(أما المذهب الأول): وهو أن المكان هو البعد فانما يستقيم لو فهم أن بين طرفي الكوز بعدا يستوى بعد الماء الذى فيه أو الهواء فعند ذلك يكون مكانا للماء أو الهواء وذلك ليس بمعلوم فان المشاهدة ليست تدل إلا على بعد الجسم الذى فى الكوز فاما بعد آخر مداخل له فلا* فان قيل لو قدرنا خروج الماء من غير دخول الهواء لبقى البعد بين الطرفين فهذا ليس بحجة وإن كان صادقا لأنه بناء على محال إذ يستحيل أن يخرج الماء من غير دخول الهواء والصادق إذا ابتنى على محال لم يكن صادقا دون ذلك المحال فانك لو قلت الخمسة لو انقسمت بمتساويين لكان زوجا فهو صادق ولكن لا يجوز أن يتوصل به إلى أنه زوج فكذلك لو خلا الكوز لكان فيه بعد ولكن المقدم محال فالتالى لا يلزم منه فهذا من حيث المطابقة ليفهم ما قالوه* وأما البرهان على استحالته فهو أن بعد الجسم بين طرفى الكوز معلوم فان فرض بعد آخر فقد دخل فى بعد الجسم والابعاد يستحيل تداخلها بدليل أن الأجسام لا تتداخل وليس ذلك لكونها جوهرا لأن البعد عند هؤلاء قائم بنفسه فهو جوهر ومع هذا دخل في الجسم ولا لكونه باردا أو حارا أو غيره من الأعراض إذ لو كان كذلك لجاز التداخل عند عدم تلك الصفة فلا سبب له إلا أنه ذو بعد والأبعاد لا تتداخل ومعناه أن ما بين طرفى الصندوق مثلا ذراع من الهواء وهذا الجسم أيضا ذراع فلو دخل فيه دون خروج الهواء لكان قد صار الذراعان ذراعا واحدا مع وجود الجسمين المذروعين ويستحيل أن يصير ذراعان ذراعا واحدا وكما يستحيل هذا فى ذراع هو هواء يستحيل فى غيره فاذن لا يتداخل بعد ان فانه إن أريد بالتداخل أن أحدهما انعدم وبقى الآخر فهذا انعدام وإن أريد بقاؤهما جميعا رجع إلى أن ذراعين ذراع واحد وهو محال ولأنه إذا قدر البعدان جميعا موجودين فبم يعرف الاثنينية* والدليل الذى أبطل دعوى سوادين فى محل واحد يبطل هذا فان الاثنينية لا تفهم إلا بعد مفارقة الواحد الآخر بعرض من الأعراض كما سبق برهانه فاذا تداخل البعدان جميعا وأحدهما لا يفارق الآخر فأى فرق بين قول القائل أن ههنا بعدين وبين قوله ثلاثة أبعاد وأربعة أبعاد وهذا محال ولا بجوز الفرق بوصف كان موجودا وعدم حالة التداخل لأن المعدوم لا يوقع التفرقة بين الشيئين* أما بطلان الثانى وهو إبطال الخلاء فما ذكرنا أيضا كفاية لأن فيه قولا بتداخل الأبعاد ولكنا نزيد أدلة (الأول): أن الخلاء إنما يقع في الأوهام من الهوا لأن الحس لا يدركه فيظن الانسان أن الكوز الذى لا ماء فيه فارغ خال فينغرس فى الأوهام تصور الخلاء فان ما توهمه أرباب الخلاء هو شىء مثل الهواء لأن له مقدارا مخصوصا وهو قائم بنفسه وهو منقسم* ونحن لا نريد بالجسم إلا ما وجد فيه هذه الصفات وبهذا الاعتبار كان الهواء جسما فالخلاء ليس عدما محضا فانه يوصف بأنه صغير وكبير ومسدس ومربع ومستدير وأن هذا الخلاء يتسع لذراعين من الملاء لا أكثر منه ولو كان أقل منه فلا يطابقه والنفى المحض لا يوصف بمثل هذه الأوصاف فهو موجود قائم بنفسة ليس بعرض وله مقدار ويقبل القسمة ونحن لا نعنى بالجسم إلا هذا بدليل الهواء (الثانى): أنه لو كان الخلاء موجودا لكان الجسم فيه غير ساكن ولا متحرك والتالى محال فالمقدم محال* وإنما قلنا أن السكون فى الخلاء محال لأن السكون إما أن يكون بالطبع أو بالقسر فان فرض سكون الجسم فى جزء من الخلا بالطبع فهو محال لأن أجزاء الخلاء متشابهة لا اختلاف فيها وإن فرض بالقسر فانما يكون بالقسر إذا كان له موضع آخر ملائم على خلاف ما هو فيه وإذا انتفى الاختلاف انتفى الافتراق فى حق الطبع والقسر بعد الطبع* وأما الحركة فى الخلاء فهو أيضا محال بدليلين.
(أحدهما ): ما ذكرنا فانه إن كان بالطبع فكأنه يطلب موضعا مخالفا لما كان فيه ولا اختلاف فيه وكذا القسر.
(والثانى): أنه لو كان فى الخلاء حركة لكان فى غير زمان وهو محال فالمقدم محال ووجه استحالته ما قد سبق أن كل حركة ففى زمان لأن كونه في الجزء الأول قبل كونه في الثانى لا محالة وإنما لزم هذا المحال لأن الحجر يتحرك إلى أسفل فى الهواء أسرع من أن يتحرك في الماء لأن الهواء أرق وممانعته ودفعه أقل ولو صار الماء ثخينا بدقيق أو غيره لصارت حركة الحجر فيه أبطأ أيضا لما يحصل فيه من الممانعة والدفع فنسبة الحركة إلى الحركة في السرعة والبطؤ كنسبة الرقة إلى الثخانة فى الممانعة والدفع فاذا فرضنا حركة فى خلاء مائة ذراع مثلا فى ساعة ثم فرضنا حركة ذلك الجسم مع تقدير وجود الهواء أو الماء فى تلك المسافة فلا بد أن يكون أبطأ فليقدر أنه في عشر ساعات فلو قدرنا الملاء بشىء بدل الماء أرق منه إلى حد يكون نسبته فى الممانعة اليه العشر فتكون الحركة فى ساعة فيؤدى إلى مساواة الحركة مع وجود أصل المنع للحركة في الخلاء مع عدم المنع وإذا كان التفاوت فى قدر المنع يوجب التفاوت فى الحركة فالتفاوت فى وجود المنع وعدمه كيف لا يوجب وهذا برهان قاطع يثبت ما ذكرنا من لزوم اشتمال كل جسم على ميل فيه.
(الثالث): وهو من العلامات الطبيعية على إبطال الخلاء أن الطاس من الحديد إذا ألقى على الماء لم يغص فيه ولا سبب له إلا أن الهواء متشبث بمقعره فانه لو غاص الطاس فالهواء لا يساعده حتى يحصل فى حيز الماء لأنه يطلب الصعود من حيزه ولو انفصل عنه واستمسك فى حيزه وغاص الطاس حصل خلاء بين سطح الطاس وسطح الهواء المنفصل وهو محال وعلى هذا بنيت السفينة ولذلك لو خرج الهواء من الطاس أو السفينة وملىء بماء لرسب وكذلك كوبة الحجام تخرج الهواء بالمص فينجذب معه بشرة المحجوم لأنه لو لم ينجذب لحصل خلاء وهو محال وكذلك سراقة الماء يتماسك الماء فيها مع التنكيس لذلك فلو خرج الماء لم يجد فى أسفل السراقة ما يستخلفه فيخلو ويستحيل وجود الخلاء وانفصال سطوح الأجسام بعضها من بعض من غير خلف وكذلك القارورة قد توضع على الهاون وضعا مهندما ثم يرتفع الهاون برفعها إلى غير ذلك من جملة الحيل التى بنيت على استحالة الخلاء فان قيل ما حقيقة المكان قيل ما استقر عليه رأى أرسطاطاليس هو الذى أجمع عليه الكل وهو أنه عبارة عن سطح الجسم الحاوى أعنى السطح الباطن المماس للمحوى لأن العلامات الأربعة المذكورة موجودة فيه وكل ما وجدت فيه تلك العلامات فهو مكان فقد وجدت فى السطح الباطن من الجسم الحاوى فهو مكان ولم يوجد فى صورة ولا فى هيولى ولا غيره فلا يكون مكانا فاذا جملة العالم ليس فى مكان أصلا ولذلك لا يجوز أن يقال لم اختص بهذا الحيز فلم يكن أرفع منه أو أسفل لأن الخلاء محال فليس ثمة أرفع وأسفل وأما النار فمكانها محيط فلك القمر من الباطن ومكان الهواء السطح الباطن من النار ومكان الماء السطح الباطن من الهواء وعلى هذا الترتيب ينبغى أن نعتمد.
(المقالة الثانية): فى الأجسام البسيطة والمكان خاصة لا يخفى انقسام الجسم إلى البسيط والمركب* والبسيط ينقسم إلى ما لا يقبل الكون والفساد كالسماويات وإلى ما يقبل كالعناصر الأربعة وقد سبق أن السماويات لا تقبل الانخراق ولا الفساد ولا الحركة المستقيمة ولا تخلو عن الحركة المستديرة وأنها كثيرة وطباعها مختلفة ولها نفوس تتصور وتتحرك بالارادة وكل ذلك سبق فى الالهيات ونزيد ههنا أن موادها أعنى هيولياتها مختلفة بالطبع ليست مشتركة كما أن صورها مختلفة لا كالعناصر فان موادها مشتركة إذ لو كانت مادتها مشتركة لكانت مادة الواحد منها تصلح من حيث ذاتها أن تتصور بصورة أخرى ولو كان يتصور ذلك لكان تخصيصها بصورتها بالاتفاق وبسبب اتفق ملاقاته لها ولا يستحيل أن يفرض ملاقاة سبب آخر فتقبل صورة أخرى فتفسد الأولى وتتكون الثانية ويلزم منه أن يتحرك الحركة المستقيمة إلى حيز الطبيعة الأخرى وهو محال والممكن لا يفضى إلى المحال فدل أنه لا يمكن أن تكون مادتها مشتركة ولا مماثلة لمادة العناصر هذا حكم بسائط السماوات* وأما العناصر فندعى فيها أنها لا بد وأن تنقسم إلى حار يابس كالنار وحار رطب كالهواء وبارد رطب كالماء وبارد يابس كالأرض ثم ندعى أن الحرارة والرطوبة واليبوسة والبرودة أعراض فيها لا صور ثم ندعى أنه يتصور أن تستحيل وتتغير فى تلك الأعراض كما يسخن الماء وأنه ينقلب بعض هذه العناصر إلى بعض وأنه يقبل كل واحد مقدارا أكبر وأصغر مما هو عليه وأنها تقبل الآثار من الأجسام السماوية وأنها لا بد وأن تكون فى وسط الأجسام السماوية فهذه سبع دعاوى.
(الأولى): أن هذه الأجسام القابلة للتغير والكون والفساد والتركيب لا تخلو عن الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة لأنها إما تكون سهلة القبول للشكل سهلة الترك له وهو المراد بالرطوبة وإما أن تكون عسرة القبول للشكل أو الاتصال حتى يجوز أن يتماس منه أجزاء وتبقى غير متصلة فان كانت سريعة الاتصال عبر عنه بالرطب مثل الماء والهواء وإن كانت لا تتصل عند التماس يسمى ذلك يابسا كالتراب والنار ثم أنها لا تخلو عن الحرارة والبرودة لأنها قابلة للمزاج كما سيأتى فلا بد أن تتفاعل وأن يؤثر بعضها فى بعض والا كان مجاورة ولم يكن مزاجا وفعلها إما أن يكون بالتفريق ويسمى حرارة ~~أو بالتعقيد ويسمى برودة ولذلك يلحقها الانكسار وذلك عند شدة امتزاج الرطوبة باليبوسة واللين إنما يكون من الرطوبة والصلابة من اليبوسة والملاسة الطبيعية من الرطوبة والخشونة الطبيعية من اليبوسة فاذن أصول هذه الطبايع هذه الأربعة وتلحقها البقية بعدها ولا تخلو هذه الأجسام عن هذه الأربعة أما الرائحة والطعم واللون فيجوز أن تخلو عنها فلا لون للهواء ولا طعم للمياه ولا للهواء ولا رائحة للهواء ولا أيضا فى الحجر فاذن الكيفيات الملموسة تكون فى الأجسام أولا وسابقة على المرئية والمشمومة والمذوقة والمسموعة فاذن يكون الاختلاط الأول لهذه الطبائع الأربعة وأما الخفة فانها مع الحرارة والثقل مع البرودة وكلما زادت اليبوسة مع واحدة من الحرارة والبرودة زادت الخفة والثقل فالحار اليابس أشد خفة والبارد اليابس أشد ثقلا وإذا لم يكن بد من اجتماع كيفيتين لكل جسم كان التركيب أربعة حار يابس ولا شىء أبلغ فيهما من النار وهو البسيط الحار اليابس وحار رطب وهو الهواء وبارد رطب وهو الماء وبارد يابس وهو الأرض فاذا المركبات بعدها دونها فى هذه المعاني ويقاربها من المركبات ما يغلب فيه هذه الطبايع ودليل أن الهواء حار بالطبع أنه يطلب جهة فوق إذا حبس فى الماء وإذا أوقد النار تحت الماء وحمى تبخر وصار هواء متصاعدا نعم الهواء الذى يجاور أبداننا يحس منه البرودة لأنه يمتزج بأبخرة اختلطت به من الماء المجاور له ولولا أن الأرض تحمى بالشمس ويحمى بسببها الهواء المجاور لها لكان الهواء أبرد من هذا ولكنه يحمى الهواء المجاور للأرض إلى حد ما فتقل البرودة ويكون ما فوقه أبرد إلى حد ما ثم يترقي إلى ما هو حار وإن لم يكن مثل النار فى الحرارة وأما الأرض فهو يابس بارد وبرودته من حيث أنه لو ترك بنفسه لكان باردا ولولا البرودة لما كان ثقيلا كثيفا طالبا جهة تناقض جهة النار فى البعد فاذن الأجسام البسيطة هذه الأربعة وهى أمهات الأجسام وسائر الأجسام يحصل من امتزاجها.
(الدعوة الثانية): أن هذه الصفات الأربع أعراض وليست بصور كما ظنه قوم لأن الصورة جوهر وهو لا يقبل الزيادة والنقصان والأشد والأضعف وهذه الأجسام تتفاوت فى الحرارة والبرودة فرب ماء أبرد من ماء ولأن صورة الماء لو كانت البرودة لكانت تبطل صورته بالحرارة وكان يجب أن يفارق مكانه إلى مكان الحار ولما كان تبقى حقيقة المائية بل كان يفسد بفساد البرودة ولو كانت صورة الهواء الخفة والحركة إلى فوق لكان إذا حبس فى وسط الماء فى زق لم يكن هواء لزوال صورته فهذه أعراض وإنما صورة العنصر طبيعة أخرى أعنى أنها حقيقة حالة فى الهيولى لا تدرك فى نفسها بالحواس وإنما المدرك بالحواس من اللون والبرودة والرطوبة أعراض تصدر من تلك الطبيعة وإنما عرفت بفعلها فانها تفعل فى جسمها السكون فى محله الطبيعى والرد اليه عند المفارقة ويوجب الميل الذى يعبر عنه بالخفة والثقل ويوجب فى كل جسم كيفية خاصة وكمية خاصة فطبيعة الماء تظهر فيه البرودة وإذا أزيلت البرودة عنه بالقسر ردتها اليه عند انقطاع القاسر كما أنه يوجب حركة إلى أسفل مهما رمى إلى فوق قهرا وذلك إذا زالت القوة القاهرة وكذلك ربما يتغير مقدار الماء بالقهر إلى أصغر وأكبر فان زال القهر عاد إلى مقداره الطبيعى فاذن لكل واحد من هذه الأربع صورة هى حقيقته ووجوده وهذه الكيفيات المحسوسة أعراض.
(الدعوى الثالثة): إن هذه العناصر تقبل الاستحالة والتغير فيجوز أن يصير الماء حارا أى تحدث صفة الحرارة فى نفس الماء وكذا سائر العناصر وتحدث الحرارة بثلاثة أسباب.
(أحدها): أن يجاوره جسم حار مثل النار فانها تسخن الماء.
(والثانى): الحركة كما أن اللبن يحمى فى الممخض بالحركة والماء الجارى أحر من الماء الراكد وإذا حك حجر بحجر حمى وظهر منه النار.
Page inconnue