب أن تؤديه، وحين نحرمها ألوانا أخرى لمحض الاستبداد وحكم التقاليد.
المرأة الغربية والمرأة المصرية
يختلف «الشرقيون» من الغربيين في كثير من الاعتبارات والشئون الاجتماعية. فإن الشرقيين يمارسون على وجه عام الزراعة، في حين يمارس الغربيون على وجه عام الصناعة.
ويختلفون أيضا من حيث إن الشرقيين «روحيون»، أما الغربيون فماديون. ولكننا عندما نحاول توضيح الفرق أو الفروق بين الروحية والمادية، فإننا نقع في ارتباكات ذهنية لا تحصى، ونخرج من المناقشة لهذا الموضوع ونحن نتساب ونتثالب.
ويختلفون أيضا من حيث إن الشرقيين على وجه عام يحمون المرأة، ويحوطونها بأسوار من الرعاية، بحيث لا تعمل خارج البيت، ولا تكسب مع الرجال للعيش. أما الغربيون فيكلفون المرأة العمل والكسب إلى جنب الزوج.
والاختلافات كثيرة قد عددنا منها ثلاثة. ونستطيع مع ذلك أن نذكر أيضا اختلافا رابعا خطيرا هو أن الغربيين، على وجه عام أيضا، يتسلطون على الشرقيين وينتزعون منهم القطن والكاوتشوك والقصدير والبترول. ويضربونهم إذا ثاروا أو تمردوا.
هذه أربعة اختلافات تستحق الدرس. وعندي أن بؤرة هذه الاختلافات جميعها تنحصر في أن الغرب يمارس الصناعة في حين أن الشرق يمارس الزراعة، وأن الشرقيين لو عقلوا لآثروا إنشاء مصنع على تأسيس جامعة. ولكني أترك هذا الموضوع كي أتناول موضوعا آخر، هو اختلاف النظرتين للمرأة.
المرأة المثلى عندنا هي الخادرة أو المخدرة، التي نحبها ونرفع من شأنها، إلى حد أننا نربأ بها عن أن تعمل كما يعمل الرجال، فتصطدم بالحوادث، وتتلوث بأدران المصنع، وتلهث وراء الآلات، وتختلط بالرجال وتتحدث إليهم وتباريهم في الصبر على الجهد والتدبير للمستقبل. أجل إننا نربأ بها عن أن تكون تاجرة أو صانعة أو نائبة أو وزيرة؛ ذلك لأننا نحب أن تبقى مرتاحة في البيت، لا شأن لها بالفلسفة والسياسة ولا بالكسب أو المزاحمة.
ونحس، نحن الرجال الشرقيين، أننا يجب أن نحوط المرأة بالرعاية والحماية. وبعض منا - نحن الشرقيين - يبالغ في احترامه للمرأة، حتى إنه يحوطها بجدران البيت فلا تخرج منه طوال عمرها ... من ليلة العرس إلى ليلة المأتم. وهذه عناية أقصى العناية، وحماية أقصى الحماية على الأسلوب الشرقي.
ونتيجة هذه العناية أو الحماية العظمى أن المرأة الشرقية تخدر في البيت؛ وتعود خادرة - أي مخدرة - فلا تعمل ولا تفهم أن للحياة هدفا وأنها تحتاج إلى منهج؛ لأن هذا من شئون الرجال وحدهم، أما هي فلها نعيم الراحة وخلو البال.
ولكن هذه الراحة، هذا البال الخلي، هما علة الركود الذهني الذي ينتهي إلى التبلد والتجمد، وعلة الركود الجسمي الذي ينتهي إلى التضخم والترهل؛ ولذلك نحن الرجال هذه الأيام في قلق عظيم عن مصير العالم، كلما قرأنا أخبار كوريا تفززت أعصابنا، وكلما رأينا أثمان القطن تذكرنا أزماتنا. نحن الرجال نقرأ ونعمل، ونختلط بالمجتمع، وتصدمنا الحوادث وتنزل بنا المصاعب، فنتعب ونتألم. ولكن المرأة المصرية الشرقية لا تتعب ولا تتألم.
لنا نحن الرجال آفاق وآمال، نقتحم الأخطار ونتعلم منها. أما هي فمخدرة قد حدت جدران البيت وشئونه من آفاقها وآمالها.
المرأة المصرية الشرقية هي إنسان بلا أخطار، هي إنسان بلا حوادث، هي إنسان بلا تربية؛ لأن الذي يربينا نحن الرجال هو الأخطار والحوادث.
أما المرأة الأوربية فتعمل وتجهد، وتتبذل فيما لا تتبذل فيه المرأة الشرقية. وهي منتجة في الصناعة والزراعة والتجارة والتعليم. وهي تصطدم بالدنيا وكوارثها، وتشترك في الانتخابات، وتجادل وتناقش فيتنبه ذهنها، وقد تتلوث يدها من العمل، ولكنها إذا عادت إلى بيتها تخلصت من هذا التلوث، أو هي لا تباليه لأنها لا تعد نفسها ريحانة الرجل؛ إذ هي مستقلة لها منهج وهدف في الحياة. أجل إنها ليست لعبة الرجل.
هي إنسان قد خلق للمتعة والكارثة، وهي تحيا على المستوى العالي؛ أي هذا المستوى الاجتماعي الذي نحيا نحن الرجال عليه في مصر؛ مستوى التجارب والكوارث والمتع والاختبارات.
ثم هي منتجة.
تأمل هذه الكلمة أيها القارئ وافهم عبرتها؛ كلمة منتجة.
عندما تكون في لندن أو باريس أو نيويورك أو روما عائلة مؤلفة من والدين وثلاث فتيات قد تجاوزن الثامنة عشرة، فإنك تجد أن الخمسة يكسبون، أو على الأقل أربعة يكسبون؛ لأن الأم قد تلزم البيت لخدمتهم.
أما في مصر فإن مثل هذه العائلة لا يعمل فيها غير الأب؛ ولذلك فإن دخله من عمله الفردي لا يكاد يكفي زوجته وبناته الثلاث، فهم يعيشون في عسر. وإذا وقع الأب في البطالة فإنهم يعيشون في جوع.
أما إذا وقع الأب الأوربي أو الأمريكي في البطالة فإن زوجته تعمل وتكسب، وبناته الثلاث يعملن ويكسبن. فلا جوع ولا عسر.
وإنتاج الشرقيين لهذا السبب دون إنتاج الغربيين. هم يعملون وينتجون رجالا ونساء، أما نحن فلا ينتج عندنا غير الرجال. وعلينا نحن الرجال أن نعول النساء والفتيات، وكثيرا ما نعجز عن ذلك. وكثير من فاقتنا السوداء، وبيوتنا البدرومية، ونحول أجسام أولادنا، وتفشي البلاجرة بين فقرائنا، يعود إلى هذا؛ إلى أن المرأة غير منتجة. ونحن لا نعلمها ولا ندربها على الإنتاج، ولا نلحقها بالمصنع أو المتجر كي تكسب.
وبالإيجاز نقول إن النظرة الغربية للمرأة هي أن تعمل وتنتج وتكسب كالرجل سواء، وأنها يجب ألا تلتزم البيت إلا وقت المرض أو الولادة، وعليها أن تخرج وتتعب وتعرق وتلهث وتصطدم بالدنيا وتتعلم من كوارثها.
ويجب أن تقع الكوارث بكل إنسان؛ لأنها ما دامت لا تقتلنا فإنها تعلمنا. هي تجربة نزداد بها خبرة وحكمة؛ أي نصير بها حكماء. وإنسان بلا كوارث هو إنسان أخضر، فج، ناعم، بليد، جاهل.
ولكن هذا الإنسان الأخضر الفج الناعم البليد الجاهل هو ما يريد الشرقيون لنسائهم. فهم يحمونهن في البيت، ويربئون بهن عن التلوث بأدران المجتمع. وهذه الحماية تحميهن من الكوارث، من التجارب، من الذكاء المدرب والعقل المفتوح، واكتساب الحكمة والبصيرة.
إن الغربيين يعرفون أن الإنسان ليس كرسيا نقعد عليه فيبلى وإنما هو جسم حي ينمو ويتعلم ويتدرب بالحركة والتفكير والجهد؛ ولذلك جعلوا نساءهم يعملن ويكسبن، وأشركوهن في الحكم والقضاء والتعليم والسياسة والعلوم والفنون.
أما نحن فإننا نحميهن في البيت حتى لا يتلوثن بالمجتمع، مع أن هذا المجتمع هو الذي نختلط به نحن الرجال فيربينا ويكسبنا القيم الاجتماعية التي يسميها بعضنا روحية.
لقد ذكرت في بداية هذا المقال أربعة اختلافات أو فروق بين الشرقيين والغربيين، وأحصيت منها ذلك الفرق أو الاختلاف المهين، وهو أن الغربيين يتسلطون على الشرقيين وينتزعون منهم القطن والكوتشوك والقصدير والبترول، ويضربونهم إذا ثاروا أو تمردوا. والآن أقول إنه لو كانت المرأة تعمل عندنا وتكسب، ولو كنا نمارس الصناعة، لما استطاع الغربيون أن يضربونا أو يتسلطوا علينا.
يجب ألا نكون شرقيين، ويجب أن نوقن بأن هذا التفريق بين الشرق والغرب هو تفريق استعماري يراد منه سيادة الغرب على الشرق.
كلنا بشر لا نختلف إلا من حيث الرقي والانحطاط.
الذكاء والعبقرية والمرأة
التفاوت في مقدار الذكاء بين شخص وآخر حقيقة نلمسها كل يوم ونسلم بها، وهذا التفاوت طبيعي واجتماعي.
فأما التفاوت الطبيعي فهو ما نولد به ونرثه من عائلتنا؛ أي من الأبوين ، وأيضا من أسرتنا؛ أي من الأرومة التي نشأنا منها وتحتوي أعمامنا وأخوالنا وجدودنا. وأدنى دراية بالوراثة تبين لنا تأثير الأسرة في كفاءة الفرد الذي ينتمي إليها.
ولكن الذكاء الذي يبدو في سلوك الناس إنما يعود إلى أسباب اجتماعية أكثر مما يعود إلى الأصول الطبيعية. وهذا هو موضوعنا.
الذكاء اجتماعي ينشأ من الاختلاط بالمجتمع، ومن كلمات اللغة التي يستعملها هذا المجتمع، ومن الاشتباكات في شئونه، والاهتمامات بمصالحه، ومن المصادمات التي نلاقيها حين نحاول أن نلائم بين رغباتنا وبين قواعده وقوانينه وعقائده. وعلى قدر هذه الاشتباكات والاهتمامات والمصادمات يكون ذكاؤنا بل عبقريتنا.
وليس أسهل من أن نبرهن على صحة ما نقول؛ إذ يكفي أن نفرض أن هناك شخصا موهوبا بالمواهب الطبيعية في الذكاء قد ولد وعاش في صحراء، منفردا بلا مجتمع وبلا لغة. فأين يكون ذكاؤه الطبيعي؟
إنه لا يعرف اللغة وهو لذلك لا يستطيع التفكير إلا بمقدار ضئيل جدا؛ ذلك لأن الكلمات أفكار. ونحن نتفاهم (أي نفهم) بالكلمات.
ونستطيع أن نقول، لهذا السبب، إن الفهم اجتماعي، وإنه على قدر اختلاطنا بالمجتمع يكون فهمنا وذكاؤنا، بل تكون عبقريتنا.
إذن من هو العبقري؟
عندما يكون أحدنا عبقريا في موضوع معين، يفكر فيه ويفتق في معانيه ويبتكر ويغير، فإنما يفعل كل ذلك لأنه تعمق هذا الموضوع؛ أي اهتم به واشتبك في تفاصيله وتردد بين مشكلاته. وما نسميه موضوعا علميا أو أدبيا أو فنيا إنما هو في النهاية موضوع اجتماعي؛ إذ ليس لكل هذه الأشياء أية دلالة إلا من حيث ارتباطها بالمجتمع. ونحن لا ننشط إلى بحثها إلا بحوافز اجتماعية.
وإذن الرجل العبقري هو الرجل الذي اهتم بالمجتمع واشتبك في مشكلاته أكثر من غيره، فتفتقت له معان من هذه الاشتباكات أكثر من ذلك الذي لم يشتبك والذي يعد، بالمقارنة إليه، كأنه في صحراء.
الذكاء والعبقرية هما صفتان اجتماعيتان. ونحن أذكياء ونحن عباقرة بقدر اهتمامنا بالشئون الاجتماعية التي نشتبك فيها ونحاول حلها ونكافح بآرائنا وعواطفنا فيها.
اعتبر رجلا قد ولد بمواهب طبيعية ممتازة، ولكنه - لسبب ما - منكفئ محجم لا يشتغل بشئون المجتمع، فهو هنا لا يبلغ في الذكاء ما يبلغه رجل لم يوهب مثله تلك المواهب الطبيعية ولكنه اشتبك بشئون المجتمع واهتم بها.
إننا كثيرا ما نجد شابا أو فتاة على ذكاء طبيعي كبير. والفحص عن قيمة هذا الذكاء أو مقداره سهل، ولكننا عندما نترك هذا الفحص الابتدائي للكفاءة الوراثية البيولوجية، نجد مثلا أن هذا الشاب أو هذه الفتاة لم يبديا أي نشاط يدل على ذكائهما. بل إنهما حين يعالجان موضوعا من الموضوعات العامة يبدو عليهما القصور الذي يقارب الغفلة. فما هو السبب؟
السبب أن كلا منهما قد نشأ في قيود نفسية وذهنية داخلية جعلت الخوف يشل ذهنه. ونحن نسمي هذا الخوف حياء أو وقارا. ولكن هذا الحياء أو هذا الوقار هو في صميمه خوف من التفكير والتعبير. أي إنه قيد لحرية التفكير والتعبير.
ذلك أن هناك عادات وقواعد وتقاليد تحول بيننا وبين التفكير الحر؛ أي التفكير السلس الذي يمضي في طريقه بلا عقبات. وأحيانا يمنعنا الخوف من العقوبة من التفكير الحر.
اعتبر الزنوج مثلا في أفريقيا الجنوبية، فإن البيض يقولون عنهم إنهم سلالة منحطة من البشر لا يحسنون التفكير؛ أي هم أغبياء.
وهم صادقون في اتهام الزنوج بالغباوة، ولكن ليس مرجع هذه الغباوة أن مواهبهم الطبيعية (التي ولدوا بها) ناقصة؛ إذ هم لا يختلفون في الذكاء «الطبيعي» عن الأوربيين، وإنما هم غير أذكياء لأنهم نشئوا وحولهم أسيجة تحول بينهم وبين الاهتمام بالشئون الاجتماعية والسياسية العامة. فحين تكون الانتخابات، للمجالس البلدية أو للبرلمان، لا يكون لهم رأي. وإذن هم لا يفكرون في هذه الشئون. ثم هم يمنعون من التعليم الجامعي الذي يرفعهم إلى اهتمامات اجتماعية. وهم أيضا لا يحصلون على المقدار الكافي من النقود التي تبعث فيهم الاستطلاع بالاستمتاع في شئون مختلفة. وتنتهي حالهم إلى أن يضعوا هم أنفسهم أسيجة داخلية يمتنعون بها عن التفكير؛ أي إنهم يعطلون ذكاءهم.
السياج الخارجي الذي وضعه الأوربيون لمنعهم من الاهتمامات الاجتماعية يؤدي إلى إقامة سياج داخلي يمتنع به الزنوج عن هذه الاهتمامات طلبا للسلامة.
وهم في كل ذلك يخافون البيض. وليس مثل الخوف عامل يشل التفكير ويحطم الذكاء. كما ليس مثل الحرية والشجاعة عامل يبعث التفكير وينبه الذكاء.
وليس للزنجي، في أفريقيا الجنوبية، شخصية، ولا يمكن أن تكون له عبقرية؛ لأن الشخصية والعبقرية اجتماعيتان. وحين نحرم الزنجي النشاط الاجتماعي نحرمه أيضا هاتين الميزتين.
ولكن ليس من الضروري أن نكون زنوجا محرومين كي تتبلد أذهاننا؛ لأن بيننا كثيرين قد استقر الرق في قلوبهم وعينوا لأنفسهم حدودا لا يتخطونها في التفكير الاجتماعي أو الفلسفي أو العلمي أو الأدبي أو الاقتصادي. وهذه الحدود هي أسيجة داخلية تعوقهم عن الوصول إلى الذكاء فضلا عن العبقرية.
على قدر اهتماماتنا واشتباكاتنا بالمجتمع في نظمه المختلفة، وفي علومه وآدابه وفنونه، وعاداته وعقائده، وثروته واقتصاده، وممكناته وتاريخه، تكون قدرتنا على التفتيق في كل هذه الأشياء؛ أي يكون ذكاؤنا بل عبقريتنا.
وأيما حدود تفرض علينا من الخارج، أو نفرضها نحن على أنفسنا من الداخل للخوف أو الوقار أو الحياة، حتى لا نبحث هذا الموضوع أو لا نتساءل ونستطلع، هذه الحدود تعطل ذكاءنا وتلغي عبقريتنا.
وهذا هو حال المرأة في جميع الأمم.
وصحيح أن هذه الحدود قد حطم الكثير منها في الأمم الأوربية والأمريكية وبعض الآسيوية، وأصبحت المرأة تستمتع بقسط غير صغير من الحرية؛ وبذلك بدأ ذكاؤها كما أصبحت لها شخصية.
ولكنها لا تزال بقوة التقاليد والعادات الاجتماعية تقيم هي لنفسها حدودا داخلية تمتنع بها عن الكثير من النشاط الاجتماعي؛ وبذلك تحد من ذكائها.
وفي نظمنا الاجتماعية تخاف المرأة أكثر من الرجل، وهذا الخوف يشل تفكيرها ويجعلها تحجم وتتراجع، في حين يقدم الرجل ويجرؤ.
لقد نالت المرأة حريتها الخارجية في أوربا، ولكنها إلى الآن لم تحقق حريتها الداخلية. وهي هنا مثل المرأة المصرية التي تحررت عمليا من الحجاب المنزلي، ولكنها لا تزال، نفسيا واجتماعيا، في الحجاب.
والمرأة لذلك أقل ذكاء من الرجل.
هي أقل ذكاء لا لأن مواهبها الطبيعية الوراثية تنقص عن مواهب الرجل؛ وإنما لأنها تخاف أكثر منه بحكم الأوضاع الاجتماعية. وأيضا هي تحيا في قيود وأسيجة ذهنية نفسية تحد من تفكيرها.
إن الذكاء اجتماعي. وعلى قدر اختلاطنا واهتمامنا بالمجتمع نفتق في معانيه. ولكن المرأة التي حرمت هذا الاختلاط، وهذا الاهتمام، قد حرمت أيضا هذا التفتيق في المعاني الاجتماعية، وعطل ذكاؤها، ولم تتكون لها شخصية لهذا السبب.
ونحن حين نحدد نشاط المرأة بالبيت نحدد أيضا ذكاءها؛ إذ ما هي شئون البيت؟ هل هذه الدائرة المنزلية والاهتمامات المتعلقة بمصلحة أربعة أو خمسة أشخاص تكفي لتربية الذكاء؟
إن المقارنة السريعة بين سيدة تؤدي عملا تجاريا أو ماليا أو حكوميا أو صحفيا أو تعليميا، بامرأة لا تؤدي غير الواجبات المنزلية توضح لنا الصفة الاجتماعية للذكاء؛ إذ على قدر الاختلاط بالمجتمع يكون الذكاء، وعلى قدر الحرمان يكون التبلد.
وكذلك الشأن فيما نسميه «شخصية»، فإنما تكبر الشخصية بمقدار ما يتناول الشخص من ارتباطات ومسئوليات اجتماعية وبمقدار ما يهتم بالسياسة والاقتصاد والارتقاء العام. وشئون المنزل لا تكفي لإيجاد الشخصية الناضجة لهذا السبب.
وعندما يقول أحد إن المرأة أقل ذكاء من الرجل أجدني أصدقه. ولكن امتياز الرجل عليها يعود إلى أنه يعمل في مجتمع تتعدد مرافقه ومعارفه على آفاق رحبة تزيد اختباراته، بينما هي تعمل في مجتمع البيت تخدم خمسة أو ستة أشخاص، فاختباراتها ومعارفها محدودة.
ولذلك أيضا نجد في مصر محاميات وطبيبات ومعلمات وموظفات بالحكومة والبنوك والمتاجر لكل منهن شخصية تتمتع بذكاء وأحيانا بعبقرية كالرجال سواء؛ لأنها اختبرت المجتمع وانتفعت باختباراتها منه مثل الرجل.
لأن الذكاء والعبقرية والشخصية صفات اجتماعية أكثر مما هي ميزات طبيعية موروثة، بل لا يكاد يكون للميزات الوراثية غير أقل الأثر فيها.
إن الذين اتصلت حياتهم بحياة المسجونين، وأمضوا مددا طويلة في السجون في بعض وظائفها، يتهمون هؤلاء المسجونين ببلادة الذهن ووحشية الإحساس؛ ولذلك نجد أن السجان يقسو عليهم ويغلظ في معاملتهم اعتقادا بأنهم من الحيوانات وليسوا من الناس، وأنهم كذلك لفطرتهم التي ولدوا بها. وبعيد أن تجد سجانا يقول بأن المسجونين يمكن إصلاحهم أو تربيتهم أو يجب أن نعاملهم بالرقة والعطف والإنسانية؛ ذلك أنه مقتنع بأنهم أشرار بطبيعتهم ومحال إصلاحهم. وهو هنا لا يختلف من أولئك الكتاب بل «الأدباء» الذين يصفون المرأة باللؤم ويقولون كما قال مصطفى صادق الرافعي: «قيل لحية سامة: أكان يسرك لو خلقت امرأة؟ قالت: فأنا امرأة غير أن سمي في الناب وسمها في لسانها.»
هذا الاحتقار، هذا البغض للمرأة، إنما يرجع إلى أننا حبسناها في البيت - كما نسجن المجرمين في السجن - وحرمناها الكثير من الحقوق البشرية البدائية، ثم فوق ذلك حرمناها هذا الذكاء الإنساني الذي ينشأ من الاختلاط بالمجتمع. وفي وسط هذا البيت، تحت ضغط الحرمان، نشأت عندها من المكر ألوان احتاجت إليها كي تحيا بها وتحصل على القليل الممكن من حقوقها.
وإنما تبلد المسجونون وفقدوا ذكاءهم وشملتهم وحشية لأنهم حرموا الحياة في المجتمع، فحرموا الإحساسات الإنسانية والذكاء الاجتماعي، وكذلك المرأة حرمناها المجتمع وحبسناها في البيت لا تعرف ولا تعامل من البشر غير زوجها وأطفالها، فحرمت الذكاء الاجتماعي وتبلدت عواطفها. وعند ذلك، اتهمناها بالنقص في الذكاء وبالمكر، بل وصفناها بأنها «حية سامة».
وأرجو ألا يظن القارئ أني أنتقص من قيمة البيت، فإنه بلا شك مملكة المرأة. وإنما أقصد إلى أن المرأة، كي يبقى ذكاؤها يقظا ومعارفها في توسع وتجدد، يجب أن تحيا أيضا في المجتمع كما تحيا في البيت، وأن يكون لها نشاط دستوري ومدني واجتماعي وثقافي حتى تتعدد اهتماماتها، وحتى تبقى عضوا متطورا عاملا في ارتقاء الأمة وتطورها، وحتى تتكون شخصيتها وتنضج مثل الرجل سواء.
نساؤنا المتعطلات
أعظم ما يكسبنا الكرامة الذاتية بحيث نصمد للحوادث ونتغلب على الصعوبات، هو إحساسنا بأننا ننتج وأن لنا قدرة على أن ننفع ونخدم، وأن لنا براعة أو مهارة في عمل معين، ولنا نشاط نؤديه ونسر به. وقد لا نكسب شيئا من هذا الإنتاج، ولكن إحساسنا به يجعلنا نحس بكرامتنا الذاتية.
فإذا أضيف إلى إنتاجنا كسب مالي نعيش به، فإن كرامتنا لن تكون ذاتية فقط بل اجتماعية أيضا؛ لأن المجتمع الاقتنائي الذي نعيش فيه يحترم القيمة المالية لكل إنسان ، وبناؤه يقوم على هذا الأساس قبل أن يقوم على الإنتاج أو الخدمة؛ ولذلك هو يحترمنا، في أغلب الأحوال، بقدر نجاحنا في جمع المال.
وحين نفقد، نحن الرجال، القدرة على الإنتاج والقدرة على الكسب؛ أي حين نعطل عن العمل، نحس أننا قد فقدنا كرامتنا الذاتية وكرامتنا الاجتماعية معا. وهذا الإحساس يتعسنا لأن الإنسان اجتماعي، وهو يحب ويجهد على الدوام كي تكون له مكانة اجتماعية مرموقة. وكثيرا ما أرى المعطلين من الشبان في حال من الذهول الذي يقارب الجنون بسبب تعطلهم، وهم يحاولون أحيانا تغطية هذا الإحساس بشتى ألوان النشاط السطحي أو المزور، أو حتى الإجرامي، كي تخف حدة توتراتهم الناشئة من التعطل والعقم.
وقد يكون للرجل الفارغ - أي المعطل - مال موروث يعيش منه، وهو يكسب منه الكرامة الاجتماعية؛ أي احترام الناس، ولكنه حين يتأمل نفسه لا يجد الكرامة الذاتية؛ إذ هو غير منتج، لا يصنع سلعة ولا يؤدي خدمة. وقد يدفعه هذا الإحساس إلى أن يكون غير اجتماعي أيضا؛ أي يستحيل إلى كتلة مطبقة من الأنانية ينشد اللذات والمتع الشخصية فقط. وكثيرا ما نجد بعض الوارثين على هذه الحال، أحاديثهم عن مباريات كرة القدم أو جياد السباق، أو اقتحاماتهم في باريس أو القاهرة، أو معاكساتهم لجيرانهم في الزراعة إذا كانوا من أثرياء الريف، أو نحو ذلك.
الرجل الفارغ الثري؛ أي المعطل الثري، هو أسوأ الطرز الاجتماعية للإنسان. وقد كان الإقطاعيون على هذا الحال في بلادنا، وكان فسادهم يتجاوزهم إلى فساد من يحيطون بهم. وكانوا يفسدون لأنهم معطلون فقدوا الكرامة الذاتية بسبب التعطل. ولو أنك فجأت واحدا منهم وهو قاعد في استرخاء الكسل، لوجدت أفكاره وخواطره التي تشغله إما إجرامية مؤذية، وإما جنسية مهلكة، وإما سخيفة مضحكة. وهو طاقة متربصة للأعمال والملذات الشاذة أو المؤذية.
إن السلوك الاجتماعي الحسن يقتضي من كل فرد في المجتمع إنتاجا حسنا. والرجل الفاضل إنما يقاس فضله بأنه أنتج أكثر مما استهلك، فإذا كان إنتاجه كبيرا فإن فضله أيضا كبير. أما إذا كان استهلاكه أكبر من إنتاجه فإنه عبء على المجتمع، وهو بمثابة السل الذي يتأكل جسمه وينقص كفاءته.
هذا هو مقياس الرجل الفاضل في عصرنا العلمي الفلسفي، وقل عنه ما شئت بعد ذلك، ولكنه فاضل لأنه عندما يموت سيكون المجتمع الذي عاش فيه أغنى بحياته مما كان قبل أن يولد. أغنى في الثراء النفسي أو الثراء المادي أو الثراء الذهني؛ أي أغنى لأنه وجد منه سلعة أو خدمة.
ولكن هذا الذي ذكرناه عن الرجل ينطبق بكل قوته على المرأة؛ إذ هي إنسان مثله لها كرامة ذاتية وكرامة اجتماعية، إذا أنتجت أحست بالكرامة، وإذا عطلت عن العمل المنتج أحست بكل ما يحسه الرجل المعطل، وأضرت المجتمع بكل ما يضر به الرجل المعطل حتى ولو كان ثريا.
والمرأة في بلادنا، في الطبقة المتوسطة المتيسرة وفي الطبقة العالية الثرية، لا تعمل ولا تنتج. وهي، بما لها من خدم يحرمونها حتى العمل في البيت، تقعد فارغة في المنزل. وهذا الفراغ يؤذيها؛ إذ هي تسأمه. وقد تعالج هذا السأم بضروب من العلاجات التي تهتدي إليها بتفكيرها أو بالأحرى بخواطرها السائبة.
فهي ترفه عن نفسها وتطرد هذا السأم بالإسراف في التدخين حتى تفقد جمالها وصحتها. أو هي تأكل كثيرا لأن المضغ المستمر يجعلها تحس لذة طفلية سرعان ما تتملكها فتسرف في الشره حتى تسمن وتعود كتلة قبيحة من السمن. أو هي تلجأ من وقت لآخر إلى السرير للاسترخاء وتستسلم لخواطر جنسية مرفهة قد تنتهي بتراكمها وتكرارها إلى الوقوع في الإثم.
وفراغ المرأة - أي تعطلها - أسوأ من فراغ الرجل؛ لأنه هو يستطيع أن يشغله في نشاط اجتماعي، أما هي فلا تجد في مجتمعنا الانفصالي ما يتيح لها هذا النشاط، فهي تقعد في البيت تجتر خواطرها. ولا يمكن أن يؤدي هذا الاجترار إلى صحة النفس.
الرجل الثري الفارغ يختلط بالمجتمع في نشاط قد يكون سطحيا ولكنه يخفف عنه توترات التعطل. فهو يغشى الملاهي ويعشق السباحة، ويزور الأقطار الأجنبية، ويعرف المقاهي والأندية، وله أصدقاء يسامرونه في المقهى والنادي. ثم فوق هذا له حقوق في سياسة بلاده، فهو يقرأ الجريدة أو المجلة بإحساس المسئولية أو الطموح. وهو في كل هذا يجد الصحة النفسية، أو على الأقل لا يجد بواعث المرض النفسي.
أما المرأة الثرية الفارغة - أي المتعطلة - التي حرمناها الاختلاط بالمجتمع، فتقعد في البيت وحيدة منعزلة، قد تقرأ الجريدة أو المجلة ولكن شئون بلادها عندئذ لا تختلف من شئون الصين أو اليابان إذ هي محرومة الحقوق في هذه الشئون، فهي متفرجة غير مشتركة. ولذلك تستسلم لخواطر، بل هواجس، انفرادية أو جنسية أو إجرامية، كما تستسلم لعادات اجتماعية سيئة.
إن من حق المرأة المصرية أن تجد مثل نساء العالم المتمدن العمل الاجتماعي المنتج الذي يشعرها أنها إنسان اجتماعي نافع.
إن هناك عشرات الآلاف من نسائنا الأرامل أو المطلقات أو العواقر اللاتي لا يعملن، بل يبقين في البيت معطلات. وبطالتهن مجموعة من المساوئ؛ إذ هي عقم ذهني وترهل جسمي. أو هي نشاط انفرادي ضار وسأم يضني حياتهن. وهن لهذا الوضع لا يجدن البواعث لأي نشاط اجتماعي، حتى الجريدة لا يقرأنها. لأنهن محرومات من حقوقهن في السياسة، فلا يجدن الاهتمام لبحثها، وإنما يقضين فراغهن في قراءة القصص الغرامية والمجلات الرخيصة.
وقراءة الجريدة، ودراسة الكتاب، كلتاهما نشاط اجتماعي وليس انفراديا؛ لأننا نقرأ وندرس المجتمع أو أشياء المجتمع، فإذا فصلنا منه فإننا لا نجد الباعث للقراءة أو الدراسة الجدية، ولذلك ليست نساؤنا المعطلات حبيسات البيت وإنما هن أيضا حبيسات الجهل.
إن كل امرأة فاضلة يجب أن تعمل، وأن تحس أنها تنتج للمجتمع أكثر مما تستهلك. ولست أنسى هنا أن إنتاج الأبناء هو أعظم أنواع الإنتاج وأشرفه، ولكن المرأة لا تقضي عمرها كله، أو 365 يوما في السنة، في هذا الإنتاج. ثم هي قد تكون عاقرا، فلم نحرمها أنواع الإنتاج الأخرى؟
إن زوجة العامل، وكذلك زوجة الفلاح، تعملان وتنتجان إما في المنزل أو في الحقل، بل كذلك تفعل الزوجة في الطبقة المتوسطة الفقيرة التي تعنى بأبنائها وتدبر منزلها. ولكن الزوجة في الطبقة العالية الثرية، وكذلك في الطبقة المتوسطة المتيسرة، لا تجد ما تعمله في البيت. فيجب أن تعمل خارجه.
إن إحساس الإنتاج هو إحساس الصحة النفسية، وهو إحساس الخير الاجتماعي. وهو إحساس الصلاح في المعنى العصري. فيجب أن نجعل قلب المصرية وضميرها يحفلان ويشبعان من هذه الإحساسات البارة النبيلة.
إن إدارة متجر للبقالة، أو الفواكه، أو الأقمشة، أو الأزياء، أو الأجهزة الكهربائية الجديدة، مثل الثلاجات والراديوات والغسالات، هذه الأعمال وغيرها مما تمارسه المرأة المحترفة كالطب والتمريض والتعليم، يصل بين المرأة وبين المجتمع ويجعلها تختلط فتتربى وتعرف وتنمو.
وليس الاختلاط هنا للتفرج وإنما هو للإنتاج والخدمة؛ وعندئذ تتفاعل المرأة بالمجتمع، فينمو ذكاؤها بالتدريب وتكبر شخصيتها بالمسئولية وتزداد بصيرة في الدنيا وحكمة في العيش.
وقد تكون بعض الأعمال التي ذكرتها هنا متواضعة، ولكنها خير ألف مرة من بقاء المرأة بالبيت معطلة تتعفن وتركد ولا تنمو ولا تتربى بالمعرفة والاختلاط.
إن غايتنا في هذه الدنيا أن نكبر وننضج ولا يمكن ذلك للمرأة إذا كنا نحبسها في البيت ونعطل ذكاءها ونلغي شخصيتها. ومن حق المرأة أن تحيا الحياة الحرة المسئولة، ولا تمكن مسئولية بلا حرية حتى تجد الكرامة الإنسانية وحتى تعرف الآفاق الاجتماعية في الخير والشرف والخدمة والفهم.
من رفاعة الطهطاوي إلى قاسم أمين
كان رفاعة رافع الطهطاوي من علماء الأزهر، ولد في طهطا سنة 1216ه ومات في القاهرة سنة 1290.
وكان إماما في الجيش، فلما أرسل محمد علي بعض الضباط من هذا الجيش، وكلهم من أبناء الشراكسة والأتراك إلى باريس كي يتعلموا، أرسل معهم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي كي يكون إمامهم.
أي إن أعضاء البعثة كانوا يتعلمون، أما هو فكان يؤدي وظيفة الإمامة لهم. ولكنه تعلم اللغة الفرنسية وحده بلا مدرسة. ولما عاد إلى مصر كان أول من حرر الوقائع المصرية. ثم عين ناظرا لمدرسة الألسن، ثم ناظرا لمدرسة الخرطوم. ثم بقي سائر حياته عاطلا أو بالأحرى معطلا.
وألف نحو عشرين كتابا منها كتاب «المرشد الأمين للبنات والبنين» وكان يستعمل للمطالعة في مدارس مصر إلى أن دخل الإنجليز، فمنع استعماله لأنه كان يدعو إلى تعليم البنات. والاستعمار ، مثل الرجعية، هو أعدى الأعداء لنهضة المرأة وتعليمها.
والطبعة الأخيرة لهذا الكتاب صدرت سنة 1289ه؛ أي قبل 84 سنة. والأغلب أنه ألفه قبل مائة سنة أي حوالي سنة 1860م.
ونحن نجد هنا رجلا أزهريا زار باريس قبل نحو 120 سنة، فكان يعقد المقارنات بين فرنسا ومصر، وبين المجتمع الفرنسي والمجتمع المصري، وبين المرأة الفرنسية والمرأة المصرية.
وكان من أثر هذه المقارنات أن تفتق ذهنه وتبلور ذكاؤه في بعض الشئون الاجتماعية، ففهم وفطن ثم بصر. وأنا أنقل هذه الكلمات التالية عن كتابه هذا «المرشد الأمين للبنات والبنين»، وعنوان الفصل هو «في تشريك البنات مع الصبيان في التعلم والتعليم وكسب العرفان»:
ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معا لحسن معاشرة الأزواج، فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك. فإن هذا مما يزيدهن أدبا وعقلا ويجعلهن بالمعارف أهلا ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظمن في قلوبهم ويعظم مقامهن لزوال ما فيهن من سخافة العقل والطيش، مما ينتج من معاشرة المرأة الجاهلة لامرأة مثلها. وليمكن للمرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها. فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة. وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء؛ فإن المرأة التي لا عمل لها تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها وفيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويفرشون، وفيما عندهم وعندها وهكذا ... وأما القول بأنه لا ينبغي تعليم النساء الكتابة، وأنها مكروهة في حقهن ارتكازا على النهي عن بعض ذلك في بعض الآثار، فينبغي أن لا يكون ذلك على عمومه. ولا نظر إلى قول من علل ذلك بأن من طبعهن المكر والدهاء والمداهنة ولا يعتمدن على رأيهن لعدم كمال عقولهن. فتعليم القراءة والكتابة ربما حملهن على الوسائل غير المرضية ككتابة رسالة إلى زيد ورقعة إلى عمرو وبيت شعر إلى خالد ونحو ذلك. وإن الله تعالى لو شاء أن يخلقهن كالرجال في جودة العقل وصواب الرأي وحب الفضائل لفعل، فكأن الله تعالى خلقهن لحفظ متاع البيت ووعاء لصون مادة النسل. فمثل هذه الأقوال لا تفيد أن جميع النساء على هذه الصفات الذميمة ولا تنطبق على جميع النساء، وكم من نهي وردت به الآثار كحب الدنيا ومقاربة السلاطين والملوك والتحذير عن الغنى. فقد حمل على ما يعقبه شر وضرر محقق. وتعليم البنات لا يتحقق ضرره، فكيف ذلك وقد كان من أزواجه
صلى الله عليه وسلم
من يكتب ويقرأ كحفصة بنت عمر، وعائشة بنت أبي بكر، رضي الله عنهما وغيرهما من نساء كل زمن من الأزمان. ولم يعهد أن عددا كثيرا من النساء ابتذلن بسبب آدابهن ومعارفهن. على أن كثيرا من الرجال أضلهم التوغل في المعارف، وترتب على علومهم ما لا يحصى من شبه الخروج والاعتزال. وليس مرجع التشديد في حرمان البنات الكتابة إلا التغالي في الغيرة عليهن من إبراز محمود صفاتهن أيا ما كانت في ميدان الرجال تبعا للعوائد المحلية المشوبة بحمية جاهلية. ولو جرب خلاف هذه العادة لصحت التجربة؛ فإننا لو فرضنا أن إنسانا أخذ بنتا صغيرة السن مميزة وعلمها القراءة والكتابة والحساب وبعض ما يليق بالبنات أن يتعلمنه من الصنائع كالخياطة والتطريز إلى أن تبلغ خمس عشرة سنة ثم زوجها لإنسان حسن الأخلاق كامل التربية مثلها فلا يصح أنها لا تحسن العشرة معه أو لا تكون له أمينة. ومثل ذلك سائر البنات، فإن تعليمهن في نفس الأمر عبارة عن تنوير عقولهن بمصباح المعارف المرشد لهن، فلا شك أن حصول النساء على ملكة القراءة والكتابة وعلى التخلق بالأخلاق الحميدة والاطلاع على المعارف المفيدة هو أجمل صفات الكمال، وهو أشوق للرجال المتربين من الجمال. فالأدب للمرأة يغني عن الجمال، لكن الجمال لا يغني عن الأدب لأنه عرض زائل. وأيضا آداب المرأة ومعارفها تؤثر كثيرا في أخلاق أولادها؛ إذ البنت الصغيرة متى رأت أمها مقبلة على مطالعة الكتب وضبط أمور البيت والاشتغال بتربية أولادها جذبتها الغيرة إلى أن تكون مثل أمها، بخلاف ما إذا رأت أمها مقبلة على مجرد الزينة والتبرج وإضاعة الوقت بهذر الكلام والزيارات الغير اللازمة حيث تتصور البنت من الصغر أن جميع النساء كذلك فتألف ذلك من صغرها، فشتان ما بين هذه وبين من تعتمد على معارفها وآدابها وتفعل ما فيه إرضاء بعلها وتربية أولادها لأنها شبت على ذلك كما قال البوصيري رحمه الله:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وقد قضت التجربة في كثير من البلاد أن نفع تعليم البنات أكثر من ضرره، بل إنه لا ضرر فيه أصلا.
هذا هو ما أردت أن أنقله من هذا الأزهري العظيم الذي بصر بقيمة التعليم للمرأة قبل مائة سنة حين كانت الدنيا في مصر قتاما وظلاما.
ولكن لماذا لم تثمر هذه الدعوة؟
أعظم ما جعل هذه الدعوة عقيمة هو الاستعمار الذي لم يسمح للحكومة المصرية بإنشاء مدرسة ثانوية واحدة للبنات. ولذلك لم ننشئ نحن هذه المدارس إلا في سنة 1925 بعد أن تخلصنا بعض الشيء من القيود الاستعمارية.
ولكن شيئا آخر عاق هذه الدعوة، هو أن رفاعة الطهطاوي لم يدع إلى السفور، وكأنه كان راضيا بأن تتعلم المرأة وتبقى في البيت لا تخرج إلى المجتمع ولا تختلط به. بل إن نظرته للمرأة من ناحية تعليمها إنما كانت قائمة على أنها يمكن أن تزيد صلاحيتها بالزواج وخدمة الرجل وأولادها عندما تكون متعلمة؛ أي إنه لم يرتفع إلى غاية التعليم للمرأة من تربية شخصيتها وإنسانيتها بصرف النظر عن زواجها أو عزوبتها.
ولذلك احتجنا إلى قاسم أمين الذي دعا إلى السفور قبل نحو ستين سنة.
وكلاهما، رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين، عاش في باريس، ولكن قاسم أمين كان أنضج وأبصر في التفطن لمعاني الحضارة الأوربية. ولذلك دعا إلى السفور؛ أي دعا إلى اختلاط المرأة بالمجتمع، تدرس شئونه وتحيا الحياة المستقلة التي تمليها عليها شخصيتها.
ونحن الآن أكبر من قاسم أمين ومن رفاعة الطهطاوي معا لأننا قد ارتقينا إلى فهم جديد لمقام المرأة في العائلة وذلك بإيجاد قيود تحول دون الإساءة بالإسراف في الزواج أو الطلاق.
وهذا الفهم الجديد أملته علينا حال اجتماعية جديدة، هي يقظة نحو عشرين ألف امرأة قد احترفن التعليم والطب والتجارة والصناعة والصحافة، ونحو مائة ألف عاملة مصرية يعملن ويرتزقن في المصانع.
وهؤلاء جميعا يؤلفن طبقة جديدة من النساء لم يعرفها تاريخنا الماضي، وهن اللائي أملين علينا هذه الإصلاحات الجديدة للعائلة، وهن اللائي غرسن في نفوسنا هذا الاحترام لهن والعناية بمصالحهن. وهن اللائي حملن لجنة الدستور على الاعتراف بالقليل من حقوقهن.
نصفنا الآخر
قبل أسابيع سألتني مجلة «الجيل الجديد» عن رأيي في لجنة الدستور من حيث ما ينقصها، فقلت إنه ينقصها أن يكون نصف أعضائها من النساء؛ أي ينقصها 25 امرأة يشتركن في وضع الدستور الجديد.
ولا بد أن القراء قد ضحكوا، كما ضحكت أنا، عندما أعطيت هذه الإجابة. فإن الجمعيات النسوية كانت تقنع بحضور واحد منها، وقد رفضت الحكومة اختيار هذا العضو من النساء، فكيف بي أتقدم باقتراح 25 عضوا؟
ولكني بإجابتي هذه إنما أردت أن أرج النائم حتى يستيقظ. فإننا قد نزلنا بمقام المرأة إلى حد لم يعد لها فيه ذكر، حتى إن اللجنة التي تبني نظام الدولة في المستقبل لا تبالي أن يكون بها امرأة واحدة.
فإن الجمهورية المصرية تحوي عشرين مليون إنسان، منهم عشرة ملايين من النساء. ولو أننا عرضنا على أحد البدائيين، الذين لم ترتبك رءوسهم بالمركبات الاجتماعية ولم ينشئوا على العادات المصرية، هذه المشكلة كي يحلها بسذاجته وفطرته لقال: «ما دام الشعب عشرين مليونا، ونصفه؛ أي عشرة ملايين من النساء، فيجب أن يكون نصف لجنة الدستور من النساء أيضا.»
ولكن هذا المنطق الفطري البدائي قد نأى عنا واغترب عن أوضاعنا حتى لنضحك عندما نجد من يدعونا إلى التسليم به. ولقد وصلنا بأوضاعنا الاجتماعية ومركباتنا التاريخية إلى أن صرنا نعامل المرأة المصرية كما كان الاستعماريون يعاملوننا حين كانوا ينكرون علينا حق الحكم النيابي، بل كما يعاملون الآن الزنوج وينكرون عليهم هذا الحق أيضا في أفريقيا وآسيا وأمريكا.
وإذن ألم يكن لي الحق في أن أرج النائم حتى يستيقظ، وحتى يجد جانبا آخر في منطقه قد خفي عنه؟
والذي لا شك فيه أننا لو كنا أمة متمدنة مائة في المائة، ولو كانت نساؤنا على المستوى الثقافي الذي بلغه الرجال، لما كان في اقتراحي ما يستغرب. ثم لو كنا على بصيرة نافذة لمستقبلنا، وعلى وجدان عميق بمركز المرأة وطاقتها في الإنتاج الصناعي القادم لكان يجب أن يكون تعيين بعض النساء في لجنة الدستور واجبا حتما علينا كي نستغله في إنهاض المرأة وإعدادها لمستقبلنا.
واعتقادي أن الذين يقولون بحرمان المرأة حق الانتخاب والترشيح للنيابة، هم أبناء ذلك الجيل القديم الذي كان يقول أيضا بحرمان المرأة السفور، وحرمانها حق التعليم في الجامعة، وحرمانها الاختلاط بالمجتمع قبل نصف قرن.
ولا أعرف إذا كان هؤلاء الذين قالوا، وما يزالون يقولون، بحرمان المرأة حق الاشتراك في حكم بلادنا، يأسفون لأن مصر قد أصبح فيها نحو خمسة آلاف امرأة يشتغلن بالطب والمحاماة والتعليم والتمريض والتمثيل والصحافة والفلسفة. وإني لأسألهم هل هم يعتقدون أننا كنا نكون أسعد حالا وأقوى اجتماعا لو أننا كنا قد حرمنا نساءنا هذه الحرف وهذا التعليم؟
ومع ذلك، كلنا يعرف أننا انتزعنا هذه الحقوق للمرأة من المستعمرين الأجانب، وأيضا من الجامدين الوطنيين أعداء قاسم أمين ولطفي السيد وغيرهما، وأن الحجج التي كان هؤلاء المستعمرون الأجانب والجامدون الوطنيون يحتجون بها لمنع المرأة من السفور، ثم لمنعها من التعليم الجامعي واحترافها الحرف، هي نفسها الحجج التي يتذرع بها دعاة الحرمان في الوقت الحاضر حتى لا تشترك في الحياة النيابية.
إننا نحن الذين عرفنا مصر في بداية هذا القرن، وعرفناها بعد 53 سنة، نفرح ونطرب عندما نجد أن بيننا خمسة آلاف امرأة مصرية يرتفعن إلى الآفاق الاجتماعية والثقافية التي ارتفع إليها الرجال قبلهم. ونفرح ونطرب إذا وجدنا الفرصة لأن نرتفع بهذا العدد من خمسة آلاف إلى خمسين ألفا ومائة ألف.
لقد ضربت مثلا برجل بدائي ينظر إلى حالنا النظرة البكر ، ويقضي القضاء الحر الذي لم تلابسه أغراض سابقة. والآن أقول إن أعظم ما يفسد التفكير السليم هو هذه العادات الذهنية والتقاليد الاجتماعية والثقافية، والمكاره والأغراضات المذهبية التي تحيل القيم البشرية إلى قيم اجتماعية. فبدلا من أن نقول: هنا إنسان مصري له حق الإنسانية في النمو الذهني والحرية المدنية وحقوق الإنسان العامة، بدلا من هذا نقول: هذا المصري شرقي له تقاليد يجب أن يخضع لها ويتقيد بها. وكأننا ننسى أننا قبل أن نكون شرقيين أو غربيين، ومصريين أو ألمان، إنما نحن بشر لنا حقوق البشرية العامة.
لذلك يجب أن تكون القيم الأخلاقية والاجتماعية بشرية قبل أن تكون مصرية أو إنجليزية أو هندية أو صينية.
إنسان من البشر له حقوق البشر.
وما دامت المرأة إنسانا فإن لها الحق في أن تحيا حياة الرجال بحقوق الرجال، تنمو وتتعلم وتنضج وتتلقى كوارث الدنيا وتختبرها وتتعلم منها الحكمة كما تنعم بمتعها: متعة الثقافة والإنتاج ومتعة الزواج والأبناء.
والآن أحس سؤالا ينقر في وجداني: هل المرأة جاهلة ولا يمكنها أن تضطلع بتبعات الحكم والنيابة؟
وهذا قول صادق.
ولكني أرد عليه بأن مثل هذا القول قاله رياض باشا التركي لعرابي المصري عندما طلب هذا منه باسم الجيش أن يكون لمصر مجلس نيابي. فكان رد هذا المصري العظيم:
قد يكون الشعب المصري جاهلا، ولكن أليس من الممكن أن ننشئ مجلس النواب فيكون له بمثابة المدرسة يتعلم فيها، حتى إذا مضت ثلاث أو أربع سنوات أصبح النواب على معرفة بأصول الحكم وتقدير لواجباته فيكونون نوابا حقيقيين.
هذه هي إجابة عرابي التي استلهمها من إحساسه الوطني وذكائه وإخلاصه لبلاده. وهذا هو ما يجب أن نحس أيضا نحو أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا؛ وهو أن دخولهن في البرلمان يعلمهن ويكسبهن التبعات الشريفة، ونظرة الجد للدنيا، وتحمل الواجبات الوطنية، ويفتح لهن آفاقا جديدة لخدمة الوطن في المجتمع والحكومة والمصنع والمزرعة والمكتب والمتجر؛ لأن هذه كلها لا يمكن أن تكون وقفا على الرجال دون النساء.
وعندما نسمع أن في الولايات المتحدة 33 مليون امرأة يعملن في الإنتاج القومي، صناعة وزراعة وتجارة، ألا نبصر بهذا السر لهذه القوة الإنتاجية العظيمة للأمريكيين، أو لبعض السر على الأقل؟
إن الإنتاج العظيم في أوربا وأمريكا يعزى، في بعضه، إلى أن الرجال والنساء يعملون، في حين أن إنتاجنا في مصر ضئيل فقير؛ لأن الرجال وحدهم يعملون فيه.
ولكن هذا النظر للمرأة من حيث اشتراكها في الإنتاج هو نفسه النظر إليها من حيث المساواة الدستورية بينها وبين الرجل. ولا يمكن أن نقبل أحد الجانبين دون الآخر.
يجب علينا، نحن المصريين، ألا نقنع بالنظرة الذكية لمستقبلنا؛ إذ يجب أن نتجاوزها إلى النظرة العبقرية.
لم يعد السعي الحثيث المثابر يكفينا؛ إذ يجب أن نثب الوثبة العالية ونطير ونحلق.
ويجب ألا نقنع بالمستوى العالي الذي وصلت إليه أوربا؛ إذ يجب أن نتجاوزه إلى ما هو أعلى منه.
ذلك لأننا قد تخلفنا، بفضل المستعمرين الأجانب والمستبدين المصريين، التخلف العظيم الذي يقتضينا الوثوب والسرعة والطيران.
ويجب أن تكون لنا فلسفة في نهضتنا ومصريتنا بحيث لا نسن قانونا إلا ونحن على ذكر، وعلى وجدان، بقيمته لأمتنا بعد مائة سنة بل بعد ألف سنة.
فهل حرمان المرأة المصرية حقها في الانتخاب والترشيح للبرلمان يتفق ومكانها بعد مائة سنة وألف سنة؟
وهل الحياة المليئة التي يجب أن يحياها كل مصري، والتي هي من حقه، هل هذه حياة المرأة المصرية في الوقت الحاضر؟
إن الحياة المليئة تقتضينا أن نحيا في العائلة، وفي المجتمع، وفي العالم. وهي تحتاج إلى الثقافة، وإلى التعب والعرق، وإلى الإحساس الشريف بأننا منتجون، وإلى أن نحيا حياتنا كلها ونحن نتعلم ونتعرف ونخبر.
فهل هذه حياة المرأة المصرية اليوم؟
ومن هو المسئول عن التضييق عليها؟
وما هو برنامجنا للإنسان المصري في مدى الألف سنة القادمة؟
إننا في تضييقنا على المرأة المصرية نحيا حياة مخطئة تحتاج إلى التصحيح.
فلسفتنا عن المرأة
نحن على الرغم منا فلاسفة، إذا تواضعنا في تعريف الفلسفة، وفهمنا منها أنها الهدف الذي نهدف إليه في حياتنا والأسلوب الذي نتبعه في بلوغه.
والواقع أن الفلسفة في عصرنا ليست أكثر من ذلك؛ فإنها نزلت عن كبريائها القديمة في بحث الغيبيات وما وراء الواقع ونحو ذلك، وقنعت بالعيش.
أجل ... إنها الآن تبحث موضوع العيش: كيف نعيش وليس كيف نموت؟
ونستطيع أن نقول، بناء على ما ذكرنا، إن أزماتنا السياسية الماضية، وفرحتنا الحاضرة، هما من الفلسفة.
وإني لأذكر أني في سنة 1931/1930 كنت أعمل محررا بالبلاغ، وكانت الكوارث قد توالت علينا، من إلغاء الدستور، إلى ضرب الطلبة، إلى اعتقال المئات من العمال، إلى سن القوانين المجحفة بالحريات، إلى استبداد فؤاد، إلى غير ذلك. واستلهمت من الأحداث العالمية فكرة شرحتها في مقالات قصيرة بالبلاغ عن أسلوب غاندي في الهند وأسلوب زعمائنا في مصر. وقلت إننا في حاجة إلى أسلوب غاندي؛ أي أسلوب الاستغناء بدلا من الاقتناء.
وكانت ثورة الكتاب علي عنيفة لهذه الدعوة. ولن أعود إلى شرح ما كنت أدعو إليه.
ولكني أريد أن أقول هنا إنه كانت لغاندي فلسفة، تجسمت في أهدافه وأسلوب عيشه، وانتهت باستقلال الهند. فلما مات غاندي ظهر بعده نهرو الذي يقرأ الكتب ويؤلف في التاريخ والفلسفة والسياسة ويقود الهند نحو القرن العشرين.
وكان لزعمائنا وقتئذ فلسفة أيضا تجسمت في أهدافهم وأسلوب عيشهم، فكانوا يجهدون ويلهثون للشراء وشراء الضياع والقصور والسيارات. وقد انتهت فلسفتهم هذه إلى أن قبلوا يد فاروق النجسة وذلوا له وارتضوا استبداده، فاحتقرهم الإنكليز، واحتقرهم السودانيون.
وجاء رجال الجيش بفلسفة أخرى، فاستبدلوا بالأهداف القديمة أهدافا جديدة، واتخذوا أسلوبا للعيش غير الأسلوب الذي كان يتخذه أولئك فلم يفكروا في اقتناء اليخوت أو بناء القصور أو شراء الضياع. فاحترمهم الإنكليز وأحبهم السودانيون.
إن لكل منا فلسفة من حيث يدري أو لا يدري.
ونحن حين نتكلم عن الاستعمار أو الرق أو الشرب أو المرأة، إنما نسترشد بفلسفة معينة تكاد تكون شخصية. وقد تكون هذه الفلسفة مخطئة مظلمة أو صحيحة مستنيرة.
ويجب أن تكون لنا فلسفة عن المرأة. ولا أعني رأيا، وإنما أعني فلسفة، بحيث نبحث وندرس حال المرأة ومستقبلها في آلاف السنين القادمة في مصر. وفلسفتنا عن المرأة لا تقل في قيمتها عن فلسفتنا عن معاني الحرية والاستقلال والإنسانية بل قد تزيد على بعضها.
وقد وجدت هناك التباسات بشأن فلسفتي عن المرأة، تجاوزت القاهرة إلى لندن؛ ولذلك أحتاج إلى بعض الإيضاح.
فقد ألقت الآنسة سيلفيا هيم حديثا من محطة الإذاعة البريطانية في لندن يوم 28 من يناير/كانون الثاني الماضي، تناولت فيه موقفي من ناحية المرأة إلى جنب مواقف أخرى لي وانتقدت بعض ما قلت. وفهمت من كلام هذه الآنسة أنها قرأت كتابي «تربية سلامة موسى» إما في أصله العربي وإما في الترجمة التي قامت بها مؤسسة روكفيلر.
وخلاصة ما نقلته عني أني قلت إني عندما اصطدمت بالحضارة الأوربية في باريس حوالي 1910 كان أعظم ما أثر في نفسي هذا الفرق الشاسع بين شخصية المرأة النشطة المتنبهة العاملة الاجتماعية، وبين شخصية المرأة المصرية التي انزوت في البيت وتحجبت وقنعت من الدنيا بخدمة زوجها وأولادها. ولكني لما درست المجتمع الأوربي وجلت في عواصم أوربا، اتضح لي أن الفرق بين المرأة المصرية والمرأة الأوربية ليس عظيما. وإنما هو تفاوت فقط في درجات الحرية؛ لأن الواقع أن المرأة في كل مكان في العالم، في مصر وفي أوربا، لا تزال دون الرجل لم ترتفع من الأنثوية إلى الإنسانية.
ثم تساءلت: وهل ارتفع الرجال إلى الإنسانية؟
هذا هو سؤال الآنسة سيلفيا هيم. وهو عندي تهارب وتمحل وإحالة، أكثر مما هو مواجهة للحقائق.
ذلك أن الرجل يعمل في المجتمع الوطني أو البشري، وتتسع آفاقه، وينتج، ويحس أنه يخدم الألوف والملايين من البشر، ويقرأ ويدرس ويختبر ويتألم، ويكافح من أجل الحرية والشرف. وفي هذا كثير من الإنسانية إذا عمدنا إلى المقارنة بين نشاطه هذا وبين نشاط المرأة المحدود بحدود البيت، حيث ترصد حياتها لخدمة ثلاثة أو أربعة أشخاص هم زوجها وولدان أو ثلاثة أولاد.
وأنا هنا، في هذا الرأي، في صحبة عظيم يحترمه الشرقيون والغربيون معا، هو ابن رشد الأندلسي.
فقد نقل «دي بور» المستشرق الهولندي في كتابه عن فلاسفة المسلمين (ترجمة محمد أبو ريدة) عن هذا العظيم الذي عاش في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر، أنه كان يقول بأنه:
يجب على النساء أن يقمن بخدمة المجتمع والدولة قيام الرجال ... وأن الكثير من فقر عصره وشقائه يرجع إلى أن الرجل يمسك المرأة لنفسه كأنها نبات أو حيوان أليف لمجرد متاع فان بدلا من أن يمكنها من المشاركة في إنتاج الثروة المادية والعقلية وفي حفظها.
هذا هو ما قاله ابن رشد الفيلسوف المسلم الأندلسي قبل نحو 800 سنة وهذا هو ما أقوله وأكرره.
وإنه لمن تعس حياتي في مصر أني أحتاج، كي أبرر موقفي، أن أقول إن هذا أو ذاك، قد قال هذا الرأي الذي أقول به، قبل ثمانمائة أو سبعمائة سنة. فقد احتجت إلى أن أعتمد على الإمام ابن حزم في دعوته للحب، وأنه يجب أن يكون متعة الشباب وأساس الزواج وغاية الهناء. والآن أحتاج إلى أن أقول إن ابن رشد يقول إن آفاق البيت لا تكفي المرأة لأن ترتفع إلى الإنسانية؛ إذ يجب أن يتجاوز نشاطها بيتها إلى خدمة المجتمع والدولة.
وعلى الآنسة سيلفيا هيم أن تقرأ ابن رشد ... كما يجب على رجال التعليم عندنا أن يقرءوه، وأن يفكروا كثيرا قبل أن يشرعوا في تأسيس ما يسمونه «مدارس الثقافة النسوية». كأن النساء يختلفن عن الرجال في الثقافة، وكأن رجال التعليم عندنا قد وقفوا المرأة على خدمة البيت، وكأنهم قد قرروا قرارات حكومية ضد الطبيعة البشرية وانتهوا إلى أن المرأة يجب أن تعرف هذا وأن تجهل هذا.
إننا نسترشد في مصر بفلسفة مخطئة عندما نتحدث عن المرأة أو نعاملها أو نربيها؛ لأننا نحب أن تبقى أنثى ولا نكاد نبالي أن تكون إنسانا له آفاق الإنسان وتضحياته وواجباته، وهي لذلك تحيا الحياة المقصورة المحدودة. ولذلك لا نكاد نعرف الفضل الذي تسديه إلينا سيزا نبراوي، ودرية شفيق، ومنيرة ثابت، وإنجي أفلاطون، والعشرات والمئات غيرهن اللائي يحاولن أن يخدمن المجتمع والدولة كما نصح لنا ابن رشد الأندلسي.
يجب أن تكون لنا فلسفة عن المرأة المصرية بحيث لا ننشد مساواتها بالمرأة الأوربية فقط، بل نتجاوز هذه المساواة إلى آفاق إنسانية أبعد وأوفى، ويجب ألا يكون في قولي هذا ما يستغرب لأن المرأة الأوربية لا تزال دون المستوى الإنساني.
وصحيح أن المرأة الأوربية والأمريكية قد أصبحت تشارك الرجل في الكثير من مسئولياته الاجتماعية والإنسانية، ولكنها مع ذلك لم تبلغ مستواه. وقد أتاح استخدام القوة الكهربائية في المنزل الأميركي نشاطا اجتماعيا عظيما للمرأة الأميركية، لأن واجبات البيت لم تعد ترهقها كما هي الحال عند المرأة المصرية بل أحيانا المرأة الأوربية أيضا. ولكن التراث القديم الذي ورثته المرأة، في أوربا وأميركا، من رعاية الرجل وسيادته، لا يزال قائما تتفاوت درجاته فقط عندهم كما عندنا.
وكما قلت، يجب أن نذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه المرأة في أوربا وأميركا؛ أي يجب أن ندفع المرأة إلى الآفاق الإنسانية. كما ندفع الأمة إلى الانتقال من حضارة الزراعة إلى حضارة الصناعة. وفي هذا الانتقال وحده نجد ما سوف يريحنا من صداع المناقشة عن حقوق المرأة وواجباتها؛ لأنه هو سيحقق هذه الحقوق والواجبات.
لقد بدأت مقالي بالمقارنة المحزنة بين زعمائنا وبين زعماء الهند، وما كتبته في 1931 مما أثار علي السخط.
والآن أسأل هذا السؤال: أينا على صواب، نحن أم الهنود في فلسفتنا عن المرأة؟
إنهم - أي الهنود - قد منحوا المرأة الهندية حقها في الانتخاب والترشيح للبرلمان، فصارت وزيرة وسفيرة ورئيسة، وارتفعت إلى الآفاق السياسية والاجتماعية. ونحن أبينا على المرأة المصرية ذلك. فأينا على صواب وأينا على خطأ؟ وكيف نقارن بهم بعد مائة سنة؟
المرأة التي تعمل في المجتمع
أتاحت لي الظروف هذا الأسبوع أن أجد نفسي في غرفة رحبة في مبنى الشهر العقاري بالقاهرة. وكان جميع من يقوم فيه بالأعمال الحكومية موظفات مصريات ليس بينهن موظف واحد من الرجال. كن يبلغن ثمانيا أو عشرا كلهن حائزة على شهادة الحقوق.
وتأملت الوجوه والقامات واللغة. وكان إعجابي عظيما.
لم أجد في واحدة منهن ذلك التبرج الذي نعرفه في كثير من نساء المنازل. وأعني التبرج في طلاء الوجه، والتبرج في الملابس التي تجعل المرأة عارية وهي كاسية، والتبرج في الكلمة والإيماءة. كما لم أجد واحدة منهن تدخن، أو يعلو صوتها في خشونة الأصوات التي نسمعها من الرجال.
لا، لا نعومة ولا خشونة؛ إذ كن يؤدين أعمالهن في وقار وجمال معا.
ووجدت سؤالا ينقر في ذهني: لماذا لا يتبرجن وهن جميعهن في سن الشباب؟
ووجدت الجواب.
إن المرأة عندما تعمل تجد الكرامة، وتجد الاستقلال، وتجد الأمل والثقة. فهي لا تقلق على مستقبلها ولا تخشى أن يفوتها زواج. وهي تعرف أن كرامتها وعيشها وسعادتها لا تتوقف على محاسنها الجسدية فقط؛ إذ إن لها محاسن أخرى هي ذكاؤها ومهارتها وإنسانيتها التي تنمو جميعها بالعمل. هذا العمل الذي يربيها وينضجها ويجعلها «تكبر» وتحيا الحياة الفنية الفلسفية في هذه الدنيا.
إن كثيرا من دعاة الفعل الماضي واحترام التقاليد يتهمون المرأة العصرية بالتبرج. وهم لا يسأمون القول المكرر بأن المكان الأول للمرأة هو البيت، وأن وظيفة المرأة الأولى هي الزواج. كأن هؤلاء السيدات والآنسات اللائي رأيتهن ليست لهن بيوت أو كأنهن لن يتزوجن.
أما عن تهمة التبرج فإنها ألصقت بالفتاة التي تطمح إلى الزواج والبيت، دون أي نشاط خارجهما، من هؤلاء العاملات في خدمة الدولة. ذلك أن الفتاة، عندما تعرف أنه ليس لها كرامة أو عيش إلا بمقدار ما عندها من جمال جنسي، تحتاج إلى أن ترصد كل وقتها واهتمامها لزيادة محاسنها التي تغري وتجذب حتى يتحقق لها الزواج، فإذا تحقق، فإنها تحتاج أيضا إلى الإسراف في العناية بمحاسنها ومفاتنها حتى تستبقي زوجها.
ثم هي لهذا الموقف السيكولوجي؛ أي لقصرها عنايتها على الزوج والبيت، تنسى القيم الاجتماعية الإيثارية ولا تعود تبالي غير القيم الأنانية أي البيت والزوج. بل حتى حين تجد من زوجها اتجاهات اجتماعية مثل خدمة الوطن، أو العناية بالمذاهب والمبادئ، أو التضحية بشيء من مصلحته الخاصة لأجل الخير العام، حين تجد ذلك منه، تكفه؛ إذ لا قيمة لكل هذه الأشياء إزاء ارتباطه بها وحدها. فهي تجره إلى الأرض إذا أحست منه أية رغبة في الارتفاع إلى السماء.
أليس هو عائلها ومكسبها وموئلها؟
إنها لا تعرف غيره ترسي عليه قواعدها في الحياة، فهي تستمسك به، وتتبرج له، وتعد نفسها كل يوم لأن تكون أنثى أكثر من أن تكون إنسانا.
ولكن ليس هذا شأن الفتاة التي احترفت حرفة واستقلت وعاشت منها؛ فإنها تفكر في الزواج كما يفكر فيه الرجل باعتبار أنه شركة شريفة يراد منها سعادة الزوجين، وليس باعتبار أنه وسيلة للعيش من كد الزوج وتعبه؛ إذ هي تستطيع أن تكد وتتعب مثله وتعيش.
ولذلك أيضا تعد الفتاة التي عملت وكسبت من عملها قبل الزواج، تعد خير الزوجات عندما تتزوج، ليس فقط لأنها لا ترصد كل وقتها لزيادة محاسنها التي تغري بها زوجها حتى لا يلتفت إلى غيرها، وإنما لأن اختباراتها السابقة في عملها الحر، أو خدمتها الحكومية، تجعلها تفهم المجتمع الذي تعيش فيه وتحملها على ألا تقصر نشاطها على البيت إذ هي لا تنسى هذا المجتمع بجميع مسئولياته ومسراته. ثم هي، لأنها تفهم هذا المجتمع وتفهم قيمة العمل ومسئولياته، تعرف مسئوليات زوجها وتفطن لمتاعبه وهمومه.
إنها تعرف معنى المواعيد التي لا تكاد زوجة لم تعمل من قبل تعرف معناها. وهي تفطن لقيمة السلوك في المعاملة، وقيمة الزي اللائق، وقيمة الدراسة، وقيمة الجريدة في التنوير السياسي والاجتماعي، وقيمة الكتاب في الحياة الفلسفية.
وصحيح أن الزوج لا يجد فيها ذلك التواضع، أو التخاضع، الذي يجده من الزوجة التي لم تحترف حرفة ولم تكسب قرشا. ولكن الحياة الزوجية السليمة في نظر الرجل السليم هي حياة التكافؤ والزمالة وليست حياة السيادة والكبرياء. ولست أنكر أن هناك شبانا يخشون الزواج من فتاة جامعية متعلمة، ومرجع هذا إلى أنهم يجدون فيها أو بالأحرى في تعليمها مهانة لكرامتهم؛ إذ قد تمتاز هي على الزوج بثقافة أو علم أو فن، أو هم يخشونها لأنها تعرف كثيرا وهم يؤثرون السذاجة على المعرفة.
وهم ينسون أولا أن من مصلحة البيت، إذا كان الزوج جاهلا أو منخفض المستوى في التعليم، أن تكون الزوجة متعلمة؛ لأن زوجا جاهلا مع زوجة متعلمة خير من زوجين جاهلين. وينسون ثانيا أن هذه السذاجة المنشودة لا تزيد على أن تكون جهلا سوف ينعكس أثره السيئ في إدارة البيت وتربية الأبناء.
والآن أحب أن أنتقد.
ذلك أن المكتب الذي زرته في مصلحة الشهر العقاري كان يحوي الموظفات دون الموظفين. ولست أشك أن منع الاختلاط بين الجنسين قد قصد هنا، فكأننا قد سلمنا بالانتفاع بخدمة المرأة ولكن مع الاحتفاظ بالفصل بين الجنسين.
وهذا خطأ عظيم؛ فإن الزمالة بين الرجل والمرأة في الوظيفة الحرة أو الوظيفة الحكومية هي تربية إنسانية جليلة لكل من الجنسين، إذ ليس هناك ما ينبه الذهن إلى الحقائق دون الخيالات سوى هذه الأنسة التي تنشأ من الحديث وتبادل المسئوليات بين شاب وفتاة في واجبات الخدمة للجمهور.
يجب أن يعرف الرجل المرأة، ويجب أن تعرف المرأة الرجل. وأي سبيل لهذه المعرفة سوى الاختلاط؟ هل يعرفانها من الكتب؟
إن الانفصال يجعل كلا من الشاب والفتاة يشطح في خيالات بعيدة عن الحقائق. فإذا تم زواج بعد انفصال طويل فإن الحقائق الجديدة قد يحطمها الخيال السابق فلا يصلح الزواج ولا يسعد.
وفن الحب يحتاج إلى أن تبقى صورة المرأة ماثلة في ذهن الرجل وصورة الرجل ماثلة في ذهن المرأة منذ المهد إلى اللحد، وأيما انفصال بينهما قد يحدث شذوذا، وقد لا يبرأ هذا الشذوذ طيلة العمر.
ولكن هناك ما هو دون الشذوذ مما يتعس الحياة الزوجية؛ فإن الانفصال بين الجنسين يجعلنا لا نفهم الطراز الذي نحبه من النساء أو الرجال؛ أي لا نعرف كيف نحب، وعندئذ نتزوج للزواج فقط وليس لما ننتظره في الزواج من سعادة وهناء. ثم تتكشف لنا الحقائق بعد الزواج حين نجد أننا تزوجنا فتاة (أو فتى) من طراز آخر غير ما كنا نحب أن نتزوج.
إن مجتمعنا الانفصالي قد حطم سعادتنا وأخر تربيتنا الإنسانية والاجتماعية. وما دامت الحكومة قد سلمت بتوظيف المرأة فإنها يجب أن تسلم بالاختلاط بين الجنسين في مكاتبهما حتى يكون هذا الاختلاط الذي تهذبه المسئوليات تمهيدا لإيجاد مجتمع مختلط مهذب.
لو أنني كنت ديكتاتورا لشرطت على كل فتاة ترشح للزواج أن تكون قد عملت وكسبت من عمل حر أو من وظيفة حكومية خمس سنوات على الأقل. بل أزيد على هذا أن هذه السنوات الخمس يجب أن تمضى سواء في مكتب أو متجر أو مصنع مع الرجال.
قد يعترض القارئ أو القارئة بأن الفتاة التي تعلمت في الجامعة قد حصلت من هذا التعليم بما يهيئها للزواج السعيد. ولكن هذا خطأ؛ لأن هذه الفتاة قد تعلمت من الكتب، وهي لن تتزوج كتابا إذ ستتزوج إنسانا، فيجب أن تعرف هذا الإنسان بالاختلاط الاجتماعي قبل الزواج. وأحسن أنواع هذا الاختلاط هو تلك الزمالة التي تجدها وقت عملها مع الرجال؛ إذ هي أشرف زمالة تنطوي على مسئوليات الخدمة والأمانة والشرف. وكما تتربى المرأة بهذه الزمالة كذلك يتربى الرجل.
إني كثيرا ما أجد البذاء والوقاحة والغثاثة في أولئك الشبان الذين لم يزاملوا الفتيات ولم يختلطوا بهن هذا الاختلاط الذي يربي في نفوسهم الضمير الاجتماعي، ويقسرهم على اتخاذ الكلمة المهذبة والسلوك المهذب في حديثهم.
ولنذكر كلمة عن «البيت» الذي لا يتعب الكارهون للتطور من القول بأنه غاية المرأة في الحياة. ذلك أن المرأة إنسان. وليس البيت أو الوظيفة، وليس العلم أو الأدب، وليست الأخلاق العالية، سوى وسيلة للحياة. ولذلك قد يجوز لنا أن نقول إن البيت للمرأة. ولكن لا يصح العكس.
ثم ما هي الغاية من الزواج والبيت؟
أليست هي سعادة الزوجين وأيضا إنجاب الأطفال وتربيتهم؟
إذا كان هذا هو الشأن فإن المرأة المتعلمة التي مارست عملا كاسبا قبل الزواج والتي اختلطت بالمجتمع في مسئولياته المختلفة، هذه المرأة هي خير من يربي الأطفال؛ إذ هي تعرف المناخ الاجتماعي الذي سيعيشون فيه.
هي تعرفه ولا تجهله كالمرأة التي لم تؤد خدمة اجتماعية قبل الزواج.
رئيسات للمحاكم
في حديث للأستاذ الباقوري وزير الأوقاف سنة 1955 بشأن زيارته للصين جاء قوله إن هناك 144 سيدة صينية يشغلن مناصب رئيسات للمحاكم. وبالطبع هناك نحو ضعفي هذا العدد من القاضيات أو أكثر؛ لأن رئيسة المحكمة ترأس قاضيين من الجنسين، كما أن «رئيس» المحكمة يرأس كذلك مثل هذا العدد من الجنسين.
وهذا الخبر يسر المفكر الشرقي الذي عرف حال المرأة الشرقية حين كانت «شرقية» تحافظ على تقاليد الذل والهوان التي ورثتها. فقد كانت المرأة الصينية تولد لتخضع، وليس لتستقل. فكانت وهي فتاة تخضع لأبويها، فإذا تزوجت خضعت لحماتها. وكانت تخدر إذا كانت ثرية. وكان تخديرها يؤكد بوضع قدميها منذ الطفولة في حذاء من حديد حتى لا تنمو فتستطيع المشي عليهما. إذ لماذا تمشي؟
أليست هي سيدة مخدرة قد وقفت حياتها على خدمة زوجها في السرير؟ وأليست هي ثرية لها خدم ينقلنها من مكان إلى مكان؟ إن الطبيعة أخطأت في تزويدها بقدمين.
إلى هذا الحد كان انحطاط المرأة الصينية. وقد ساء وسفل بحكم التقاليد التي ربطتها بالماضي. وكان الشبان الصينيون الذين تعلموا في أوربا وأميركا، وعرفوا هناك المرأة المستقلة النشيطة التي تختار زوجها وتحبه، وتتساوى به في تبادل العاطفة والحب، كانوا يدعون إلى حرية المرأة الصينية واستقلالها وإلى أن لها حقا إنسانيا أصيلا في ألا تتزوج سوى الرجل الذي تحبه. فكان منادرة الصين؛ أي شيوخها الذين ورثوا ثقافة الظلام، يتهمونهم بالكفر بالدين والخيانة للتقاليد.
ولكن الدنيا تغيرت، وغسل الصينيون عقولهم من هذه التقاليد كما يغسل الإنسان جسده من الأقذار التي تلوث بها. وأصبحوا يحترمون المرأة ويتيحون لها العمل والاختلاط بالمجتمع والإنتاج للوطن. كما أصبح الحب شرطا للزواج والمساواة وأساسا للعشرة بين الزوجين.
أصبحت المرأة الصينية إنسانا بعد أن كانت أنثى فقط.
وحسن أن يرى الأستاذ الباقوري نفسه، وهو شيخ أزهري، هذا النور من الشرق، وأن يخبرنا عنه مع الإعجاب، فإنه رجل مخلص كما هو ذكي، وليس في مقدوره أو رغبته أن ينكر النور، هذا النور الذي نحتاج إلى شعاع منه. •••
هذا بعض ما نعرفه الآن عن الصين. فماذا نعرف عن مصر؟
لقد أرسلت إلي آنسة من ملوي تنبهني، وتكاد تسبني؛ لأني أهملت التعليق على خبر عجيب. والواقع أني لم أكن قد قرأته، ولو كنت لما أهملت. خلاصة الخبر أن شابا قصد المحكمة الشرعية كي يثبت وراثته ل 128 فدانا من أمه، فسأله القاضي عن اسم أمه. ولكن الشاب رفض الإجابة؛ لأنه بحكم «التقاليد» في الصعيد لا يجوز ذكر الأسماء التي تتسمى بها أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا.
أليس الاسم بعض الشخصية؟ وهل يمكن الصعايدة أن يعترفوا بأن للمرأة شخصية؟
أين أنت يا مصر من الصين؟ هناك تعين المرأة رئيسة للمحكمة، وهنا يحرم ذكر اسمها في المحكمة؟
لماذا ترى الصين شخصية المرأة ونحن هنا نلغيها؟ أو على الأقل يحاول بعضنا إلغاءها؟
إني بالطبع لا أنسى أن مثل هذا الحادث شاذ، وأن التقاليد ليست لها عندنا كل هذه القوة إلا في بيئات منعزلة لم تمسها الحضارة العصرية مثل ملوي. ولكن هل يجوز لنا أن نهمل الصعيد إلى هذا الحد؟ وأن نترك تقاليد الظلام تخنق نساءنا؟
أعظم مظاهر النهضة الصادقة في أية أمة هو نهوض المرأة التي تطرح بقايا الاستبداد والاستعباد وتستقل من سجن المنزل إلى ميدان المجتمع لتعمل وتكسب.
ونحن في مصر لا نحيا الحياة المليئة؛ فإننا نتزوج بلا حب، إذ لا يمكن الحب بلا اختلاط سابق يكون فيه الحديث واللقاء والمسايرة وتبادل الدعوات. ونحن نقاطع جميع هذه الوسائل على التعارف فنمنع الحب بين الشاب والفتاة.
وما دامت الفتاة لا تختلط بالمجتمع فإن مصادفة لقائها للشاب الموعود تبقى بعيدة، بل أحيانا مستحيلة؛ ولذلك شبابنا وفتياتنا تعساء قد حرموا الحب لأنهم حرموا الاختلاط.
وحين تعمل المرأة في المجتمع، موظفة بالحكومة، أو عاملة في المصنع، أو كاتبة أو بائعة في المتجر، أو حين تستقل وتدير حانوتا للبقالة أو الأقمشة أو نحو ذلك، عندئذ فقط تجد الفرصة للقاء الشاب الذي يحمل معه وعد السعادة الزوجية.
ثم هذا النشاط الاجتماعي الذي تقوم به المرأة في أوربا وأميركا وفي الأمم الناهضة مثل الصين والهند قد زاد مقدار الخدمة والإنتاج ليس في الكم وحده بل في الكيف أيضا. ذلك أن السيدة التي تؤدي واجب القضاء في المحكمة تكسب العدالة لونا آخر غير اللون الذي يكسبها إياه الرجل؛ إذ هي تنظر برحمة جديدة لم يكن يعرفها الرجل. والرحمة هي عدالة العدل. فإن قضايا الزواج والطلاق، ومشكلات الصبيان والنفقة للأطفال، ورعاية الأبناء القاصرين، كل هذا تفهمه المرأة فهما آخر غير ما يفهم الرجل؛ ولذلك نحن ننتفع بوجودها على منصة القضاء، ننتفع في الفهم والعدل؛ ذلك لأن فهم الرجل لهذه الشئون هو فهم متحيز. وكذلك فهم المرأة لها هو فهم متحيز، وإنما نجد العدل الصادق عندما نجمع بين الفهمين.
لقد كانت المرأة المصرية غائبة عن مؤتمر باندونج، فإن جميع المندوبين من كبار الساسة ورؤساء الدول ووزرائها كانوا قد اصطحبوا معهم فتيات عضوات أو سكرتيرات، إلا مصر!
لقد كان مؤتمر باندونج خطوة نحو الأمام في مكافحة الاستعمار، والتفاهم بين أمم آسيا وأفريقيا التي سرقها الاستعمار وأذلها وحرمها التعليم والثراء والصناعة والصحة. وكان حضور المرأة فيه برهانا على أن هذه الأمم قد تحدت الاستعمار وألغت أساليبه.
نعم، أساليب الاستعمار في احتقار المرأة.
ألم نعرف في مصر أن الناظرة الإنكليزية لمدرسة السنية الابتدائية كانت تحتم على تلميذاتها اتخاذ البرقع في حين كان قاسم أمين يدعو إلى إلغائه؟
لماذا كان يفعل الاستعمار ذلك؟
لأنه كان يعرف، بل يوقن، بأن حجاب المرأة وانفصالها عن الرجل في مصر يمنع بلادنا من التقدم ويجعل مجتمعنا متأخرا.
ومع ذلك ذهبنا إلى باندونج دون أن نعلن تغيرنا، وأننا قد ارتفعنا بالمرأة المصرية إلى مستوى جديد من الحضارة والاجتماع.
ذهبنا إلى باندونج نمثل مصر بلا نساء، كأننا كنا نمثل الرجال المصريين فقط.
وكان موقفنا هذا لا يشرفنا.
لذلك يجب أن نزور الهند والصين ونرى بأعيننا ماذا فعل الهنود والصينيون للارتفاع بنسائهم نحو المستوى الإنساني، ويجب أن نتعلم منهم ونقتدي بهم.
سفيرات ووزيرات
لا يكاد يمر شهر حتى ينعقد مؤتمر أو مؤتمرات تدعى إليها مصر للبحث في شئون الصحة، أو الزراعة، أو التعليم، أو الشئون الاجتماعية أو غير ذلك. ونحن نرسل إليها مندوبينا من الرجال فقط.
ولكن مندوبينا هؤلاء يجدون عندما تطأ أقدامهم نيويورك أو بودابست أو لندن أو روما أن هناك مندوبات إلى جنب المندوبين من شعوب العالم يسألن ويدرسن ويناقشن.
ذلك لأن جميع الشعوب المتمدنة قد سبقتنا إلى تعليم المرأة وإلى رفعها إلى مستوى الرجال في تحمل الأعباء الوطنية ثقافية كانت أم اجتماعية أم صحية. وقد فتحت لها أبواب الوظائف الصغرى والكبرى داخل بلادها وخارجها.
فإن مصالح البريد مثلا في جميع الأقطار الأوربية تعمل فيها النساء، آنسات وزوجات، أكثر مما يعمل الرجال. بل ليس غريبا أن تدخل مكتبا للبريد في أحد الأحياء في باريس أو لندن فلا تجد رجلا واحدا، ولكنك تجد نحو عشر نساء يقمن بجميع الأعمال البريدية.
وكذلك الشأن في التعليم الابتدائي، فإن المرأة تكاد تحتكره دون الرجل. وليس غريبا أن تجد مليون معلمة في أوربا ونحو هذا العدد بل أكثر في القارة الأميركية. وقد اتضح أن المرأة تحسن تعليم الصبيان الصغار أكثر مما يحسنه الرجل؛ لأن قلبها ينطوي على إحساس الأمومة.
وتتدرج المرأة في الوظائف الحكومية إلى أن تبلغ أعلى المناصب. كما أن هناك من الأعمال الحرة ما يستوعب الملايين من النساء.
وكل هؤلاء النساء منتجات.
إن شعوب أوربا تنتج الإنتاج العظيم لأن رجالها ونساءها يعملون في المصانع والمتاجر والوظائف. أما نحن، الأمة العربية، فلا ينتج عندنا غير الرجال، والقليل جدا من النساء؛ ومن هنا ضعف إنتاجنا ثم فقرنا الأسود الشامل.
نحن فقراء لعدة أسباب، منها سبب واحد يرجع إلى أننا نمنع النساء، آنسات وزوجات، من الإنتاج. ونحن - في مصر - نبلغ 22 مليونا (1955) منهم على الأقل نحو سبعة ملايين آنسة أو سيدة لا يعمل في الإنتاج العام منهن سوى أقل من ربع مليون في المدن. أما في الريف فإن بعضهن يعملن في الزراعة على الطرق الغشيمة القديمة.
ونحن في هذا العالم في «تنازع بقاء» مع الأمم الأخرى. فإذا كانت هذه الأمم تستخدم نساءها مثل رجالها في الإنتاج العام، فإننا لن نبلغ شأوها في الثراء إلا إذا استخدمنا نساءنا أيضا مثلها في الإنتاج. وهذا منطق لا نستطيع أن نفر منه.
وقد ارتفعت المرأة إلى مستوى الرجال في المناصب العليا إلا في مصر؛ ولذلك نحن نجد الوزيرات والسفيرات في جميع الأمم المتمدنة تقريبا إلا في مصر. وكلما انعقد مؤتمر ظهرت النساء نائبات عن الهند أو أميركا أو بريطانيا أو غيرها إلا مصر، فإنه لا تظهر فيها امرأة نائبة عن وطننا.
وقد كانت هذه الحال ملحوظة في مؤتمر باندونج الأخير.
وللمؤتمرات قيمة في الدعاية. وأية دعاية أسوأ من أن تكون لكل أمة مندوبات إلا مصر؟
ألا يعيبنا أن تساوي أمم آسيا وأميركا وأوربا بين الجنسين ونحن نميز الرجال على النساء؟
كانت النظم الإقطاعية عندنا تجعل المرأة بعيدة عن المجتمع وعن الاشتراك في شئون الحكم. وقد زالت النظم الإقطاعية ولكن بقيت العواطف التي نشأ الشعب عليها قبل زوالها. ومن هنا هذه الكراهية، أو هذا النفور، من التسليم بمساواة المرأة بالرجل وتكليفها الواجبات التي يكلف هو مثلها.
وقد كانت وزاراتنا الإقطاعية القديمة قبل الثورة، تنفر كل النفور من المساواة بين الجنسين. وأيما اقتراح كان يقدم إليها بشأن تعيين امرأة سفيرة أو وزيرة لا يمكن أن يلقى غير الاحتقار والاستهزاء والإهمال.
ولكننا الآن في عصر جديد نقول فيه بديمقراطية الشعب.
ديمقراطية الشعب كله، وليس ديمقراطية نصفه ثم إهمال النصف الآخر.
لقد كان الاستعمار ينكر الديمقراطية على رجالنا.
ولكن رجالنا، أو بعضهم من الجامدين المتخلفين، ينكرون هذه الديمقراطية على نساء مصر، على نصف الشعب المصري.
وهذا مع أن أي منطق يقول، بل يصرخ، بأنه لا يمكن ارتقاء شعب إذا كان نصفه فقط هو الذي يتولى الأعباء ويكلف الواجبات الوطنية والاجتماعية. ولذلك سنبقى متخلفين اجتماعيا، وفقراء اقتصاديا، إلى أن نساوي بين الجنسين ونجعل المرأة تنتج كالرجل سواء وتمارس حقوقها الاجتماعية والدستورية والمدنية مثله سواء.
يجب أن ننهض بالشعب كله وليس بنصفه.
ثم يجب ألا نهمل الرموز.
إن ارتقاء المرأة رمز لارتقاء الشعب.
وقد حفظ الأوربيون هنا كلمات ورموزا سيئة، بل غاية في السوء. ولذلك يجب أن نلغيها ونمسحها من رءوسهم بأن نجعل منا وزيرات، وأيضا سفيرات، كما فعل نهرو ؛ حتى يراهن الأوربيون فينكروا ما تعلموه عنا.
إني أستطيع أن أذكر أسماء خمسين بل مائة سيدة مصرية يمكن أن نجد فيهن من تليق لعمادة الكليات أو إدارة الجامعات، ومن تليق بأن تكون سفيرة أو وزيرة. بل أزيد على ذلك بأن أقول بأنه لو كانت لنا وزيرات في الحكومات السابقة للثورة لما تردينا إلى الهوة التي أردانا فيها فاروق ووزراؤه من الإقطاعيين الذين كان ينشد معظمهم من الوزراء شراء الضياع وبناء القصور وشراء السيارات والذهبيات، والاصطياف في الإسكندرية أو فيشى.
إن النساء أقنع وأقصد.
إن كلمة «مجتمع» في مصر لا تؤدي المعنى الذي يفهم من المجتمعات الأوربية ذلك أن النساء والرجال يجتمعون هناك فيتألف منهم «مجتمع». ولكننا نفصل في مصر بين الجنسين. وأولى بنا لهذا السبب أن نسمي مجتمعنا «المنفصل» حتى ينطبق اللفظ على المعنى.
إننا نعيش في حضارة قد انتهت بالتسليم بالمساواة بين الجنسين ويمكن أن نقول إننا لا نعيش في هذه الحضارة ولكننا ننشد هذا الأمل. وهذه الحضارة أجزاء لا تتجزأ، فلا يمكن أن نأخذ بجزء أو أجزاء منها ثم نترك الباقي.
وقد توافت أجزاء هذه الحضارة ووسائلها إلى جعل البيت خاليا من الواجبات المنزلية التي كانت تحيا فيها جداتنا. وهي واجبات كانت تشغل المرأة عن الاهتمامات الاجتماعية والسياسية والثقافية؛ إذ كان عليها أن تطبخ وتغسل وترشح الماء وتكنس. بل كان عليها أحيانا أن تعجن وتخبز وتخيط ملابسها وملابس أطفالها. أما الآن فإن جميع هذه الواجبات قد أحيلت إلى غيرها، أو هي قد صارت تؤدى في يسر وسرعة بحيث تقوم الدقيقة مقام الساعة، وبحيث لم تعد تجهد المرأة أقل الجهد. وكذلك أصبحت المرأة، من الطبقة الثرية والمتوسطة، عاطلة في البيت أو شبه عاطلة، وهذه الحال نفسها هي التي حملت المرأة، في أوربا وأميركا، على الخروج إلى المصانع والمتاجر وعلى أن تنشد بناء شخصيتها في آفاق المجتمع الواسعة بدلا من أن تقعد عاطلة في البيت لا تجد عملا تؤديه.
وقد أصبح كثير من سيداتنا في مثل هذه الحال. وقد تعلمن واختلطن بالمجتمع، ولكننا حرمناهن من القيام بالواجبات الوطنية وتركناهن في عطلهن يرفهن عن أنفسهن أحيانا بالعبث لأنهن لا يجدن الجد، أو يقضين وقتهن في سأم وسخط وهن معذورات.
والجد هو أن نقدم لهن الفرصة لخدمة بلادهن بالعمل المنتج.
والفرصة الصارخة لنا في الوقت الحاضر هي أن نعين المرأة الكفء للعمل الكفء، وأن نستغل الجديرات كي يمثلننا في المؤتمرات والسفارات والوزارات، حتى يخدمننا وحتى يزلن ما يتهمنا به الأوربيون من التهم التي تجرح كرامتنا الوطنية، والتي تجعلنا نبدو أمام العالم المتمدن كما لو كنا فصيلة منفصلة من المجتمع البشري.
وهنا خبر أرجو أن يكون بشرى.
هو الخبر الذي ذكرته الصحف هذا الصباح بأنه سيكون لنا برلمان في يناير القادم يمثل الشعب المصري.
إن برلمانا مصريا يجب أن يحتوي الأعضاء من الرجال والنساء.
الرقص والشخصية
الرقص إلى المشي هو كالشعر إلى النثر.
هو إيقاع له قوافيه، بل له قصائده.
وكما يطرب الصبي ويثب ويمرح، ويصفق بيديه، كذلك يطرب الشاب أو الفتاة فيرقصان في إيقاع.
والذي جعل الرقص مكروها في مصر أنه كان قد انحط وسفل حتى صار حركات جنسية يشمئز منها الرجل السامي والمرأة السامية. والذي أحدر الرقص المصري، بل الشرقي كله، إلى هذه الحال التعسة هو تفشي الرق.
فإن هذا النظام كان يحيل المرأة التي تشترى بالقرش والمليم إلى أداة إغرائية تحرك الشهوات الجنسية عند سيدها. فلما زال الرق بقيت عندها تقاليدها فيما كنا نسميه «الرقص الشرقي» أو «الرقص المصري».
والحقيقة أنه لم يكن «مصريا»، فإن الرقص المصري لا تزال رسومه ونقوشه في أحجار المعابد المصرية القديمة، وهو حركات رياضية كان يقوم بها الرجال والنساء احتفالا بمحصولات الأرض، أو بالحرب، أو في الجنازات.
كان جدا في جد، وكان يؤدى في طرب الفرح وفي طرب الحزن.
وقد استطاعت الراقصة المشهورة «أيزيدورا دنكان» أن تحيي الرقص المصري وأن تؤسس له مدرسة. ووجدت الإقبال والتقدير.
ومع أن كلمة رقص يونانية، كما يتضح ذلك في كلمة أوركسترا، فإن العرب كانوا يرقصون. ولا يمكن إلا أن نعتقد ذلك لأننا نجد أن داود النبي كان «يرقص للرب» كما جاء في التوراة.
وقد كان الرقص «المصري» شناعة من الشناعات، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه؛ إذ لم تكن الراقصة تمثل سوى الشهوة الجنسية، وكانت تمثلها في إسراف وقح. ومن هنا كانت نظرتها، وهي ترقص، إلى أسفل، كي تبرز محاسنها بل مقابحها السفلى.
كانت تمثل الأمة بعد إلغاء الرق. تلك الأمة التي كانت تعلم وتدرب على هذه الحركات التي كانت تؤذي الإحساس والعقل عند الرجل الذي يحب الجمال في الإنسان، وليس الحيوان في الإنسان.
وارتفاع الرقص إلى مقام الفنون الجميلة في أوربا، واختصاص المرأة بالقسط الأكبر منه، هما برهان على الارتقاء الاجتماعي؛ أي الارتقاء الفني في المجتمع.
وقد وصفت الرقص المصري بالانحطاط لأن الراقصة تنظر إلى أسفل؛ أي إن إحساسها هنا جنسي.
ووصفت الرقص الأوربي بالارتقاء لأن الراقصة تنظر إلى أعلى؛ أي إن إحساسها هنا فني.
وأستطيع أن أقول مع الحزن والأسف إن النظرة الاجتماعية للمرأة في أوربا قد أوجدت الرقص الأوربي في سموه ونشاطه، كما أقول إن النظرة الاجتماعية للمرأة في البلاد الشرقية والعربية قد أوجدت هذا الرقص الذي نكرهه والذي تخلصنا منه.
ألسنا نقول في مصر، وفي الشرق كله، بسيادة الرجل على المرأة، وأن المرأة للبيت الذي هو مكانها «الطبيعي» وأن مهمتها الأولى هي الزواج. وأن دعوة الاستقلال التي تدعوها الناهضات من النساء هي دعوة زائفة بل كافرة؟
هذه النظرة للمرأة هي التي توحي إلينا بأن مهمتها الجنسية هي كل شيء، وأن الرقص يمكن أن يكون جنسيا. ونسرف بعد ذلك إلى حدود الشطط فيرضى بعضنا بأن يجد في الرقص المصري معاني جنسية نشمئز منها.
ولكن المرأة الأوربية التي استقلت، والتي عملت وكسبت واشتركت في المجتمع، تجد أن لها كبرياء تمنعها من أن تمثل هذا التمثيل الجنسي السافل.
وكان ثم نتيجتان:
الأولى:
أن الرقص ارتفع إلى مقام الفنون الجميلة في أوربا فصارت الفتيات من غير المحترفات للرقص يرقصن.
والثانية:
أن الرقص انخفض إلى مقام التهتك والتبذل عندنا حتى اضطررنا إلى مقاطعته وإلغائه .
وأنا لا أقول بالرقص للسيدات المتزوجات، ولكني أقول به للآنسات وللشبان؛ وأعني بالطبع الرقص الأوربي.
ذلك أن لهذا الرقص تأثيرا كبيرا، بل كبيرا جدا، في تكوين الشخصية، شخصية الشاب وشخصية الفتاة.
فإن شبابنا يعيشون في مجتمع انفصالي يفصل بين الرجل والمرأة، أي في مجتمع غير اجتماعي؛ وهم لذلك لا يحسنون اختيار الزوجة، كما أن الزوجة لا تحسن اختيار الزوج.
إذ كيف يحسن أحدهما ذلك بلا اختلاط سابق؟
ولكن الرقص يدرب كلا منهما تدريبا اجتماعيا على المؤانسة والشهامة والرشاقة، كما أنه سبيل إلى التعارف.
وأخيرا يجب أن نذكر، ولا ننسى أبدا، أن الراقص لا يمكن أن يقع في الشذوذ؛ لأن الرقص يعوده الاتجاه نحو المرأة، والمرأة فقط. فهو يسدد نظرته الجنسية نحو هدفها الطبيعي. وكذلك الشأن في المرأة.
ولكن الشاب الذي يحيا نحو 25 أو 30 سنة، وهو لا يختلط بالجنس الآخر، ولا يرقص، فإن احتمال سقوطه في الشذوذ كبير جدا.
الموسيقى والرقص في أوربا يعدان من تقاليد الشعب، وكلاهما إيقاع. إيقاع الصوت وإيقاع الحركة.
ولكل منهما مركبات تنتقل إلى كيان الشخصية الأوربية؛ فإن الرقص لا يتفق وانبعاج البطن وبدانة الجسم، ولذلك تحرص كل فتاة وسيدة على أن يكن نحيفات. بل إنهن يفهمن الرشاقة على أنها قبل كل شيء نحافة: قامة عالية وخصر صغير وصدر ناهد.
وقل أن تجد أوربيا أو أوربية لم يتعلم الموسيقى في صباه أو شبابه على إحدى الآلات التي أهديت إليه، أو لم يتعلم الرقص.
والرقص هو المرانة الابتدائية للحب. وهو أعظم ما يصد عن الشذوذ والعادات الخفية وعذاب الخواطر الجنسية المضنية والبعد عن الحقائق؛ إذ هو يجمع بين الشاب والفتاة في شهامة واحترام وطرب، فلا يتجه الشاب إلى الشاب، ولا تتجه الفتاة إلى الفتاة، وإنما يتجه كل جنس إلى الآخر. أي إن الرقص مرانة على السداد أو الصحة الجنسية.
وقد يقال إن في الرقص اشتهاء جنسيا. وهذا صحيح، ولكن هذا الاشتهاء الجنسي نجده أيضا في الشارع حين يرى الشبان الفتيات بلا حاجة إلى الرقص. ولكن الرقص يسدد ويصحح هذا الاشتهاء، حتى لا يكون مريضا أو شاذا.
ترى لو أن أبا نواس كان يعيش في مجتمع مختلط يجد المرأة في السوق والمجلس والمكتب والمتجر، هل كانت غريزته الجنسية تزيغ ويفسد هو منها كما يفسد غيره من الشبان؟
إن أعظم ما يقي المجتمع من الشذوذ الجنسي، وهو أحط ما يمكن أن يتخيله إنسان في فساد الطبيعة البشرية، هو الاختلاط بين الجنسين. وأعظم مرانة على الصحة الجنسية هو الرقص.
هذا هو الرقص الازدواجي؛ أي الرقص العام بين أفراد الشعب.
ولكن هناك رقصا آخر تختص به الفنانات اللائي يقمن به منفردات أو جماعات، بل أحيانا يختص به الفنانون من الرجال.
وهنا نرى الراقصة في صفاء بشرتها واندماج جسمها تتحرك عضلاتها في انسياب. وهي حين ترقص تثب وتمرح وتخطف على ساقين مندمجتين ترفس بهما كما لو كانت جوادا يأرن ويمرح. وتحسبها وهي في اندفاق إيقاعها ويسر حركتها، وانطلاقها وارتقائها إلى أعلى، أنها ترقص في الهواء.
وفرق عظيم بينها وبين الراقصة المصرية؛ فإنها تنجذب نحو السماء وتنظر إلى أعلى في حين تنجذب الراقصة المصرية نحو الأرض وتنظر إلى أسفل، إلى كتفيها وبطنها وساقيها.
الأولى تنطلق وتثب في مرح الحياة وطرب الحركة ويقظة الجسم.
والثانية تنطوي وتتثنى في كسل الشهوة ونعاس الجسم وارتخاء الأعضاء.
ولذلك نحن نحس الشهامة حين ننظر إلى راقصة أوربية، ونحس الهوان والضعة حين ننظر إلى راقصة شرقية.
وللحكومات الأوربية معاهد لتعليم الرقص والموسيقى حبذا لو أن حكومتنا تدرسها، وتبعث البعثات من الشبان والفتيات المصريين إليها، وتنشئ مثلها في مصر.
هناك محك أو امتحان لحركات الرقص، هل هي مما يرفعنا أو يسقطنا؟ وذلك بأن نسأل، هل نرضى لزوجاتنا وبناتنا وأخواتنا وأمهاتنا أن يؤدين هذه الحركات أم لا؟
إن أي إنسان يرضى لابنته أن تؤدي حركات الرقص الأوربية. كما أن أي رجل يرضى أن يؤدي حركات الرقص التي يؤديها الرجال في أوربا. ولكني لا أرضى لابنتي أو أختي أن تؤدي حركات الرقص المصرية.
أليس هنا البرهان الواضح على أننا غير راضين عن الرقص المصري؟
ثم أليست لنا فطنة تبعثنا على التأمل والتساؤل: لماذا لا يرقص رجالنا منفردين؟
ذلك لأن الرقص المصري لم يرتفع إلى مرتبة الجد حتى يرضاه الرجال لأنفسهم؛ لأن الرقص جد وإن يكن مرحا. هو مرح في جد.
كنت قبل أربع سنوات (1955) في فرنسا، وعرفت أن جامعة باريس تقيم حفلتين راقصتين كل أسبوع مساء السبت والأحد. وفي كل من هاتين الحفلتين تعزف الأوركسترا الجامعية على إيقاعات الرقص. ويحضر هذه الحفلات الطلبة والطالبات والمعلمون، بل وزير المعارف نفسه.
ولكنه رقص جميل، كله إيحاء إلى الشرف. وهو يعلم الجنسين، الشاب والفتاة، الرشاقة في الحركة، والرقة في الإيماءة والعذوبة في الكلمة. بل هي تدريب على الحب وتهيئة للزواج. ثم هو مرح وطرب من حق كل شاب وكل فتاة في الدنيا ألا يحرماهما.
ولكن الرقص الأوربي، فوق أنه متعة للشباب، هو أيضا حاجة اجتماعية وصحية لهم. ولا يمكن مجتمعا سليما، أن يستغني عن الرقص.
ولذلك أنا أنادي راقصاتنا: انظرن إلى أعلى حين ترقصن، وارقصن مثل «بافلوفا». وأنادي أساتذة جامعاتنا: علموا شبابنا وفتياتنا الرقص حتى تكفل به لهم الصحة الجنسية، وحتى يتهيئوا به للحب الجميل. أوجدوا لنا فرقة للباليه. أمتعونا وعلمونا وصححوا غرائزنا حتى لا نكون نواسيين.
قوات التحرير الجديدة
ظهرت في عصرنا عوامل جديدة للتحرير للمرأة والرجل معا.
ذلك أن الأعمال الإنتاجية القديمة في الزراعة والصناعة كانت يدوية تجري بمساعدة الماشية. فكانت تقصم الظهر لما يعاني العامل فيها من المشقة. أما الآن فإن الأعمال الإنتاجية لا تستخدم من الإنسان في أغلب الحالات سوى إشرافه بالعين والعقل مع القليل من استخدام عضلاته.
والمصنع الأتوماتي الذي يفشو هذه الأيام كثيرا في الأمم المتمدنة، لا يكاد يتطلب من العمل سوى ضغط زر هنا أو هناك، وملاحظة مصباح يضيء بالضوء الأحمر أو الضوء الأخضر، والاستماع إلى جرس ينبه عن خطأ أو نحو ذلك.
ولسنا نقول إن المصانع كلها قد وصلت إلى هذه الحال، ولكن بعضها قد وصل، وسائرها يتجه نحو هذه الغاية.
وبكلمة أخرى نقول إن الإنتاج في الزراعة والصناعة لم يعد يتجاوز قدرة المرأة، حتى المرأة الحامل.
وقد دخلت المرأة في المصانع وحررت نفسها من الحاجة إلى زوج يعولها. وأصبح الملايين من النساء يعملن ويكسبن عيشهن وهن عزباوات أو متزوجات. وحصلن بذلك على كرامة اقتصادية جديدة جعلت الأزواج يحترمونهن. ولم نعد نرى ذلك الزوج القديم الذي كان يضرب زوجته أو يهينها اعتمادا على أنه هو وحده كاسب العيش.
وصارت المرأة بقدرتها على الكسب تختار زوجها وفق إملاء قلبها. ولم تعد تتزوج الثري الذي يشتري قلبها بالمال.
وهذا الاتجاه إلى تحرير المرأة بالعمل في المصانع سيزداد قوة كلما تقدمت الحركة الأتوماتية التي أشرنا إليها في المصانع؛ لأن القوة العضلية في الرجل سوف تزول أو تنقص قيمتها كثيرا كلما زادت هذه الحركة، وعندئذ لن يقل عدد العاملات في المصانع عن العمال.
وهناك أيضا وسائل تحديد التناسل والامتناع عن الحمل. فإن المرأة الجديدة صارت تقنع بأن تلد طفلين أو ثلاثة أطفال فقط. وهم بالطبع لا يمرضون ولا يموتون كما كانت الحال في القرن الماضي لأن الوسائل الوقائية والعلاجية للأطفال قد زادت. وهذه الحال جعلت المرأة؛ أي الزوجة، حرة في أن تستغل فراغها في ترقية ذهنها وتربية شخصيتها بالاختلاط بالمجتمع والعمل للكسب مثل زوجها سواء.
وليست تربية الأطفال مما يعوق المرأة في أيامنا عن نشاطها واستغلالها؛ فإن الطفل قبل أن يتم سنتين يبقى بالمحضن وبعد ذلك يدخل الروضة. وكلاهما أصلح له في تربيته والعناية به من عناية الأم التي قد تجهل وسائل التربية.
وكذلك الشأن في البيت. فإن الطبخ بالضغط، والأطعمة المجهزة المعلبة، والتليفون، والغسالة الكهربائية، والمكنسة الكهربائية، وسائر المخترعات الأتوماتية، قد جعلت ربة البيت العصرية لا تكاد تؤدي عملا مجهدا في بيتها. بل هي لا تجده. وفي هذه الحال الجديدة تحرير جديد للمرأة.
وهذا الفراغ الجديد سيحمل المرأة على أن تعنى بالمجتمع، وتنشر الاختبارات، وتحيا الحياة الإنسانية بمسئولياتها العديدة، سياسية وإنتاجية وشخصية وعائلية أكثر مما كانت تفعل جدتها أو أمها.
والقائلون بحجاب المرأة أو بأن البيت هو حقلها الأول يجب أن يسألوا أنفسهم: لم تلزم المرأة البيت أكثر مما يلزمه الرجل؟
إن الطبخ والغسل والتنظيف بالقوة الكهربائية لا يحتاج إلا إلى دقائق، والتليفون يملي على البقال والجزار قائمة المطلوب منهما، والثلاجة تحفظ مئونة أسبوع أو أكثر، وتربية الأطفال في المحضن ثم في الروضة، خير من تربيتهم في البيت. فماذا تفعل المرأة بالتزامها البيت؟
إن المخترعات الجديدة تخدم ارتقاء المرأة لأنها حررتها من مشقة العمل في البيت والمصنع وزادت فراغها الذي تستطيع، بل يجب، أن تستخدمه في تربية شخصيتها وترقية عائلتها ومجتمعها.
وإذن فلتدخل المرأة في المجتمع المصري كي تزيده بهاء بجمالها، وحيوية بنشاطها، ولتعمل إلى جنب الرجل في جميع أنواع الارتقاء الشخصي والاجتماعي.
وزارة للعائلة
جاء في أحد الأخبار الخارجية أن إحدى دول الشمال الغربي في أوربا، لعلها سويد أو نرويج، قد قررت إيجاد وزارة للعائلة؛ وذلك على أثر ما اتضح في السنوات الأخيرة من تفاقم الطلاق بكثرة الراغبين فيه وتشرد الأطفال بسبب الكثرة في الطلاق.
وسوف يكون هدف هذه الوزارة بحث الأسباب التي تؤدي إلى التنافر بين الزوجين، ثم تشجيع الآباء على التناسل المعقول، ورد المكانة إلى البيت حتى يعود كما كان قبل السنوات الأخيرة مكان الولاء والحب والضيافة والتسلية والقراءة والطبخ الراقي والإقامة المريحة ونحو ذلك.
وأنا أؤثر استعمال كلمة عائلة التي اخترعناها قبل أكثر من نصف قرن على استعمال كلمة أسرة التي تشيع خطأ على أقلام كتابنا.
ذلك أن الأسرة غير العائلة.
فإن معجم «أقرب الموارد» يقول عن الأسرة إنها: «رهط الرجل وأهل بيته لأنه يتقوى بهم» ويصف الرهط بأنه: «قوم الرجل وقبيلته».
وواضح من هذه التعاريف أن كلمة «أسرة» لا تدل على المعنى الذي نعنيه منها في أيامنا. وقد سبق للأستاذ عبد القادر المغربي أن أوضح هذا قبل نصف قرن.
ومع ذلك نحن نحتاج إلى الكلمتين. فإننا نحب أن نحدد معنى «العائلة» بحدودها العصرية؛ أي إنها الزوجان وأبناؤهما لا أكثر. أما الأسرة فيبقى معناها كما هي؛ أي الزوجان وأبناؤهما والأخوال والأعمام؛ أي الرهط.
ولنا مصلحة كبيرة في التمييز بين الكلمتين؛ لأن هذا التمييز يزيد فهمنا وذكاءنا.
فنحن نرث أخلاقنا وعاداتنا الاجتماعية من العائلة فقط، أو كذلك في الأغلب.
ونحن نرث كفاءاتنا الجسمية والذهنية من الأسرة، أو كذلك في الأغلب.
وعلى هذا الأساس نقول إننا في حاجة إلى وزارة للعائلة، وليس للأسرة.
العائلة هي أساس المجتمع سواء كان هذا المجتمع يحيا على المبدأ الانفرادي في العيش مثل الأمم الغربية، فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، أم يحيا على المبدأ الاشتراكي مثل روسيا والصين وبولندا ويوغوسلافيا.
وعائلة حسنة تعني مجتمعا حسنا. وعائلة سيئة تعني مجتمعا سيئا.
والتربية الصحيحة لكل إنسان، والتي لا يمكن أن تقارن بها أية تربية، هي التي نحصل عليها في السنوات الأربع الأولى من أعمارنا. أما بعد ذلك فلا نكاد نحصل على أية تربية ولو عمرنا إلى سن السبعين أو الثمانين. وهذه السنوات الأربع الأولى هي سنوات الطفولة مع الأبوين. ويجب أن تقضى في بيت يحوي إشعاعات من الحب والوئام والذكاء والطيبة والجمال. فإذا كان الزوجان يتنافران فإن الابن يشقى بهما بدلا من أن يسعد. وتتكون في نفسه عقد تلازمه طيلة عمره وتتعسه.
وغضب الأم الذي يحملها على ترك الأب، وغضب الأب الذي يحمله على البقاء خارج البيت معظم وقته، ثم الطلاق الذي يجعل الأبناء يتامى أو يعرضهم للمعاملة القاسية، أو التي تخلو من الحب، على أيدي آباء غير آبائهم، كل هذا يحمل الأطفال على التشرد النفسي لأنهم يفقدون مكان الولاء والحب ويفقدون القدوة ويفقدون حقهم في الأبوة.
وهذا التشرد النفسي في الأطفال يحملهم على التشرد العاطفي، ثم المهني، ثم الجنوح إلى الإجرام، ثم السقوط.
نحن البشر نحتاج إلى روابط تربطنا بهذه الدنيا. وأمتن هذه الروابط هو الأم، ثم الأب؛ أي العائلة. ثم هناك روابط أخرى نعرفها بعد أن يكتمل شبابنا، مثل الثقافة والإنسانية والدين والشرف ... إلخ. ولكن إذا فقدنا الرابطة العائلية بطلاق الأبوين، ونحن في الطفولة، فإننا في حكم المتشرد الذي لا يرتبط بأي رباط عاطفي أو ذهني. ولن تنفعه الارتباطات الأخرى، بل هي لا تنشأ.
وقد يكون التجاء الأب إلى زوجة أخرى زيادة على زوجته الأولى مساويا في المساوئ والأضرار للطلاق. بل أحيانا يزيد؛ لأنه يحدث تفاوتا في المعاملة يحسه الطفل، كما يثير الشجار بين الزوجين، ويجعل من البيت مكانا للقلق عند الطفل.
وهو قلق يحسه الطفل ويجد أسبابه وهو صغير، ولكنه يحسه ولا يعرف أسبابه بعد ثلاثين سنة فلا يفهم منه إلا أنه مريض شاذ يحتاج إلى العلاج النفسي.
الطلاق وتعدد الزوجات هما كارثة المجتمع المصري؛ إذ ليس لنا عائلة لوجودهما. والعائلة هي الأساس الذي تبنى عليه المجتمعات.
ونعني عائلة ثابتة لا تتزلزل بمتوسط مرة كل خمس أو عشر سنوات بالطلاق أو بزيادة زوجة أخرى تحيل البيت إلى مكان للأسرة (أي الرهط)، وليس للعائلة، أي الزوجين وأبنائهما فقط.
نحتاج إلى وزارة للعائلة تكون وزارة التموين الحاضرة جزءا منها بل جزءا صغيرا؛ لأن اهتمامنا بالأكل يجب أن يكون صغيرا إلى جنب اهتمامنا بجعل البيت هنيئا في شئونه الأخرى، وخاصة شأن الحب بين الزوجين، وشأن الحب بين الأبوين والأبناء، وشأن المكافحة للطلاق وتعدد الزوجات، وشأن تسهيل الزواج بين الشبان والفتيات، زواج بلا مهر أو أثاث. إننا نحتاج إلى «بيت» يتألف من أبوين وأبناء وحب وثقافة وضيافة. ولا نريد أن نقنع بأن نقيم في «منزل» للأكل والشرب.
ومع ذلك سوف يكون لوزارة العائلة أكبر الاهتمام ببناء المنازل. وأكبر الاهتمام بصحة الأفراد في العائلة، وأكبر الاهتمام بالشيخوخة عندما يسن الأبوان ويعجزان عن الكسب.
بل يجب أن نهتم بالعائلة قبل أن نبدأ، وذلك بتعليم الشبان والفتيات وقت عزوبتهم؛ أي قبل الزواج، تلك التفاصيل الدقيقة السامية عن الحب والحياة الزوجية وشرف الأمانة الزوجية وجمال الجسم وجمال النفس. ويجب أن نعرفهم بما يحتاجون إليه من معاني الوراثة والبيئة والمرض الوراثي ... إلخ.
وبكلمة أخرى يجب على وزارة العائلة أن تؤلف كتابا عن الحب والسعادة بين الزوجين.
ثم عليها أن تؤلف كتابا عن الطبخ.
بل ماذا أقول؟ لقد ألفت إحدى حكومات أوربا هذا الكتاب وكلفها مئات الألوف من الجنيهات وباعته للعائلات ، أجل للعائلات، حتى تستطيع ربة البيت أن تحسن الطهو. ولكن، وهنا القيمة العظمى، الذين أشرفوا على تأليف هذا الكتاب أطباء لا طهاة، أليس هذا حسنا؟ يجب أن نتذوق الطعام بعقولنا فنختار الصحيح السليم الذي يغذو، ولا نتذوقه بألسنتنا وأفواهنا فقط فنختار الحلو اللذيذ الذي قد لا يغذو أو لا يكون سليما.
إن وزارة للعائلة في مصر يمكن أن تشتغل بمائة شأن وشأن. وهي تحتاج إلى موظفين متمدنين من العلميين والسيكلوجيين والفلاسفة والقانونيين والاجتماعيين هدفهم جميعا: السعادة لأبناء مصر.
ولكن مركز المرأة في العائلة لا يزال دون مركز الرجل. فإن سيادة الرجل عليها، وإطلاق حريته في الطلاق وتعدد الزوجات، قد جعل مكانتها الاجتماعية منحطة كما جعل مركزها العائلي مزعزعا لا يستقر. وهذه الحقوق التي يستمتع بها الرجل استمتاعا مطلقا استبداديا يؤكد سيادته عليها إذ هو يشهر عليها سلاحا هي عزلاء منه.
واعتقادي أن انتصار المرأة في التعليم، ثم في الميادين الاقتصادية المختلفة، سيضطر الرجال في مصر إلى الاعتراف بالمساواة المطلقة في الحقوق العائلية. ولن تكون هذه المساواة بالطبع ممارسة المرأة لحق الطلاق أو تعدد الأزواج كما يمارسها الرجال؛ فإن هذا هراء. وإنما المساواة سوف تتحقق بحرمان الرجل هذين الحقين.
وعلى كل رجل نبيل الذهن، وعلى كل امرأة تنشد الحق والعدل، أن يسعيا لإلغاء هذين الحقين عند الرجال. ونعني الإلغاء من حيث الحرية المطلقة للطلاق أو التعدد، ورد هذين الحقين إلى هيئة القضاء وحده في محكمة تنتظم في دستور الدولة العام.
هؤلاء الأمهات
يكاد القارئ لفرويد يحس كأن البيت مكان لعذاب الطفل في السنوات الثلاث أو الأربع الأولى من عمره. وهو عذاب نفسي؛ إذ هو يحب أمه حبا جنسيا غامضا، وهو لذلك يحس كراهية لأبيه وخوفا منه. ثم تنشأ فيه المركبات المؤلفة من الحب للأم والكراهية للأب والإحساس بالخطأ لهذا الموقف، ثم الخزي والندم لهذا الإحساس.
وتحيا معه هذه المركبات، وتتخذ ألوانا أخرى وصيغا أخرى وتتكون منها حوافز ودوافع في مستقبل العمر قد تنتهي بالدمار الأخلاقي أو المرض النفسي في بعض الأحيان .
ونحس أيضا، ونحن نقرأ فرويد وغير فرويد، كأن الطفل كتلة من الأنانية التي لا يخالطها أدنى بر. وأنه، لهذه الأنانية، شقي بالعلاقات القائمة بينه وبين أبيه وأخوته من ناحية، وبين أمه التي يريد أن يستأثر بحبها ولا يطيق أن يشاركه في هذا الحب أحد من ناحية أخرى.
وليس شك أن بعضا من الأجزاء في هذه الصورة القاتمة صحيح. ولكن الذي لم يتنبه إليه فرويد أن الطفل في أنانيته وحيوانيته يتعلم من الحب الغامر الذي تضفيه عليه أمه حبا آخر يشبه الإيثار وينأى عن الأنانية والحيوانية.
ذلك أن حب الأم لطفلها إيثار. والطفل يستجيب إلى هذا الحب الإيثاري بحب إيثاري مثله، لا لأمه فقط، بل لإخوته ولجميع من يتصل بهم من الناس. بل هو ينشأ على هذا الحب الإيثاري ويعامل المجتمع به لأنه رأى قدوته قبل ذلك في أمه.
ونحن نفرض هنا بالطبع أما حبيبة إلى قلبه، راشدة، عاقلة، كما نفرض وسطا عائليا حسنا من الأخوة إلى الأب إلى الأقارب إلى الزائرين إلى الخدم، إلى غيرهم ممن يؤلفون أحيانا المركبات - أي العقد - للأطفال من حيث لا يدرون. كما نفرض أيضا سعة في العيش بحيث لا يحتاج الأطفال إلى أن يمارسوا الخطف والاغتصاب والسرقة لضيق العيش.
إن مركز الأم بالدراسات الحديثة يكبر في المجتمع، وقيمتها تعلو على أية قيمة في التربية.
الأم هي الأصل في الحب البشري العام. وهي الأصل في الإحساس الإنساني.
الأم هي الأصل للمجتمعات البشرية.
هذا هو ما علمناه بريفولد في كتابه «الأمهات».
أجل، نحن نولد حيوانات كما يقول فرويد، نحس الأنانية والغيرة وننزع إلى الخطف والاستيلاء والنهب. ولكن الأم تعلمنا بحبها الإيثاري لنا، حبا إيثاريا آخر لها ولجميع من نعرف أو نختلط بهم من الناس.
يحدثنا بريفولد عن الإنسان قبل أن يعرف الزراعة ويستقر على بقعة من الأرض لا يغادرها، فيقول: إن الناس كانوا يجوبون الأرض في البحث عن الجذور الطرية أو الفواكه البرية، أو يتربصون لصيد طائر أو مطاردة حيوان. ولم يكن هناك زواج بحيث يلتزم الرجل امرأة لا يتجاوزها إلى غيرها؛ إذ هو لم يكن يدري أن علاقته بها هي علة التناسل.
ولذلك كان الأطفال يلزمون الأم ولا يعرفون الأب، وكانوا يلتصقون بها في حب وولاء ويجدون على ثدييها لبنا وحنانا ثم يجدون منها بعد ذلك غوثا وإرشادا.
وهذا هو المجتمع البشري الأول: أم تجوب الأرض مع ثلاثة أو أربعة أطفال يسيرون خلفها ويلعبون حولها تربطهم جميعا صلة الحب. ولا يكاد يكون للأب هنا مكان.
ألا ترى أننا ما زلنا نسمي الأقارب «ذوي الأرحام»؟
ذلك لأن صلات القربى التي عرفناها أيام التجوال والبحث عن الطعام هي صلة الرحم؛ لأننا كنا نلتصق بالأم.
ومن الرحم اشتقت في اللغة العربية كلمة «الرحمة».
فالرحمة هي الصفة التي تربط ذوي الأرحام؛ أي ذوي القربى.
ثم انتقل هذا المعنى الكريم إلى أفراد المجتمع.
انتقل من الأم إلى المجتمع إلى الإنسانية.
وينبهنا بريفولد إلى الخطأ الشائع، وهو الاعتقاد بأن منشأ الحب هو الاشتهاء الجنسي. ويقول إن هذا الاشتهاء أقرب إلى العدوان منه إلى الرحمة والرقة والتعطف.
ذلك أن مرجع الحب هو تعلقنا بالأم.
بل إن هناك صيغة للجنون يلتقي بها السيكولوجيون من وقت لآخر هي أن المريض يحب أن يعود إلى الرحم حين لا يطيق هذه الدنيا، وحين ترهقه الهموم وتصدمه الأحداث. وهو يطوي جسمه كما لو كان جنينا في الرحم.
وشيء من هذا الإحساس نحسه نحن الأصحاء نحو البيت الذي يمثل لنا في أمنه وطمأنينته وعزلته وظلمة أركانه، يمثل لنا الرحم التي كنا آمنين فيها قبل أن نخرج إلى هذه الدنيا المقلقة المخيفة.
أي إننا حين نصبو إلى البيت وهناءته وسعادته إنما نصبو إلى حماية الأم وسكينة الرحم؛ إذ هو رمزهما في عقلنا الكامن.
ولا تزال ذكرى الأم تؤنس حياتنا بعد موتها، وتثير في أنفسنا إحساسات الرحمة والحب والشرف والإنسانية. ولا يستطيع إنسان أن يكون دنسا أو خسيسا إذا مثلت أمه في ذاكرته.
ونحن نعيب على الأمهات تدليلهن للأطفال، وهذا حق إذا كان هذا التدليل مسرفا. ولكن من منا لا يذكر بالهناء والفرح تلك اللحظات التي وجد فيها من أمه، وهو طفل، بعض هذا التدليل؟
وأكاد لذلك أن أقول إن شيئا من التدليل يمكن أن يعد حسنا؛ وذلك كي يبقى رصيدا نفسيا نذكر به الأم ونصبو به إلى أيام طفولتنا ونشكر للأقدار ما أسدت إلينا من سعادة.
وإني لأعرف شيوخا وكهولا في الخمسين والستين من أعمارهم إذا ذكروا أمهاتهم ضحكوا ومرحوا كما لو كانوا أطفالا. وعندما أتأمل هذا السلوك أكاد أتساءل: هل نحن نخرج من المهد؟ ألا نعيش فيه طيلة حياتنا من حيث لا ندري؟ أليست عواطفنا ونحن في الخمسين أو الستين من العمر تعود إلى البذور التي زرعتها الأم في قلوبنا أيام طفولتنا؟
وزرعتها في شيء من التدليل المحبب؛ ولذلك بقيت ثابتة محببة إلى نفوسنا.
إن كثيرا من الكتاب يتحدثون عن السعادة ويذكرون ما يجب وما لا يجب لتحقيقها، وكأنهم ينسون أن الذي يزرع بذور السعادة هو الأم، وأن ذكرياتنا للأمومة هي أكبر دعائم سعادتنا، وأن كثيرا مما نرى في الدنيا إنما نراه بعينيها، وأننا نشهد على الأشياء والناس بضميرها.
وأكبر كارثة تقع بإنسان أن تموت أمه أو تنفصل منه بطلاق وهو طفل؛ إذ هو يحيا بعد ذلك بلا ذكريات حميمة، وبلا روابط أصيلة تربطه بالمجتمع، وقد ينجح في إيجاد روابط جديدة حين يجد أما أخرى قد بسطت عليه أمومتها.
ولكنه، إذا لم يجد هذه الأم المستعارة، يبقى شقيا؛ إذ هو يرى الأثرة ولا يعرف الإيثار، ويجد الخاطفين ولا يجد العاطفين، وتغيب عنه رمزية البيت. كما أنه يعجز عن أن يضفي على زوجته ذلك الإحساس الإيثاري الذي كان يضفيه على أمه.
وعلى ذكر الزوجة وعلاقتها بالأم - أي أم الزوج - نحتاج إلى بيان منير.
ذلك أننا حين نكون على ثديي الأم نحب وجهها ونشغف به، وننشأ ونحن نعد هذا الطراز من الوجه خلاصة الجمال النسوي. فإذا بلغنا ونضجنا صرنا لا نلتفت إلى أفراد الجنس الآخر إلا إذا كن على طراز أمهاتنا في الوجه والقامة، بل في الصوت والإيماءة.
ولذلك كثيرا ما نجد زوجين يتشابهان إلى الحد الذي نتوهم منه أنهما شقيقان؛ وذلك لأن الزوج عندما شرع يتوسم الوجوه أيام الخطبة ترشحا للزواج لم يكن يجد من صور الجمال سوى تلك التي كانت تشبه أمه.
وما دام هو نفسه يشبه أمه بحكم الوراثة فإنه يختار فتاة تشبهه هو ومن هنا هذا التشابه الكبير بين الزوجين.
إن صورة الأم التي عرفناها أيام الرضاع تبقى ماثلة في أذهاننا طيلة حياتنا.
ليس أبعث في النفس للوعة والشجن من رؤية الأمومة المنهوكة؛ حين نصادف أما قد تجاوزت الخمسين وقد جف ثدياها وانخسف صدرها فإننا هنا نقرأ على وجهها وتفاصيل جسمها تاريخا إنسانيا، هو الجمال الذي فني، والصحة التي تهدمت، والحيوية التي ذبلت. ونوقن أن كل ذلك قد ذهب، جمال وصحة وحيوية، في خلق أطفالها.
إن الأمهات يتمزقن كي يخلقن.
ولقد رأيت صورة الأم مرة واحدة فلم أنسها.
هي أم الرسام الأميركي هويسلر. رسمها ليس كما كان يراها فقط، بل كما كان يشهد ضميره عليها. رسم نفسها أكثر مما رسم جسمها.
رسمها قاعدة على كرسيها، جافة شائنة، ولكنها راضية عن حياتها الذاهبة؛ لأن ابنها يمتلئ حيوية أمامها، ويقوم ويقعد، ويتأملها في فرح، ويحاول أن يخط بريشته خطوط الأمومة التي كان يحس انطواء جسمها عليها.
أليس في نفس كل إنسان هذه الصورة يرسمها لأمه في قلبه؟
إني كثيرا ما وجدت شعراء كان شعرهم تلفيقا وحياتهم تمليقا، ولكن ما هو أن كانوا يذكرون أمهاتهم حتى كانت تنبجس من قلوبهم العواطف الإنسانية، وحتى كانت تغلي أرواحهم لوعة وشجنا وطربا.
إن الأدب هو التبلور لأخلاق الأمة وخصالها، وأسلوبها في التعبير اللغوي، وإحساسها الفني نحو الأشياء والناس، وتعقلها المتزن للعيش وللحياة.
والأديب الحق هو الشخصية التي تتبلور فيها هذه الصفات على أعلاها وأجملها.
وكثيرا ما أعجب بالأدب الأوربي لأن للأم فيه مقاما عظيما. وما من أديب عظيم في أوربا إلا وهو يحدثنا الحديث الطويل عن أمه وطفولته التي هنئ بها وعاش يأتنس بذكرياتها.
لقد كتب مكسيم جوركي عن أمه وجدته أكثر من مائتي أو ثلاثمائة صفحة، وأخبرنا بأنه كان يعتقد وهو طفل أن جدته قديسة وأن جثمانها لن يبلى في القبر. وله قصة تدعى «الأم» تقرب من ألف صفحة.
وكثير من القصص الأوربي هو تراجم لمؤلفيها يذكرون فيها حياتهم أيام طفولتهم في أسلوب قصصي.
كان أناطول فرانس على فراش الموت بعد أن بلغ الثمانين، وكانت آخر كلمة نطق بها وودع بها الدنيا: ماما.
الزوج زميل زوجته وليس رئيسها
كانت الشعائر الدينية في إنجلترا تقتضي أن يقول القسيس للزوجة: «يجب أن تطيعي زوجك!»
ولكن هذه الجملة حذفت لأن كثيرا من العرائس كن يجبن على هذا الأمر بقولهن: «لا». فيثرن الضحك بين المدعوين للعرس.
وتغيرت العلاقة بين الزوجين الإنجليزيين، فلم يعد الزوج رئيسا لزوجته يطلب طاعتها وإنما هو زميل يتساوى بها ويتعاون معها.
إنسان مع إنسانة، رجل مع امرأة، كلاهما على مستوى واحد، ليس أحدهما رئيسا والآخر مرءوسا. وإنما هما زميلان.
ومعنى الرياسة، الذي لا يزال يوجد في بلادنا، والذي يستمتع به الزوج، يجب أن يلغى؛ إذ يجب أن تكون العائلة المصرية ديمقراطية يتساوى فيها الزوج بزوجته، فلا رئيس ولا مرءوس، هو يأمر وهي تطيع.
نحن نحاول أن نجعل مجتمعنا اجتماعيا، يتألف من الرجال والنساء وليس من الرجال فقط. ولا يمكن ذلك إلا إذا كافحنا فكرة السيادة للرجل على المرأة، ومحوناها، وأقمنا مقامها فكرة المساواة والزمالة.
ونحن مضطرون إلى ذلك ولسنا مختارين.
ذلك أن الإنتاج العام يحتاج في مصر إلى أيدي النساء وعقولهن، كما هو يحتاج إلى أيدي الرجال وعقولهم. وفي جميع الأقطار المتمدنة تنتج المرأة وتزيد الثراء العام والقوة الحربية والغذاء والكساء والبناء.
لقد قال لنا الذين زاروا موسكو إنهم رأوا المرأة تعمل في البناء واستغربوا هذا المظهر! استغربوه لأنهم شرقيون متأثرون بعادات فكرية واجتماعية تحملهم على إيثار المرأة العاطلة التي تتعطر، على المرأة العاملة التي تكافح.
ولكننا في تنازع بقاء مع الأمم المتمدنة فيجب أن ننتج مثلها. وإذا عطلنا المرأة عن العمل فإن إنتاجنا يقل؛ إنتاج السلم وإنتاج الحرب، وعندئذ ننهزم في «تنازع البقاء»، بل قد ننقرض كما انقرض الهكسوس، والحيثيون، والكنعانيون، والبابليون، والميديون، والأنباط، وعشرات غيرهم من الشعوب التي لم تتطور.
إن انقراض الأمم المتخلفة ليس خرافة من خرافات التاريخ بل هو حقيقة. وسبيل البقاء وضمان المستقبل هو التطور والرضا بالتغير؛ كي تزيد القوة بجميع مظاهرها من ثراء إلى عتاد إلى صحة إلى علم إلى أخلاق.
وزمالة المرأة للرجل قوة كبيرة؛ إذ هي تتربى بهذه الزمالة، وتعرف هذه الدنيا الواسعة التي كانت إلى وقت قريب محرمة عليها؛ أي تعرف الإنتاج والكسب وتتخذ أخلاق الرجال في الجد والعمل والدرس والطموح. بل إن الرجل المصري يتربى أيضا بهذه الزمالة، فلا يؤمن بأنه رئيس وزوجته مرءوسة؛ لأنه حين يتعود الزمالة في المدرسة، ثم في المصنع أو المكتب، ينقل هذا الإحساس إلى البيت، فيتعود الزمالة مع الزوجة، فلا يعتقد أن له أن يأمر وعليها أن تطيع.
الزمالة في المدرسة والجامعة من أوجب واجباتنا. ويجب ألا يفصل الجنسان مدة التعليم. وليست المدرسة، وليست الجامعة، مكانا للتعليم فقط، وإنما هما مكان للتربية أيضا. والتلميذ والطالب يتعلمان من المدرس أو الأستاذ، ولكنهما لا يتربيان بالدرس أو المحاضرة، وإنما يحصلان على التربية من الزمالة بين الجنسين؛ ذلك أن الزمالة هي الاجتماع والحديث والعمل المشترك والمناقشة المثيرة. وكل هذا تربية للأخلاق وتكبير للشخصية.
وأولئك الذين يقولون بالانفصال في التعليم إنما يعملون في الواقع لتعويق تطورنا الاجتماعي، ونقص إنتاجنا، والإخلال بتربية أبنائنا وبناتنا.
إننا في «تنازع بقاء» ونحن لا نحتاج إلى أن يقوم بالإنتاج في المصانع والمزارع والمتاجر والمكاتب ثمانية ملايين شاب فقط، إنما نحتاج إلى إنتاج 16 مليونا من الشبان والفتيات.
وإذا لم نفعل ذلك فإن الذين يفعلونه يغلبوننا، ليس في الحرب بل في السلم أيضا؛ وعندئذ ننقرض أمامهم كما انقرض الهكسوس أمام أسلافنا.
وعندما نتزوج على أساس الزمالة والمساواة، يقوم الحب من الزوجة مقام الاحترام لزوجها. والحب أبر وآمن وأدعم للعائلة من الاحترام. الزوجة التي تحب زوجها خير من الزوجة التي تحترمه.
ولا يمكن الجمع بين الاحترام والحب؛ بل إننا لا نعرف كيف نحترم أحدا إذا كنا نحبه.
ولن يسود الحب البيت إلا إذا كانت الزمالة تأخذ مكان الرياسة.
وليس في الدنيا إنسان يستحق أن يرأس زوجته، وإنما هناك قوانين وقواعد اجتماعية يجب أن تكون لها الرياسة، وأن يخضع لها الجميع رجالا كانوا أو نساء.
إن كل رجل نشأ في مجتمع انفصالي يعد ناقصا في تربيته جاهلا للجنس الآخر، بل هو قد يقع فريسة للشذوذ الجنسي. وكذلك الشأن في كل امرأة نشأت في مجتمع نسوي فقط.
ولا عبرة بأن يقال إن مكان المرأة هو البيت.
لقد كان الشأن كذلك قبل مائة سنة حين كانت أعمال البيت وواجباته تقتضي من المرأة أن ترصد حياتها كلها على خدمة البيت والزوج والأولاد. ولكن هذا البيت القديم كان بيتا غير متمدن. أما البيت المتمدن الآن فلا يحتاج أكثر من ساعة أو نصف ساعة من الخدمة في اليوم كله. ومن الإجحاف أن نقول للزوجة: الزمي بيتك، وابقي معطلة طيلة النهار، وحسبك أن تعملي ساعة في اليوم كله.
هلموا نحو التمدن.
والتمدن هو حق المرأة في الحرية وواجبها في الإنتاج.
بل حقها قبل كل شيء في المساواة بالرجل وزمالتها له، وليس مرءوسيتها له.
Page inconnue