La vue depuis le rocher du château
المنظر من صخرة القلعة
Genres
حتى ذلك الوقت كان كل شيء تحت سيطرة أبي، إلا في حالة ظهور مرض ما، أو المخاطرة باستيلاد سلالة معينة. كان كل شيء من صنع يده؛ الحظائر، المأوى، حيث كانت الثعالب تستطيع الاختباء وولادة صغارها، وأطباق الماء - المصنوعة من الصفيح - التي كان تمال من الخارج وتملأ مرتين يوميا بالماء النظيف، والخزان الذي كان ينقل عبر الشوارع، حاملا الماء من المضخة، وحوض الطعام في الإسطبل، حيث يمزج الماء والطحين ولحم الخيول المفروم، وصندوق القتل، حيث ترش، يرش على رأس الحيوان كمية كبيرة من الكلوروفورم لقتله. بعد ذلك، وما إن يجفف الفراء ويتم تنظيفه ويقشر من على ألواح الشد، حتى لا يصبح أي شيء داخل نطاق سيطرته. كان الفراء يرص على نحو مستو في صناديق الشحن ويرسل إلى مونتريال، ولا يصبح بوسعه عمل شيء سوى الانتظار ومعرفة كيف سيقيم وبكم سيباع في مزادات الفراء. وكان المال المتحصل من هذا هو المصدر الأساسي للدخل، الذي يقتطع منه المال الذي يجب دفعه لسداد فواتير العلف، والمال الذي يجب دفعه للبنك، والمال الذي عليه دفعه من القرض الذي حصل عليه من والدته بعد ترملها. في بعض السنوات كان ثمن الفراء جيدا إلى حد ما، وفي بعض السنوات لا بأس به ، وفي سنوات أخرى كان مترديا للغاية. وعلى الرغم من أن أحدا لم يتمكن من رؤية ذلك في حينها، فقد كانت الحقيقة هي أنه قد دخل هذا المجال متأخرا قليلا، ودون رأس مال كاف للبدء على نطاق واسع خلال السنوات الأولى حين كانت الأرباح عالية. فقبل أن يبدأ مشروعه بفترة قليلة، جاءت فترة الكساد العظيم. وكان تأثير هذا على مشروعه متقلبا، ولم يكن سيئا على الدوام، كما قد تعتقد. ففي بعض السنوات كانت أحواله ميسورة أكثر قليلا مما كان في المزرعة، ولكن سنوات الفقر كانت تفوق سنوات الرخاء. ولم تتحسن الأمور كثيرا مع بداية الحرب؛ في الواقع كانت الأسعار في عام 1940 تصنف ضمن أسوأ الأسعار على الإطلاق. لم تكن الأسعار السيئة خلال فترة الكساد صعبة التقبل - فقد كان بإمكانه أن ينظر حوله ويرى أن الجميع تقريبا كانوا على نفس الحال - ولكن الآن، مع ظهور وظائف الحرب وعودة الرخاء إلى القرية مرة أخرى، كان من الصعب جدا أن تعمل مثلما كان يعمل دون أن تجني أي شيء.
قال لأمي إنه يفكر في الالتحاق بالجيش. كان يفكر في دبغ كل مخزونه من جلود الثعالب وبيعه، والالتحاق بالجيش كتاجر. لم يكن كبيرا جدا على ذلك، وكان لديه من المهارات ما يجعله نافعا في هذا الشأن؛ فكان بإمكانه أن يكون نجارا، بالنظر إلى جميع أعمال البناء الي قام بها في مزرعته. أو كان بإمكانه أن يكون جزارا، بالنظر إلى كل الخيول العجوزة التي ذبحها وقطعها للثعالب.
واتت أمي فكرة أخرى، اقترحت عليه الاحتفاظ بأفضل الجلود وعدم إرسالها إلى المزادات بل دبغها وحياكتها - أي تحويلها إلى أوشحة وقبعات مزودة بالعيون والمخالب - ثم أخذها وبيعها. وكان الناس حينذاك يملكون بعض المال. وكانت هناك نساء يملكن المال والنزعة التواقة إلى التأنق، وكان هناك سائحون. كنا نعيش بعيدا عن المناطق التي توجد بها الطرق والبلدات الرئيسية، ولكنها سمعت عن السائحين، وكيف أن المنتجعات الفندقية بماسكوكا كانت تكتظ بهم. كانوا يأتون من ديترويت وشيكاجو وبحوزتهم المال لشراء الخزف العظمي القادم من إنجلترا، وكنزات شيتلاند، وبطاطين خليج هدسون. فلم لا ينفقونه في شراء فراء الثعالب الفضية؟
حين يتعلق الأمر بالتغييرات والاجتياحات والاضطرابات، فإنك تجد نوعين من الناس؛ إذا بني طريق سريع عبر الفناء الأمامي لبعض الناس، فستجد أن بعضهم يشعرون بالإهانة والإساءة، وينعون خسارة خصوصيتهم، وجنبات الفاوانيا والليلك، وبعدا من أبعاد شخصيتهم. أما البعض الآخر، فيرى في ذلك فرصة؛ إذ سوف يقيمون منفذا لبيع الهوت دوج، أو يحصلون على امتياز لإقامة مطعم للوجبات السريعة، أو يفتتحون نزلا. وكانت أمي من الصنف الثاني من أولئك الأشخاص؛ فقد ملأتها فكرة توافد السائحين بأموالهم الأمريكية إلى الغابات الشمالية بالحيوية.
في الصيف، وكان آنذاك صيف عام 1941، انطلقت إلى ماسكوكا بحمولة الفراء التي ملأت بها حقيبة السيارة. ووصلت والدة أبي لتتولى شئون منزلنا. كانت لا تزال ممشوقة القوام ووسيمة، ودخلت عرين أمي وهي تحمل نذير سوء؛ فقد كانت تكره ما كانت تفعله أمي بشأن البيع المتجول. كانت تقول إنها عندما كانت تفكر في السائحين الأمريكيين، كان كل ما تتمناه ألا يقترب منها أحد منهم. وعلى مدار يوم مكثت هي وأمي في المنزل معا، وخلال تلك الفترة تقمصت جدتي نسخة قاسية وكتومة من شخصيتها، لكن أمي كانت في حالة من الاضطراب جعلتها لا تلقي بالا لذلك. ولكن بعد أن تحملت جدتي المسئولية وحدها، لان جانبها وتخلت عن صرامتها، وقررت أن تغفر لأبي زواجه، مؤقتا، وكذلك مشروعه الغريب وفشله. وقرر أبي أن يغفر لها الحقيقة المذلة؛ وهي كونه مدينا لها ببعض المال. كانت تصنع الخبز والفطائر، وتستفيد على نحو جيد من خضراوات الحديقة، والبيض الجديد الذي يضعه الدجاج، والحليب والقشدة الدسمين من البقرة الجيرزي (فعلى الرغم من عدم امتلاكنا للمال، لم نكن نعاني مشكلة قط في الطعام). كانت تلمع الخزانات من الداخل وتزيل السواد من قعر القدور، وكنا نظن أنه لن يزول أبدا. وكانت تحدد العديد من الأشياء التي تحتاج إلى إصلاح، وفي المساء كانت تحمل دلاء الماء إلى أحواض الزهور والمكان المزروعة به الطماطم. بعدها كان أبي ينتهي من عمله في الإسطبل وحظائر الثعالب ونجلس جميعا على مقاعد الفناء أسفل الأشجار الكثيفة.
كانت مزرعتنا الممتدة على مساحة تسعة أفدنة - لم تكن مزرعة على الإطلاق من منظور جدتي - تتمتع بموقع رائع؛ فكانت البلدة تحدها من الشرق، وكانت أبراج الكنيسة وبرج مبنى مجلس البلدة يظهران للعيان حين كانت أوراق الأشجار تتساقط، وعلى بعد ميل أو نحو ذلك من الطريق الواقع بيننا وبين الشارع الرئيسي كانت هناك زيادة تدريجية في عدد المنازل، وتحول للممرات الترابية إلى أرصفة، وظهور لمصابيح الشوارع المنفردة، بحيث قد تقول إننا نقطن في أقصى أطراف البلدة، وإن كان وراء حدودها البلدية الرسمية. ولكن إلى الغرب لم تكن ترى سوى منزل ريفي واحد، وكان هذا المنزل نائيا، عند قمة تل يقع تقريبا في المنتصف في الأفق الغربي. كنا دائما ما نشير إلى هذا المنزل بمنزل رولي جرين، ولكن الشيء الذي لم أتساءل عنه أو أتخيله قط هو من قد يكون رولي جرين، أو الطريق الذي يؤدي إلى هذا المنزل. لقد كان بعيدا جدا، عبر حقل فسيح مزروع بالذرة أو الشوفان أولا، ثم الغابات والسهول الرسوبية النهرية المنحدرة نحو المنحنى الكبير الخفي للنهر، ونمط التلال الجرداء أو الدغلية المتداخلة وراءها. كان من النادر جدا أن تتمكن من رؤية قطعة من الريف بهذه الدرجة من الخواء، وبهذه الدرجة من إثارة الخيال، في منطقتنا الزراعية الكثيفة السكان.
حين كنا نجلس للتطلع إلى هذا المشهد، كان أبي يلف سيجارة ويدخنها، ويتحدث هو وجدتي عن الأيام الخوالي في المزرعة، وعن جيرانهم القدامى، والأشياء الطريفة - أي الأشياء الغريبة والكوميدية على حد سواء - التي حدثت. كان غياب أمي قد جلب نوعا من السلام؛ ليس فقط بينهما، بل لنا جميعا، وكأن لمحة ما من التيقظ والكفاح قد زالت؛ وكأن سمة من الطموح وتقدير الذات وربما السخط والتذمر، قد غابت. لم أعرف حينها تحديدا ما هو هذا الشيء المفقود، ولم أعرف أي حرمان، ولا ارتياح، هذا الذي سأعانيه إذا ذهب هذا الشيء للأبد.
كان أخي وأختي الصغيران يضايقان جدتي كي تسمح لهما بالنظر عبر نافذتها. كان لعيني جدتي لون بندقي، ولكن كانت في إحداهما بقعة كبيرة تشغل ما لا يقل عن ثلث القزحية، وكان لون هذه البقعة أزرق. لذا كان الناس يقولون إن عينيها لهما لونان مختلفان، على الرغم من أن تلك لم تكن الحقيقة مطلقا. كنا نطلق على البقعة الزرقاء نافذتها. كانت تتظاهر بالغضب حين يطلب منها إظهارها، فكانت تطأطئ رأسها وتعنف من يحاول النظر فيها، أو كانت تغلق عينيها بإحكام، فاتحة عينها ذات اللون البندقي الخالص فتحة صغيرة لترى إن كانت لا تزال محل مراقبة. وكانت دائما ما تضبط في النهاية وتستسلم للجلوس بلا حراك وعيناها مفتوحتان لينظر بداخلهما. كان اللون الأزرق صافيا لا يعكره شذرة من أي لون آخر بداخله، كان لونا أزرق يزداد لمعانا بفعل اللون الأصفر المائل إلى البني في أطرافه، مثلما تتألق سماء الصيف بنفحات السحب. •••
كنا في المساء حين انعطف أبي إلى الطريق الخاص بالفندق، سرنا بين القوائم الحجرية للبوابة، وكان الفندق أمامنا؛ كان عبارة عن مبنى حجري طويل ذي جملونات وشرفة بيضاء، وله أصص متدلية مليئة بالأزهار. تجاوزنا المنعطف المؤدي إلى ساحة انتظار السيارات، واتبعنا الممر شبه الدائري الذي أدى بنا إلى أمام الشرفة، مارين من أمام الناس الذين كانوا يجلسون هناك على الأراجيح والكراسي الهزازة ولم يفعلوا شيئا سوى النظر إلينا، على حسب قول أبي. «لا يفعلون شيئا سوى التحديق ببلاهة.»
لمحنا اللافتة غير الظاهرة ووجدنا طريقنا نحو ساحة انتظار من الحصى بجوار ملعب التنس، وترجلنا من السيارة. كانت السيارة مغطاة بالتراب، وتبدو أشبه بمتطفل خليع بين السيارات الأخرى المتوقفة هناك.
Page inconnue