وفي هذا الحين انهي إلى محمد بن بشير الحضرمي خبر أسر ابنه بثغر الري ، فقال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما احب أن يؤسر وأبقى بعده. فلما سمع الحسين (ع) هذا منه أذن له بالمفارقة ، وحل عقد البيعة ؛ ليعمل في فكاك ابنه. فلما سمع ذلك من سيد الشهداء ثارت به حمية الدين ، وحفزه الولاء الصادق إلى إظهار عقيدته الراسخة في التفاني دون شخص الإمام (ع)، فقال : يا أبا عبد الله ، أكلتني السباع حيا إن فارقتك.
إن الإيمان الثابت ، والطاعة لله تعالى وللرسول (ص) يرفعان من تمكنا فيه إلى أوج العظمة ، وفوق مستوى الفضيلة. ولو كان ابن بشير متزلزل العقيدة ؛ لاغتنم فرصة الإذن بالإنصراف عذرا عند المولى سبحانه وعند الناس.
إن (الشهامة الحسينية) لم تترك لصاحبها منتدحا دون المجاهرة بالإفراج عن العبد الأسود (جون مولى أبي ذر الغفاري)؛ لئلا يقيده الحياء عن الفرار. ولكن سيد الشهداء (ع)، بعد أن عرف صبره ، وثباته عند الهزاهز أراد بامتحانه ؛ تعريف المتجمهرين عليه ، ومن يأتي من الامم نفسية هذا العبد الأسود ، ومبلغ موقفه في الذب عن الشريعة التي تلاعبت بها أيدي الخائنين مهما تفاقم الخطب ، وتراكمت الأهوال. فأباح له حل العهد والنجاة بنفسه ، فقال له : «يا جون ، إنما تبعتنا طلبا للعافية ، فلا تبتل بطريقتنا». فعندها تسابقت دموعه ؛ خوفا من عدم التوفيق لنيل السعادة الخالدة ، وقد مزجها بقوله الذي لم يزل رجع صداه في مسامع الأجيال ، معرفا بنجاح الصابر عند الهزاهز (وإنما الراحة بعد العنا).
فقال : أنا في الرخاء ألحس قصاعكم ، وفي الشدة أخذلكم! إن ريحي لنتن ، وحسبي لئيم ، ولوني أسود فتنفس علي بالجنة ؛ ليطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيض لوني. لا والله لا افارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم (2).
ولولا هذه المصارحة من الحسين (ع)، لما تسنى لكل أحد الوقوف على
Page 92