وضع التنافس على الملكية والخلافة بين أسرتي يورك ولانكستر إنجلترا وسط مشهد دموي سنوات عديدة؛ إذ خاض هنري وإدوارد اثنتي عشرة معركة ضارية، علاوة على الكثير من المناوشات والحصارات. وقع هنري أسيرا لإدوارد مرتين، ووقع إدوارد بدوره في أسر هنري. وكم يكون مصير الحرب ومزاج الأمة غامضين عندما لا يكون الصراع قائما إلا على أساس أمور شخصية، فحمل هنري في موكب المنتصر من السجن إلى القصر، واضطر إدوارد للفرار من القصر إلى أرض أجنبية؛ لكن لأن تحولات المزاج المفاجئة نادرا ما تكون دائمة فقد أزيح هنري بدوره عن العرش مرة أخرى وأعيد إدوارد لخلافته. ودائما ما كان البرلمان تابعا للجانب الأقوى.
بدأ هذا التنافس في عهد هنري السادس - ولم يهدأ تماما حتى مجيء هنري السابع، الذي توحدت فيه الأسرتان - واستمر مدة 67 عاما؛ من عام 1422 حتى عام 1489.
وباختصار فإن الملكية والخلافة قادتا العالم كله (وليس فقط مملكة أو أخرى) إلى الدم والخراب. إن الملكية شكل من أشكال الحكم تدينه تعاليم الله، ويلازمه الدم.
ولو أننا دققنا النظر في مهمة الملك لوجدنا أن الملوك في بعض البلدان لا عمل لهم؛ وبعد تضييع حياتهم دون تحقيق سعادة لأنفسهم أو ميزة للأمة، ينسحبون من الساحة ويتركون ذريتهم للسير على نفس الدرب البائس. في الأنظمة الملكية المطلقة يقع عبء العمل كله - المدني والعسكري - على كاهل الملك؛ وقد جادل بنو إسرائيل في طلبهم لتنصيب ملك عليهم بهذه الحجة: «يقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا.» ولكن في البلدان التي لا يكون الملك فيها قاضيا ولا قائدا عسكريا - كما هي الحال في إنجلترا - يتحير المرء في محاولة معرفة ما هو عمله.
كلما اقترب شكل الحكومة أكثر من الشكل الجمهوري قل العمل الذي يمكن أن يقوم به الملك. ومن الصعب إلى حد ما إيجاد اسم مناسب لحكومة إنجلترا. السير ويليام ميرديث يدعوها جمهورية، لكنها في وضعها الحالي لا تستحق هذا الاسم لأن التأثير الفاسد للتاج، عن طريق جعل كل الطبقات رهن تصرفه، ابتلع السلطة تماما، وقضى على قوة ونزاهة مجلس العموم (وهو الجزء الجمهوري من الدستور) إلى حد جعل حكومة إنجلترا ملكية بقدر ملكية حكومة فرنسا أو إسبانيا. إن الناس يتصارعون مع الأسماء دون فهم معانيها؛ لأن الجزء الجمهوري وليس الجزء الملكي من دستور إنجلترا هو الذي يفخر به الإنجليز؛ أي حرية اختيار أعضاء مجلس العموم من بين أفراد الشعب الإنجليزي؛ ومن السهل أن نرى أنه عندما تخفق الفضيلة الجمهورية تنشأ العبودية. ما سر سقم دستور إنجلترا إذن إن لم يكن السبب هو أن الملكية سممت الجمهورية، وأن التاج سيطر على مجلس العموم؟
في إنجلترا ليس لدى الملك ما يفعله سوى إشعال الحروب ومنح الهبات؛ وهو ما يعني صراحة إفقار الأمة وتأليب أهلها بعضهم على بعض. إنه عمل جميل حقا للمرء أن يحصل على ثمانمائة ألف جنيه استرليني سنويا، ويحظى في مقابل ذلك بكل التبجيل والتوقير! إن رجلا واحدا مخلصا نحو مجتمعه صادقا عند ربه أكثر قيمة وجدارة من كل البرابرة المتوجين ملوكا في كل العصور.
الفصل الثالث
أفكار حول الحالة الأمريكية الراهنة
في الصفحات التالية لن أعرض إلا لحقائق بسيطة، وحجج واضحة، ومنطق سليم؛ وليس لدي أي مطالب تمهيدية من القارئ سوى أن يجرد نفسه من الهوى والتحيز، ويسمح لعقله ومشاعره باتخاذ القرار؛ لا أطلب منه سوى أن «يلزم» الطبيعة الحقيقية للإنسان أو - بالأحرى - ألا «يبرح» هذه الطبيعة، وأن يتكرم بتوسيع أفكاره ورؤاه لتتسع لما وراء وقتنا الراهن.
لقد كتبت مجلدات عن موضوع الصراع بين إنجلترا وأمريكا. وقد انخرط في الجدل رجال من كافة مناحي الحياة ومنازلها، بدوافع مختلفة، ونوايا وأهداف متنوعة، ولكن كل هذا كان بلا طائل، وقد انتهت فترة الجدل، وأصبحت الأسلحة هي الوسيلة الأخيرة لتحديد مصير هذا الصراع؛ كان القرار هو اختيار الملك، وقبلت القارة التحدي.
Page inconnue