بسم الله الرحمن الرحيم
اللهُمّ إنّا نحْمَدُك على ما علّمْتَ من البَيانِ. وألْهَمْتَ من التِّبْيان. كما نحْمَدُك على ما أسْبغْتَ منَ العَطاء. وأسبَلْت من الغِطاء. ونَعوذُ بكَ منْ شِرّةِ اللّسَنِ. وفضولِ الهذَرِ. كما نَعوذُ بكَ منْ معرّةِ اللّكَنِ. وفُضوحِ الحصَرِ. ونَستَكْفي بكَ الافتِتانَ بإطْراء المادِحِ. وإغضاءِ المُسامِحِ. كما نَستَكْفي بكَ الانتِصابَ لإزْراء القادِحِ. وهتْكِ الفاضِحِ. ونسْتغْفِرُك منْ سَوْقِ الشَّهَواتِ. الى سوقِ الشُّبُهاتِ. كما نستغْفِرُكَ منْ نقْلِ الخطَواتِ.
1 / 10
الى خِطَطِ الخَطيئَاتِ. ونسْتَوْهِبُ منْكَ توفيقًا قائِدًا الى الرُشْدِ. وقَلْبًا متقلِّبًا معَ الحقّ. ولِسانًا متحلّيًا بالصّدْقِ. ونُطْقًا مؤيَّدًا بالحُجّةِ. وإصابةً ذائِدَةً عنِ الزَّيْغِ. وعَزيمةً قاهِرةً هَوى النّفْسِ. وبصيرةً نُدْرِكُ بها عِرْفانَ القَدْرِ. وأنْ تُسعِدَنا بالهِدايَةِ. الى الدِّرايةِ. وتَعْضُدَنا بالإعانَةِ. على الإبانَةِ. وتعْصِمَنا منَ الغَوايَةِ. في الرّوايَةِ. وتصرِفَنا عنِ السّفاهَةِ. في الفُكاهَةِ. حتى تأمَنَ حصائِدَ الألْسِنَةِ. ونُكْفَى غَوائِلَ الزّخْرفَةِ. فلا نَرِدَ موْرِدَ مأثَمةٍ. ولا نقِفَ موْقِفَ مَنْدمَةٍ. ولا نُرْهَقَ بتَبِعةٍ ولا مَعتَبَةٍ. ولا نُلْجَأَ الى معْذِرَةٍ عنْ بادِرَةٍ. اللهُمّ فحقِّقْ لَنا هذِهِ المُنْيَةَ. وأنِلْنا هذِه البُغْيَةَ. ولا تُضْحِنا عنْ ظِلّكَ السّابِغِ.
1 / 11
ولا تجْعَلْنا مُضغَةً للماضِغِ. فقدْ مدَدْنا إليْكَ يدَ المسْألَةِ. وبخَعْنا بالاسْتِكانَةِ لكَ والمَسْكَنةِ. واستَنْزَلْنا كرَمَك الجَمّ. وفضْلَكَ الذي عمّ. بضَراعَةِ الطّلَبِ. وبِضاعَةِ الأمَلِ. بالتّوسّلِ بمحَمّدٍ سيّدِ البشَرِ. والشّفيعِ المُشفَّعِ في المحْشَرِ. الذي ختَمْتَ بهِ النّبيّينَ. وأعليتَ درجتَهُ في عِلّيّينَ. ووَصَفْتَه في كِتابِك المُبينِ. فقُلتَ وأنتَ أصدَقُ القائلين: وما أرْسَلْناكَ إلاّ رحمةً للعالَمينَ. اللهُمّ فصَلِّ علَيه وعلى آلِه الهادينَ. وأصحابِه الذين شادوا الدّين. واجْعَلْنا لهَدْيِه وهَديهمْ متّبِعينَ. وانْفَعْنا بمحبّتِه ومحبّتِهِمْ أجْمَعينَ. إنّك على كُلّ شيء قديرٌ. وبالإجابةِ جَديرٌ. وبعْدُ فإنّهُ قدْ جرَى ببَعْضِ أنْديَةِ الأدَبِ الذي ركدَتْ في هذا العصْرِ ريحُهُ. وخبَتْ مصابيحُهُ. ذِكْرُ
1 / 12
المَقاماتِ التي ابْتَدعَها بَديعُ الزّمانِ. وعلاّمَةُ همَذانَ. رحِمَهُ اللهُ تعالى. وعَزا الى أبي الفتْحِ الإسكنْدَريّ نشْأتَها. والى عيسى بنِ هِشامٍ رِوايتَها. وكِلاهُما مجْهولٌ لا يُعرَفُ. ونَكِرةٌ لا تتَعرّفُ! فأشارَ مَنْ إشارتُه حُكْمٌ. وطاعَتُه غُنْمٌ. الى أنْ أُنْشئَ مَقاماتٍ أتْلو فيها تِلْوَ البَديعِ. وإنْ لمْ يُدْرِكِ الظّالِعُ شأوَ الضّليعِ. فذاكَرْتُهُ بما قيلَ فيمَنْ ألّفَ بينَ كَلِمتَينِ. ونظَم بيْتًا أو بيتَينِ. واسْتقَلْتُ منْ هذا المَقامِ الذي فيهِ يَحارُ الفَهْمُ. ويفرُطُ الوهْمُ. ويُسْبَرُ غوْرُ العقْلِ. وتتَبَيّنُ فيمَةُ المَرْء في الفضْلِ. ويُضْطَرّ صاحِبُه الى أن يكونَ كحَاطِبِ لَيْلٍ.
1 / 13
أو جالِبِ رَجْلٍ وخَيْلٍ. وقلّما سلِمَ مِكْثارٌ. أو أُقيلَ لهُ عِثارٌ. فلمّا لمْ يُسْعِفْ بالإقالَةِ. ولا أعْفَى منَ المَقالَةِ. لبّيْتُ دعْوَتَهُ تلبِيَةَ المُطيعِ. وبذَلْتُ في مُطاوَعَتِه جُهْدَ المُستَطيعِ. وأنْشأتُ على ما أُعانِيه منْ قَريحةٍ جامِدةٍ. وفِطْنَةٍ خامِدةٍ. ورَويّةٍ ناضِبَةٍ. وهُمومٍ ناصِبَةٍ. خمْسينَ مَقامةً تحْتَوي على جِدّ القَوْلِ وهزْلِه. ورَقيقِ اللّفْظِ وجزْلِه. وغُرَرِ البَينِ ودُرَرِه. ومُلَحِ الأدَبِ ونوادِرِه. الى ما وشّحْتُها بهِ من الآياتِ. ومَحاسِنِ الكِناياتِ. ورصّعْتُهُ فيها من الأمْثالِ العربيّةِ. واللّطائِفِ الأدبيّةِ. والأحاجيّ النّحْويّةِ. والفَتاوَى اللّغويّةِ. والرّسائِلِ المُبتَكَرةِ. والخُطَبِ المُحَبّرةِ. والمواعِظِ المُبْكِيةِ. والأضاحيكِ المُلْهِيَةِ. ممّا أمْلَيْتُ جميعَهُ على لِسانِ أبي زيْدٍ السَّرُوجيّ. وأسْنَدْتُ رِوايتَهُ الى
1 / 14
الحارِثِ بنِ هَمّامٍ البِصْرِيّ. وما قصَدْتُ بالإحْماضِ فيهِ. إلا تنْشيطَ قارِئِيهِ. وتكْثيرَ سَوادِ طالِبيهِ. ولمْ أُودِعْهُ منَ الأشْعارِ الأجْنبيّةِ إلا بيْتَينِ
فذّينِ أسّسْتُ علَيْهِما بُنْيَةَ المَقامَة الحُلْوانيّةِ. وآخَرَينِ توأمَينِ ضمّنْتُهُما خَواتِمَ المَقامَةِ الكرَجيّةِ. وما عدا ذلِك فخاطِري أبو عُذْرِهِ. ومُقْتَضِبُ حُلْوِهِ ومُرِّهِ. هذا معَ اعْتِرافيْ بأنّ البَديعَ ﵀ سَبّاقُ غاياتٍ. وصاحِبُ آياتٍ. وأنّ المتصَدّيَ بعدَهُ لإنْشاء مَقامةٍ. ولوْ أُوتيَ بَلاغَةَ قُدامَةَ. لا يغْترِفُ إلا من فُضالَتِه. ولا يسْري ذلِك المَسْرى إلا بدَلالَتِهِ. وللهِ دَرُّ القائِلِ: أسّسْتُ علَيْهِما بُنْيَةَ المَقامَة الحُلْوانيّةِ. وآخَرَينِ توأمَينِ ضمّنْتُهُما خَواتِمَ المَقامَةِ الكرَجيّةِ. وما عدا ذلِك فخاطِري أبو عُذْرِهِ. ومُقْتَضِبُ حُلْوِهِ ومُرِّهِ. هذا معَ اعْتِرافيْ بأنّ البَديعَ ﵀ سَبّاقُ غاياتٍ. وصاحِبُ آياتٍ. وأنّ المتصَدّيَ بعدَهُ لإنْشاء مَقامةٍ. ولوْ أُوتيَ بَلاغَةَ قُدامَةَ. لا يغْترِفُ إلا من فُضالَتِه. ولا يسْري ذلِك المَسْرى إلا بدَلالَتِهِ. وللهِ دَرُّ القائِلِ:
فلوْ قبْلَ مَبْكاها بكَيْتُ صَبابةً ... بسُعْدى شفَيتُ النفسَ قبل التّنَدُّمِ
1 / 15
ولكِنْ بكَتْ قبْلي فهيّجَ لي البُكا ... بُكاها فقُلتُ الفضْلُ للمتَقدِّمِ
وأرْجو أنْ لا أكونَ في هذا الهذَرِ الذي أوْرَدْتُهُ. والمَوْرِدِ الّذي تورّدْتُهُ. كالباحِثِ عنْ حتْفِهِ بظِلْفِه. والجادعِ مارِنَ أنْفِهِ بكفّهِ. فألحَقَ بالأخْسَرِينَ أعْمالًا الذينَ ضلّ سعْيُهُمْ في الحياةِ الدُنْيا. وهُمْ يحْسِبونَ أنّهُمْ يُحسِنونَ صُنْعًا. على أني وإنْ أغْمَضَ لي الفَطِنُ المُتغابي ونضَحَ عنّي المُحبُّ المُحابي. لا أكادُ أخْلُصُ منْ غُمْرٍ جاهِلٍ. أو ذي غِمْرٍ متَجاهِلٍ. يضَعُ مني لهَذا الوضْعِ. ويندّدُ بأنّهُ منْ مَناهي الشّرْعِ. ومَنْ نقَدَ الأشْياءَ بعَينِ المعْقولِ. وأنْعَمَ النّظَرَ في مَباني الأصولِ. نظَمَ هذِه المَقاماتِ. في سِلْكِ الإفاداتِ. وسلَكَها
1 / 16
مسْلَكَ الموْضوعاتِ. عنِ العَجْماواتِ والجَماداتِ. ولمْ يُسْمَعْ بمَنْ نَبا سمْعُهُ عنْ تِلكَ الحِكاياتِ. أو أثّمَ رُواتَها في وقْتٍ من الأوْقاتِ. ثمّ إذا كانَتِ الأعْمالُ بالنِّيّاتِ. وبها انْعِقادُ العُقودِ الدِّينِيّاتِ. فأيُّ حرَجٍ على مَنْ أنْشأ مُلَحًا للتّنْبيهِ. لا للتّمويهِ. ونَحا به منحَى التّهْذيبِ. لا الأكاذيبِ؟ وهلْ هُوَ في ذلِك إلا بمنزِلَةِ مَنِ انتَدَبَ لتعْليمٍ. أو هدَى الى صِراطٍ مُستَقيمٍ؟
على أنّني راضٍ بأنْ أحْمِلَ الهَوى ... وأخْلُصَ منْهُ لا عليّ ولا لِيا
وباللهِ أعْتَضِدُ. فيما أعْتَمِدُ. وأعْتَصِمُ. ممّا يصِمُ. وأسْتَرْشِدُ. الى ما يُرْشِدُ. فما المَفْزَعُ إلاّ إليْهِ. ولا الاستِعانةُ إلا بهِ. ولا التّوفيقُ إلا منْهُ. ولا الموْئِلُ إلا هُوَ. علَيْهِ توكّلتُ وإليْهِ أُنيبُ. وبهِ نسْتَعينُ. وهو نِعْمَ المُعينُ.
1 / 17
المقامة الصنعانية
حدّثَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: لمّا اقتَعدْتُ غارِبَ الاغتِرابِ. وأنْأتْني المَترَبَةُ عنِ الأتْرابِ. طوّحَتْ بي طَوائِحُ الزّمَنِ. الى صنْعاء اليَمَنِ. فدَخَلْتُها خاويَ الوِفاضِ. باديَ الإنْفاضِ. لا أمْلِكُ بُلْغَةً. ولا أجِدُ في جِرابي مُضْغَةً. فطَفِقْتُ أجوبُ طُرُقاتِها مِثلَ الهائِمِ. وأجولُ في حَوْماتِها جَوَلانَ الحائِمِ. وأرُودُ في مَسارحِ لمَحاتي. ومَسايِحِ غدَواتي ورَوْحاتي. كريمًا أُخْلِقُ لهُ ديباجَتي. وأبوحُ إلَيْهِ بحاجتي. أو أديبًا تُفَرّجُ رؤيَتُه غُمّتي. وتُرْوي رِوايتُه غُلّتي. حتى أدّتْني خاتِمَةُ المَطافِ. وهدَتْني فاتِحةُ الألْطافِ. الى نادٍ
1 / 18
رَحيبٍ. مُحتَوٍ على زِحامٍ ونَحيبٍ. فوَلَجْتُ غابةَ الجمْعِ. لأسْبُرَ مَجْلَبَةَ الدّمْعِ. فرأيتُ في بُهْرَةِ الحَلْقَةِ. شخْصًا شخْتَ الخِلْقَةِ. عليْهِ أُهْبَةُ السّياحَةِ. وله رنّةُ النِّياحَةِ. وهوَ يطْبَعُ الأسْجاعَ بجواهِرِ لفظِهِ. ويقْرَعُ الأسْماعَ بزَواجِرِ وعْظِهِ. وقدْ أحاطَتْ بهِ أخلاطُ الزُّمَرِ. إحاطَةَ الهالَةِ بالقَمَرِ. والأكْمامِ بالثّمرِ. فدَلَفْتُ إليهِ لأقْتَبِسَ من فوائِدِه. وألْتَقِطَ بعْضَ فرائِدِه. فسمِعْتُهُ يقولُ حينَ خبّ في مجالِه. وهَدَرَتْ شَقاشِقُ ارتِجالِه. أيّها السّادِرُ في غُلَوائِهِ. السّادِلُ ثوْبَ خُيَلائِهِ. الجامِحُ في جَهالاتِهِ. الجانِحُ الى
1 / 19
خُزَعْبِلاتِه. إلامَ تسْتَمرُّ على غَيّكَ. وتَستَمْرئُ مرْعَى بغْيِكَ؟ وحَتّامَ تتَناهَى في زهوِكَ. ولا تَنْتَهي عن لَهوِكَ؟ تُبارِزُ بمَعصِيَتِكَ. مالِكَ ناصِيَتِكَ! وتجْتَرِئُ بقُبْحِ سيرَتِك. على عالِمِ سَريرَتِكَ! وتَتَوارَى عَن قَريبِكَ. وأنتَ بمَرْأى رَقيبِكَ! وتَستَخْفي مِن ممْلوكِكَ وما تَخْفى خافِيَةٌ على مَليكِكَ! أتَظُنُّ أنْ ستَنْفَعُكَ حالُكَ. إذا آنَ ارتِحالُكَ؟ أو يُنْقِذُكَ مالُكَ. حينَ توبِقُكَ أعمالُكَ؟ أو يُغْني عنْكَ ندَمُكَ. إذا زلّتْ قدَمُكَ؟ أو يعْطِفُ عليْكَ معشَرُكَ. يومَ يضُمّكَ مَحْشَرُكَ؟ هلاّ انتَهَجْتَ مَحَجّةَ اهتِدائِكَ. وعجّلْتَ مُعالجَةَ دائِكَ. وفَلَلْتَ شَباةَ اعتِدائِكَ. وقدَعْتَ نفْسَكَ فهِيَ أكبرُ أعدائِكَ؟ أما الحِمام ميعادُكَ. فما إعدادُكَ؟ وبالمَشيبِ إنذارُكَ. فما أعذارُكَ؟ وفي اللّحْدِ مَقيلُكَ. فما قِيلُكَ؟ وإلى الله مَصيرُكَ. فمَن نصيرُكَ؟ طالما أيْقَظَكَ الدّهرُ فتَناعَسْتَ. وجذَبَكَ الوعْظُ فتَقاعَسْتَ!
1 / 20
وتجلّتْ لكَ العِبَرُ فتَعامَيْتَ. وحَصْحَصَ لكَ الحقُّ فتمارَيْتَ. وأذْكَرَكَ الموتُ فتَناسَيتَ. وأمكنَكَ أنْ تُؤاسِي فما آسيْتَ! تُؤثِرُ فِلسًا توعِيهِ. على ذِكْرٍ تَعيهِ. وتَختارُ قَصْرًا تُعْليهِ. على بِرٍ تُولِيهِ. وتَرْغَبُ عَنْ هادٍ تَسْتَهْدِيهِ. الى زادٍ تَستَهْديهِ. وتُغلِّبُ حُبّ ثوبٍ تشْتَهيهِ. على ثوابٍ تشْتَريهِ. يَواقيتُ الصِّلاتِ. أعْلَقُ بقَلبِكَ منْ مَواقيتِ الصّلاةِ. ومُغالاةُ الصَّدُقاتِ. آثَرُ عندَكَ من مُوالاةِ الصَّدَقاتِ. وصِحافُ الألْوانِ. أشْهى إلَيْكَ منْ صَحائِفِ الأدْيانِ. ودُعابَةُ الأقْرانِ. آنَسُ لكَ منْ تِلاوَةِ القُرْآنِ! تأمُرُ بالعُرْفِ وتَنتَهِكُ حِماهُ. وتَحْمي عنِ النُّكْرِ ولا تَتحاماهُ! وتُزحزِحُ عنِ
1 / 21
الظُلْمِ ثمْ تغْشاهُ. وتخْشَى الناسَ واللهُ أحقُّ أنْ تخْشاهُ! ثمّ أنْشَدَ:
تبًا لطالِبِ دُنْيا ... ثَنى إلَيها انصِبابَهْ
ما يسْتَفيقُ غَرامًا ... بها وفَرْطَ صَبابَهْ
ولوْ دَرى لَكفَاهُ ... مما يَرومُ صُبابَهْ
ثمّ إنّهُ لبّدَ عَجاجَتَهُ. وغيّضَ مُجاجتَهُ. واعْتَضَدَ شكْوَتَهُ. وتأبّطَ هِراوَتَهُ. فلمّا رنَتِ الجَماعَةُ الى تحفُّزِهِ. ورأتْ تأهُّبَهُ لمُزايَلَةِ مركَزِهِ. أدْخَلَ كلٌ منهُمْ يدَهُ في جيْبِهِ. فأفْعَمَ لهُ سَجْلًا منْ سَيْبِه. وقال: اصْرِفْ هَذا في نفقَتِكَ. أو فرّقْهُ على رُفْقَتِكَ. فقبِلَهُ منهُم مُغضِيًا. وانْثَنى عنْهُم مُثْنِيًا. وجعَلَ يودِّعُ مَنْ يُشيّعُهُ. ليَخْفَى علَيْهِ مَهْيَعُهُ. ويُسرّبُ منْ يتْبَعُهُ. لكَيْ يُجْهَلَ مرْبَعُهُ. قال
1 / 22
الحارِثُ بنُ هَمّامٍ: فاتّبعْتُهُ مُوارِيًا عنْهُ عِياني. وقَفوْتُ أثرَهُ منْ حيثُ لا يَراني. حتّى انْتَهى الى مَغارَةٍ. فانْسابَ فيها على غَرارَةٍ. فأمْهَلْتُه ريثَما خلَعَ نعْلَيْهِ. وغسَل رِجلَيْهِ. ثمّ هجَمْتُ علَيهِ. فوجدتُهُ مُشافِنًا لتِلْميذٍ. على خبْزِ سَميذٍ. وجَدْيٍ حَنيذٍ. وقُبالَتَهُما خابيةُ نبيذٍ. فقلتُ لهُ: يا هذا أيَكونُ ذاكَ خبرَكَ. وهذا مَخْبَرَكَ؟ فزَفَرَ زفْرَةَ القَيْظِ. وكادَ يتميّزُ منَ الغيْظِ. ولمْ يزَلْ يحَمْلِقُ إليّ. حتّى خِفْتُ أن يسطُوَ عليّ. فلمّا أن خبَتْ نارُهُ. وتَوارَى أُوارُهُ. أنْشَد:
لبِسْتُ الخَميصةَ أبغي الخَبيصَهْ ... وأنْشَبْتُ شِصّيَ في كل شِيصَه
1 / 23
وصيّرتُ وعْظيَ أُحبولَةً ... أُريغُ القَنيصَ بها والقَنيصَه
وألْجأني الدّهْرُ حتى ولَجْتُ ... بلُطْفِ احتِيالي على اللّيثِ عيصَه
على أنّني لم أهَبْ صرفَهُ ... ولا نبَضَتْ لي مِنْهُ فَريصَه
ولا شرَعت بي على مَورِدٍ ... يُدنّسُ عِرضيَ نفْسٌ حَريصَه
ولو أنْصَفَ الدّهرُ في حُكمِهِ ... لَما ملّكَ الحُكْمَ أهلَ النّقيصَه
ثمّ قال ليَ: ادْنُ فكُلْ. وإنْ شِئْتَ فقُم وقُلْ. فالتَفَتّ الى تِلميذِه وقُلتُ: عزَمْتُ عليْكَ بمَن تستَدفِعُ بهِ الأذى. لتُخْبرَنّي مَنْ ذا. فقال: هذا أبو زيْدٍ السَّروجيُّ سِراجُ الغُرَباء. وتاجُ الأدَباء. فانصرَفْتُ من حيثُ أتيتُ. وقضَيْتُ العجَبَ ممّا رأيْتُ.
المقامة الحُلوانيّة
حَكى الحارِثُ بنُ هَمّامٍ قال: كلِفْتُ مُذْ ميطَتْ عني التّمائِمُ. ونِيطَتْ بيَ العَمائِمُ. بأنْ أغْشى مَعانَ الأدَبِ. وأُنضيَ إليْهِ
1 / 24
تتجاذب أطراف الأناشيد. ونتوارد طرف الأسانيد. إذ وقف بنا شخص عليه سمل. وفي مشيته قزل. فقال يا أخاير الذخائر. وبشائر العشائر. عموا صباحًا. وأنعموا اصطباحًا. وانظروا إلى من كان ذا نديٍّ وندىً. وجدة وجدًا. وعقار وقرى. ومقار وقرا. فما زال به قطوب الخطوب. وحروب الكروب. وشرر شر الحسود. وانتياب النوب السود. وأقوى المجمع. وأفض المضجع. واستحالت الحال. وأعول العيال. وخلت
1 / 25
المرابط. ورحم الغابط. وأودى الناطق والصامت. وركى لنا الحاسد والشامت. وآل بنا الدهر الموقع. والفقر المدقع. إلى أن احتذينا الوجى. واغتذبنا الشجا. واستنبطنا الجوى. وطوينا الأحشاة على الطوى. واكتحلنا السهاد. واستوطنا الوهاد. واستوطأنا القتاد. وتناسينا الأقتاد. واستنبطنا الحين المجتاح. واستنبطنا اليوم المتاح. فهل من حر آس. أو سح مؤاس. فوالذي استخرجني من قيلة. لقد أمسيت أخا عيلة. لا أملك بيت ل يلة. قال الحارث بن همام فأويت لمفاقره. ولويت إلى استنباط فقره. فأبرزت دينارًا. وقلت له اختبارًا. إن مدحته
1 / 26
رِكابَ الطّلَبِ. لأعْلَقَ منْهُ بِما يكونُ لي زينَةً بينَ الأنامِ. ومُزنَةً عندَ الأُوامِ. وكُنْتُ لفَرْطِ اللهَجِ باقْتِباسِه. والطّمَعِ في تقمّصِ لِباسِهِ. أُباحِثُ كلّ مَنْ جَلّ وقَلّ. وأسْتَسْقي الوَبْلَ والطّلّ. وأتعلّلُ بعَسى ولَعلّ. فلمّا حلَلْتُ حُلْوانَ. وقدْ بلَوْتُ الإخْوانَ. وسَبَرْتُ الأوْزانَ. وخبَرْتُ ما شانَ وَزانَ. ألفَيْتُ بها أبا زيْدٍ السَّروجيَّ يتقلّبُ في قوالبِ الانتِسابِ. ويخْبِطُ في أساليبِ الاكتِسابِ. فيدّعي تارَةً أنّهُ من آلِ ساسانَ. ويعْتَزي مرّةً الى أقْيالِ غسّانَ. ويبْرُزُ طَورًا في شِعارِ الشّعَراء. ويَلبَسُ حينًا كِبَرَ الكُبَراءِ. بيْدَ أنّهُ معَ تلوّنِ حالِهِ. وتبَيّنِ مُحالِهِ. يتحلّى برُواءٍ ورِوايَةٍ. ومُدراةٍ ودِرايَةٍ.
1 / 27
وبَلاغَةٍ رائِعَةٍ. وبَديهةٍ مُطاوعةٍ. وآدابٍ بارِعةٍ. وقدَمٍ لأعْلامِ العُلومِ فارِعةٍ. فكانَ لمحاسِنِ آلاتِهِ. يُلْبَسُ على عِلاّتِه. ولِسَعَةِ رِوايَتِه. يُصْبى الى رؤيَتِهِ. ولخلابَةِ عارِضَتِهِ. يُرْغَبُ عنْ مُعارضَتِهِ. ولعُذوبَةِ إيرادِهِ. يُسْعَفُ بمُرادِهِ. فتعَلّقتُ بأهْدابِهِ. لخَصائِصِ آدابِهِ. ونافَسْتُ في مُصافاتِهِ. لنَفائِسِ صِفاتِه.
فكُنتُ بهِ أجْلو هُمومي وأجْتَلي ... زمانيَ طلقَ الوجْهِ مُلتَمِعَ الضّيا
أرَى قُرْبَهُ قُرْبى ومَغْناهُ غُنْيَةً ... ورؤيَتَهُ رِيًّا ومَحْياهُ لي حَيا
ولَبِثْنا على ذلِكَ بُرْهَةً. يُنْشئ لي كلَّ يومٍ نُزهَةً. ويدْرَأُ عن قلبي شُبهَةً. الى أنْ جدَحَتْ لهُ يَدُ الإمْلاقِ. كأس الفِراقِ. وأغْراهُ
1 / 28
عدَمُ العُراقِ. بتَطْليقِ العِراقِ. ولفَظَتْهُ مَعاوِزُ الإرْفاقِ. الى مَفاوِزِ الآفاقِ. ونظَمَهُ في سِلْكِ الرّفاقِ. خُفوقُ رايةِ الإخْفاقِ. فشحَذَ للرّحْلَةِ غِرارَ عزْمَتِهِ. وظَعَنَ يقْتادُ القلْبَ بأزِمّتِهِ.
فما راقَني مَنْ لاقَني بعْدَ بُعْدِهِ ... ولا شاقَني مَنْ ساقني لوِصالِهِ
ولا لاحَ لي مُذْ ندّ نِدٌ لفَضْلِهِ ... ولا ذو خِلالٍ حازَ مثلَ خِلالِهِ
واسْتَسَرّ عني حينًا. لا أعرِفُ لهُ عَرينًا. ولا أجِدُ عنْهُ مُبينًا. فلمّا أُبْتُ منْ غُربَتي. الى منْبِتِ شُعْبَتي. حضَرْتُ دارَ كُتُبِها التي هيَ مُنتَدى المتأدّبينَ. ومُلتَقَى القاطِنينَ منهُمْ والمُتغرّبينَ. فدخَلَ ذو لِحْيَةٍ كثّةٍ. وهيئَةٍ رثّةٍ. فسلّمَ على الجُلاّسِ. وجلَسَ في
1 / 29