وذكر الله الاستطاعة وتكليف ما لا يطاق وما خلقه من ذلك، فقال سبحانه: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ماكسبت } [البقرة: 286]، وقال: { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا } [الطلاق: 7]، وقال: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } [آل عمران: 97]، فأوجب الحج على من استطاعه، ووضعه عمن لا يستطيعه. وقال: { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون } [التوبة: 42]، فأخبر أنهم يستطيعون الخروج ولكن لا يفعلون. وقال: { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } [المجادلة: 3]، الآية ثم أخبر أن من لم يستطع الصيام فلا صيام عليه. وقال: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } [البقرة: 283 - 284]، وإنما المعنى: (لا يطيقونه)، فأخبر أنه قد وضع عنهم الصيام، وجعل عليهم الفدية بدلا من الصيام؛ لأن الصيام يجهدهم. وقال: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } [النور: 61]، فوضع التكليف عمن لا يستطيع. وقال: { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [الحج: 78]، وقال: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185]، فأخبر أنه لا عسر في دينه ولا ضيق، فلو كلف عبيده ما لا يطيقون ثم عذبهم لكان أضيق الضيق، وأعسر العسر.
وقال: { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } [مريم: 12]، ولو لم يكن أعطاه القوة لم يأمره أن يأخذ بقوة. وقال: { نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد } [النمل: 33] فلم يكذبهم، ولم يرد عليهم مقالتهم كما أكذب المنافقين حين زعموا أنهم لا يستطيعون الخروج، وأنهم لو استطاعوا لخرجوا، فقال عز وجل: { يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون } [التوبة: 42].
وكذلك العفريت حين قال لسليمان: { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين } [النمل: 39]، فلم يكذبه الله، ولم يرد عليه، ولا أكذبه سليمان صلى الله عليه. وقال: { فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } [الأعراف: 145]، فلولا أنه أعطاهم القوة على الأخذ لم يأمرهم بذلك. ومثله: { قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } [القصص: 26]، فأثبتت له القوة فلم ينكر عليها أبوها، ولم يكذبها ربها. فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن الله لا يكلف أحدا من خلقه ما لا يطيق، وأنه قد قوى عباده على ما أمرهم به من طاعته، وبتلك القوة التي جعلها فيهم لطاعته يصير من صار منهم إلى معصيته، وبذلك علمنا أن الاستطاعة قبل الفعل.
Page 225