شاكلة الغرض يوم تقشعت سحب الأوهام بأنوار نهضته الوضيئة ، وهتاف حرمه الذي بلبل الأفكار ، وأقلق الأدمغة حتى راحت الأندية تلهج بما احتقبه هؤلاء الطغاة ومن قبلهم ، من الشنار والعار.
* الرخصة في المفارقة
وعلى هذا النهج القويم تكون مصارحة سيد الشهداء بكلمته الثمينة ، البعيدة المغزى ، الحكيمة الأساس ، المتضمنة تجويزه لأهل بيته وصحبته بمفارقته.
ونص ما يتحدث به المؤرخون عن ذلك ؛ قوله (عليه السلام) لأهل بيته وصحبه عشية التاسع من المحرم : «إني لا أعلم أصحابا أولى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني جميعا. ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء غدا ، وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعا خيرا. وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم ؛ فإن القوم إنما يطلبوني ، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري» (1).
ما أجل مغزاك يا أبي الضيم! وما أسمى ما ترمي إليه يا سيد الشهداء! وما أحكم أقوالك وأفعالك يا روح النبوة! بلى إن هذه الجملة الذهبية كتبت بأحرف نورية على جبهة الدهر : إن اولئك الصفوة الميامين الذين وصفهم أمير المؤمنين (ع) بأنهم سادة الشهداء ، وأنهم لم يسبقهم سابق ، ولا يلحقهم لاحق (2) زبدة العالم ، ونخبة الكون. وقد استضأنا من تلك الإشعاعات طوايا نياتهم ؛ من الحزم والثبات ، والإخلاص في المفاداة ، والتضحية القدسية ، وفي كل ذلك دروس راقية لمن يريد اقتصاص أثر اولئك الاباة في الترفع عن الدنايا ، والموت تحت راية العزم ، وعدم الخضوع للسلطة الغاشمة ، إما ظفر بالأمنية ، أو فوز بالشهادة والسعادة.
ولولا تلك الرخصة بالمفارقة الصادرة من أمين الشرع والشريعة ، وتلك
Page 86