(الدعوى الثامنة): كونه قادرا وبرهانه إن القادر عبارة عمن إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل وهو بهذه الصفة فانا قد بينا أن مشيئته علمه وإن ما علم أن الخير فيه فقد كان وما علم أن الأولى به أن لا يكون لم يكن* فان قيل كيف يصح هذا ولا يقدر على إفناء السموات والأرض عند هؤلاء فيقال لو أراد لأفناهما إلا أنه ليس يريد وقد سبقت مشيئته الأزلية بالوجود على الدوام ولأن الخير فى الوجود الدائم لا فى الفناء والهلاك والقادر قادر باعتبار أنه يفعل إن شاء لا باعتبار أنه لا بد وأن يشاء إذ يقال فلان قادر على أن يقتل نفسه وإن علم أنه لا يقتل وهو صادق والله تعالى قادر على إقامة القيامة الآن وإن كنا نعلم أنه ليس يفعله وعلى الجملة خلاف المعلوم مقدور فاذا هو قادر على كل ممكن بمعنى أنه لو أراد لفعل وقولنا لو أراد لفعل شرطى متصل وليس من شرط صدق الشرطى أن تصدق الجملتان من جزئيه بل يجوز أن يكونا كاذبين أو أحدهما ويكون هو صادقا فقول القائل الانسان لو طار لتحرك فى الهواء فهو صادق وكلا جزئيه كاذبان ولو قال لو طار الانسان لكان حيوانا فهوصادق ومقدمه كاذب وتاليه صادق* فان قيل قولكم لو أراد لفعل يشعر بأنه يتصور أن يستأنف إرادة شىء وهذا يدل على التغير قيل العبارة الصحيحة أن يقال هو قادر بمعنى أن كل ما هو مريد له فهو كائن وما ليس مريدا له فغير كائن والذى هو مريد له لو جاز أن لا يكون مريدا له لما كان والذى ليس هو مريدا له لو جاز أن يريده لكان فهذا معنى قدرته وإرادته وقد رجعا جميعا إلى علمه ورجع علمه إلى ذاته فلم يوجب شىء منه كثرة فيه.
(الدعوى التاسعة): إن الأول حكم لأن الحكمة تطلق على شيئين.
(أحدهما): العلم وهو تصور الأشياء بتحقق الماهية والحد والتصديق فيها باليقين المحض المحقق.
(والثانى): الفعل بأن يكون مرتبا محكا جامعا لكل ما يحتاج اليه من كمال وزينة والأول عالم بالأشياء على ما هى عليه علما هو أشرف أنواع العلوم فان علمنا ينقسم إلى ما لا يحصل به وجود المعلوم كعلمنا بصورة السماء والكواكب والحيوان والنبات وإلى ما يحصل به وجود المعلوم كعلم النقاش بصورة النقش الذى يخترعه من تلقاء نفسه من غير مثال سابق يحتذيه فيوجد النقش منه فيكون علمه سبب وجود المعلوم فاذا نظر اليه غيره وعرفه كان المعلوم فى حقه سبب وجود العلم والعلم الذى يفيد الوجود أشرف من العلم المستفاد من الوجود وعلم الأول بنظام الوجود هو مبدأ نظام الكل كما سبق فهو أشرف العلوم وأما نظام أفعاله ففى غاية الاحكام إذ أعطى كل شىء خلقه ثم هدى وأنعم عليه بما هو ضرورى له وبكل ما هو محتاج اليه وإن لم يكن فى غاية الضرورة وبكل ما هو زينة وتكملة وإن لم يكن فى محل الحاجة كتقويس الحاجبين وتقعير أخمص القدمين وإنبات اللحية الساترة لتشنج البشرة فى الكبر الى غير ذلك من لطائف تخرج عن الحصر فى الحيوان والنبات وجميع أجزاء العالم.
(الدعوة العاشرة): إنه جواد لأن إفادة الخير والانعام به منقسم إلى ما يكون لفائدة وغرض يرجع إلى المفيد وإلى ما ليس كذلك والفائدة تنقسم إلى ما هو مثل المبذول كمقابلة المال بالمال وإلى ما ليس مثلا كمن يبذل المال رجاء الثواب أو المحمدة أو اكتساب صفة الفضيلة وطلب الكمال به وهذه أيضا معاوضة ومعاملة وليس بجود كما أن الأول معاملة وإن كان العوام يسمون هذا جودا بل الجود هو إفادة ما ينبغى من غير عوض فان واهب السيف ممن لا يحتاج اليه ليس بمنعم والأول قد أفاض الوجود على الموجودات كلها كما ينبعى وعلى ما ينبغى من غير ادخار ممكن من ضرورة أو حاجة أو زينة وكل ذلك بلا عوض ولا فائدة بل ذاته ذات يفيض منه على الخلق كلهم كل ما هو لائق بهم وهو الجواد الحق واسم الجواد على غيره مجاز.
(الدعوى الحادية عشر): أن الأول مبتهج بذاته وإن عنده من المعنى الذى يعبر عن نظيره فى حقنا باللذة والطرب والفرح والسرور بجمال ذاته وكماله ما لا يدخل تحت وصف واصف وإن الملائكة المقربين الذين سيقام البرهان على وجودهم من الابتهاج واللذة بمطالعة جمال الحضرة الربوبية ما يزيد على ابتهاجهم بجمال أنفسهم ويعرف هذا بتقدمة أصول.
(الأصل الأول): أن نعرف معنى اللذة والألم فان كان يرجع إلى أمر زائد على إدراك مخصوص لم يتصور فى حقه وإن رجع إلى إدراك موصوف بصفة وثبت أن إدراكه على تلك الصفة تثبت الدعوى لا محالة واللذة والألم بالضرورة يرتبطان بالادراك فحيث لا إدراك فلا لذة ولا ألم والادراك فى حقنا نوعان حسى وهو الظاهر المتعلق بلذة الحواس الخس وباطنى وهو العقلى والوهمى وكل واحد من هذه الادراكات ينقسم باعتبار نسبة متعلقها إلى القوة المدركة بثلاثة أقسام.
(أحدها): إدراك ماهو ملائم للقوة المدركة وموافق لطبعها.
(والثانى): إدراك المنافى.
(والثالث): إدراك ما ليس بمناف ولا بملائم فاللذة عبارة عن إدراك الملائم فقط والألم عبارة عن إدراك المنافى* وأما إدراك ما ليس بملائم ولا بمناف فليس يسمى لا ألما ولا لذة ولا ينبغى أن تظن أن الألم عبارة عن صفة تتبع إدراك المنافى بل هو عينه فلا يتصور ملاقاة المنافى للقوة المدركة مع الادراك إلا ويصدق اسم الألم ويتحقق معناه وإن قدر عدم كل ما سواه وكذا اللذة فالادراك اسم عام وينقسم إلى لذة وإلى ألم وإلى ما ليس بألم ولا لذة فهما غير زائدين عليه.
Page inconnue