وبكلمة موجزة: قيمة الكاتب ومهمته أن يزيل عن القارئ هذا الذهول الذي كثيرا ما يقع فيه فينساق في عادات فكرية وعقائدية تاريخية حتى يتحجر، والكاتب العظيم هو ذلك الذي يصدم قارئه فيوقظه، ويرد إليه وجدانه، ثم يزيد هذا الوجدان سعة وعمقا.
الشيزوفريني هو رجل مريض، ومرضه هو الذهول، فالحوادث التي تجري حوله، خطيرة أو حقيرة، لا تلفته، ولكننا نعيد إليه وجدانه وتعقله بصدمة كهربائية عنيفة.
والكاتب العظيم هو هذه الصدمة الكهربائية لقرائه الشيزوفرنيين الذاهلين، وكلنا إلى حد ما في شيزوفرينا طفيفة، ولذلك كثيرا ما نعيش في ذهول. •••
وأعظم ما يتهيأ به الكاتب كي يحسن حرفته، ولا نقول كي يكون عظيما، هو أن يزيد وجدانه ، ولذلك يحتاج إلى أن يدرس المعارف والأفكار والعلوم والآداب، وجميع هذه الأشياء تزيد الوجدان، أي: إنه سيجد نفسه في ميدان من الوجود أكبر وأرحب مما كان قبل أن يدرس هذه المعارف، وهو لذلك يكون أقدر على التعقل؛ إذ هو يرى ويحس أكثر، وهو لذلك أيضا يكتسب الحكمة والبصيرة معا، فإذا كتب كان ما يكتبه ثمرة لهذه الحكمة وهذه البصيرة.
ولكن هذه المعارف والأفكار والعلوم والآداب لا تشتمل على جميع الاختبارات التي يحتاج إليها الكاتب؛ ذلك لأن الكاتب يشتغل بشئون الناس، فيجب أن يعمل أعمال الناس، ولو كان العمر يمتد حتى يتسع للكاتب، بحيث تمر به اختبارات مهنية وأخلاقية وروحية، بحيث يكون ملاحا في السفينة، وضابطا في الجيش، ومعلما في المدرسة، وطبيبا في المدينة أو الريف، وسياسيا وصحفيا، وبحيث تمر به بعض الكوارث كموت الصديق، أو الحبس والحرمان، أو الفقر والمرض، وبحيث تنتابه تلك التطوارت الروحية التي تغير عقيدته أو تقويها، وتحرفه عن وجهته أو تثبته، لو كان العمر يمتد لكل ذلك لكان في هذه الاختبارات ما يهيئ الأديب أعظم التهيؤ لأن يكون عظيما؛ لأن هذه الاختبارات تربطه بالمجتمع، وتغمسه في الطبيعة، وتزيد وجدانه، وتبعده عن الذهول الحيواني.
ولكن بالطبع هذه الحال محال، ولذلك يضطر الأديب إلى أن يستبدل باختبارات الحياة دراسة أحوال البشر والمجتمعات من الكتب والصحف ومن الناس، يسألهم ويتعلم من إجاباتهم واختباراتهم. •••
بعض الأزمنة يحفل بالكوارث، فيزداد الوجدان عند الناس عامة، وعند الأديب خاصة.
كان جيته الأديب الألماني يشكر الأقدار على أنه رأى في حياته حرب السنين السبع، والثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، وحروب نابليون، وكان يقول: إن هذه الكوارث قد زادته حكمة وبصيرة؛ لأنها زادته وجدانا؛ إذ هي أبعاده التاريخية والجغرافية والروحية.
وزماننا هذا يحفل أيضا بالكوارث والحروب، وقد نبه لذلك كثيرا من الذاهلين، إلا أولئك الذين يعيشون في نعاس الموت أو يفصلون بينهم وبين اختبارات الدنيا بفواصل من التقاليد والعادات المتحجرة.
وهذه هي الكوارث والاختبارات العامة، ولكن الأقدار تحابي أحيانا بعض الأدباء بكوارث خاصة، فيتنبهون، ويحسنون بذلك تأدية رسالتهم.
Page inconnue