وإني لأبوح هنا بسر قد يشمئز منه القارئ حين يعرف السبب، وهو أنه قد مضى علي نحو أربعين سنة لم أذق فيها الفسيخ، ومرجع هذا أني كنت أشيع قريبا لي إلى قبره، وكان بالقبر ميت لما يمض على دفنه عشرون يوما، فما هو أن فتح القبر حتى خرجت منه رائحة الفسيخ، وسمعت من أحد اللحادين أن الميت السابق لم ينضج، وغمرتنا الرائحة كأنها نفذت إلى مسام أجسامنا، وبقيت ملوثا بها شهورا.
ومنذ هذه اللحظة إلى الآن لا أطيق هذه الرائحة، بل لا أستطيع أن أذكر كلمة «الفسيخ» إلا مع الاشمئزاز والقشعريرة، وهذه الحال البشعة هي مصيرنا جميعا في الدفن.
وقد يقال: إننا في الجبانات من الموتى، عظة وعبرة بالتجوال بين القبور، ولست أنكر أني أجد ذلك حين أجول بين القبور، ولكن هذه العظة وهذه العبرة يمكن أن نجدهما أيضا في المرمدة، بل إن الفناء السريع يحملنا على أن نحس أن الحياة لا تزيد على أن تكون هباء وهواء، وحفنة من الرماد، وفي هذا عبرة أية عبرة.
وهناك من يحتفظ بالرماد بعد الإحراق في علبة تصونها الأسرة كأنها كنز، وعندي أن هذا خطأ؛ إذ يجب أن نذرو الرماد في الريح كي نؤكد فكرة الفناء.
هذا هو ما فعله لندبرج الطيار الأمريكي، فإنه عقب وفاة أبيه حمل جثمانه إلى المرمدة، ثم أخذ الرماد المتخلف وامتطى طائرته فوق العزبة التي قضى أبوه حياته فيها، ثم أذرى الرماد فوق الحقول، من التراب وإلى التراب.
أجل إنى أوثر المرمدة على الجبانة؛ لأن الفناء بالنار أجمل من الفناء بالتعفن.
المستبد الفاسد
يقول أحد الكتاب الفرنسيين: «إن كل سلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد إفسادا مطلقا».
والسلطة المطلقة هي الاستبداد، وقد يكون الاستبداد سياسيا أو دينيا أو ثقافيا.
فالمستبد السياسي:
Page inconnue